معظم الأسلحة يكون لها اسم رسمي واسم شعبي يُطلقه عليها مستخدموها، إما كنايةً عن قوتها أو عن حجمها أو غيرهما. إلا أن سلاحًا واحدًا نسج حول نفسه العديد من أسماء الشهرة، رغم أن اسمه الأصلي مرعب بما يكفي. الخراب الصامت، وحدائق الشيطان، وحقول الموت، والقاتل الخفي، وغير ذلك الكثير من الألقاب التي تصف في النهاية الألغام الأرضية.

رعبها الخاص لا يأتي من قوتها التدميرية فحسب، بل من احتفاظها بالسر لعقود طويلة. سر أعدادها، فلا أحد يعرف أعداد الألغام الموجودة لدى الدول، المزروعة بالفعل أو التي لم تُستخدم بعد. كما أنه لا أحد، سوى من زرعها، يعرف مكان زراعتها. المأساة أن لحظة اكتشاف مكان اللغم، واللحظة التي يُفشي فيها اللغم سر صاحبه، يأتي العقاب فوريًّا بالقتل أو التمزق وفقد الأطراف، لمن تجرأ واقترب أكثر من اللازم.

رغم بدائية الألغام وسط آلاف الأسلحة المتطورة والفتاكة التي يصنعها الإنسان باستمرار، فإنها تظل واحدة من أقسى أفكار العقل البشري. انتشارها وحصدها لأرواح الأبرياء يجعلها أسوأ من القنبلة الذرية في الناحية التدميرية والأخلاقية. هذا الوحش صنعه الإنسان في القرن الثالث عشر الميلادي. معارك قوية قادتها أسرة سونج الصينية ضد المغول. كانت الفكرة بسيطة جدًّا، حشو قذائف بالبارود وإلقائها على الأعداء لتنفجر.

استمرت هذه الفكرة قرابة 100 عام حتى وصلت الفكرة إلى أوروبا. هناك فكَّر بيدرو نافارو، مهندس عسكري وبحار إسباني، ماذا لو وضعنا القذيفة في الأرض حتى يأتي إليها العدو بدلًا من إلقائها عليه. شاعت الفكرة، حتى وصلت إلى الألمان. صمويل زيمرمان التقطها في القرن 16 ليطوِّر من أدائها أكثر، ويجعل حساسيتها أكبر. ثم تتابعت التحسينات عبر العقود. كلها تدور حول مبدأ واحد، صناعة اللغم بأرخص الأسعار وأبسط الأدوات لإنتاج أكبر قوة تدميرية ممكنة.

أمريكا صاحبة براءة الاختراع

المؤرخ الألماني فرير فون وصف لغم القرن 18 بأنه كان يتكون من وعاء خزفي مليء بشظايا زجاجية ومعدنية مغروسة في الطين. وظل هذا هو الشكل الأساسي للألغام لفترة طويلة. حتى أتت الحرب الأهلية الأمريكية لتحصل على براءة اختراع الألغام كما نعرفها الآن.

جابريل رينز، خريج الأكاديمية العسكرية الأمريكية، وعبقري الكيمياء والمدفعية. بدأ في وضع شمع العسل ليخفي به فتيل اللغم المغطى بالنحاس، وعند تلامس الفتيل عند الوقوف عليه مع مادة الاحتكاك للقذيفة المدفونة ينفجر اللغم. أو عندما يقوم جسم بتحريك الخيط أو السلك المتصل باللغم، ينفجر اللغم أيضًا.

عام 1862 زرع رينز ورجاله آلاف الألغام في طريقهم. وأثناء انسحاب جيش الاتحاد الأمريكي كانت الأشباح في انتظارهم. موت بالجملة لفرسان جيش الاتحاد وخيولهم. وضع الأمريكيون الألغام في أكياس الدقيق، وقريبًا من مكاتب التليغراف، وفي السجاد الملفوف، وبالقرب من الآبار ومصادر المياه.

كانت آثار الألغام بشعة لدرجة أن جنرالات الجيش الأمريكي ترددوا في استخدامها، لكنهم مع طول أمد الحرب لجئوا إليها. كذلك فعل البريطانيون، لكن ترددهم اختفى حين رأوا أنهم سوف يستخدمونها ضد سود البشرة، الثورة المهدية في السودان. فاستخدموها في حصار الخرطوم عام 1884 و1885.

اللغم للإصابة لا القتل

أتت الحرب العالمية الأولى والثانية لتزيد من انتشار الألغام. فاحتلت مكانة متصدرة بين الأسلحة الفتاكة. وأصبحت فنلندا هى الدولة الأكثر استخدامًا للإلغام لإبطاء الجيش السوفيتي الضخم عن التقدم. هنا كانت الحاجة سببًا في اختراع آخر، الألغام المضادة للدبابات. لكن كان حجمها أكبر، ويسهل نزع فتيلها. فأحاطها زارعوها بالعديد من الألغام الأرضية لمنع تفكيكها.

رغم تطور صناعة الدبابات حاليًّا إلا أنها تظل ضعيفة أمام الألغام البدائية المضادة للدبابات. فرغم التحصين القوي لدرع الدبابة، وحتى لو لم يؤثر عليه اللغم. فاللغم سيؤدي في أقل الأحوال إلى قطع الجنزير الذي تسير عليه الدبابة، ما يُخرجها من الخدمة حتى وصول الإمداد والدعم. وهو ما يستغرق وقتًا غير محدد في حالة المعارك الدائرة.

الشيطان يسكن في التفاصيل، وهكذا كانت الألغام. فالهدف الأول للألغام لم يكن قتل الضحية، بل إصابتها فحسب. لأن الجندي المصاب يمثل عبئًا أكبر على جيشه من الجندي الميت. سيتركون الميت خلفهم، أما المصاب فيجب حمله وإجلاؤه من ساحة المعركة. فحسب بعض التقديرات كان يسقط كل عام 26 ألف شخص بسبب الألغام سنويًّا.

كما أن زارعو الألغام حرصوا على ابتكار عشوائيتهم الخاصة. فوجود أي نسق مُتبع في زراعة الألغام سيزيد من فرص العدو في اكتشافها وتفككيها سريعًا. لكن ما لم يدركه هؤلاء أن تلك العشوائية ستضاعف الآثار اللاإنسانية للألغام حتى بعد انتهاء الحروب. فستظل المساحات الشاسعة من صحارى وبلدان دول العالم حقولًا للألغام، لا يمكن استصلاحها ولا زراعتها، ولا السكن حولها.

الزمن ليس في صالح الدول

ولهذا لا يوجد تقدير واحد محتمل للعدد الألغام المزروعة في العالم، وتستخدم كافة المصادر التي تتحدث عن الألغام وصف أنه عدد لا يُحصى. فكل يوم تتكشف حقول مختلفة للألغام في أوروبا وفي أفريقيا. العراق حاليًّا أكثر الدول احتواءً للألغام، فقد زُرع فيه ملايين الألغام من الحرب العراقية الإيرانية، وحرب الخليج، وفترة احتلاله من الولايات المتحدة الأمريكية.

الولايات المتحدة وكوبا، الدولتان الوحيدتان في نصف الكرة الغربي، اللتان لم نوقعا على معاهدات حظر صناعة واستخدام الألغام عام 1997. وقد وقع على تلك الاتفاقيات قرابة 162 دولة. ووجهت الدول جهودها لعمليات البحث عن تقنيات تساعد على اكتشاف وتفكيك الألغام دون خسائر في الأرواح. مثل الروبوتات والليزر والطائرات المسيرة والرادار وغيرهم. لكنها تظل تقنيات شديدة التكلفة والتعقيد، ويقتصر استخدامها على الدول المتقدمة فحسب.

الزمن ليس في صالح الدول التي تحتوي على ألغام. فالألغام الأرضية مثلًا مصممة للانفجار إذا مر عليها شخص وزنه 80 كليوجرامًا كحد أدنى. لكن بفعل الزمن وعوامل التعرية تزداد حساسية اللغم فينفجر عند مرور أي جسم وأي وزن عليه. ما قد يؤدي لانفجار لغم إذا وقف عليه طائر، أو اصطدمت به صخرة. كما أن أماكن الألغام قد تتغير، فيمكن للسيول والعواصف القوية اقتلاع اللغم ونقله إلى مكان مختلف. ما يضع صعوبة في تحديد بداية ونهاية حقل الألغام.

العراق حتى الآن معلوم أن به 20 مليون لغم، 7 ملايين لغم منها في إقليم كردستان. العديد من تلك الألغام زرعتها حكومة صدام حسين نفسها. كما توجد عشرات الآلاف من الألغام في سوريا واليمن. ففي الأخيرة 55% من الأطفال الذين يسقطون ضحايا في الحرب يسقطون جراء انفجار لغم فيهم. كما تقول التقارير الدولية إن اليمن شهد أكبر عملية زرع للألغام في العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

مأساة مصر والألغام

مصر والألغام قصة فصولها طويلة من المآسي. مساحات مهولة من سيناء والصحراء الغربية جرى تلغيمها، وزُرع فيها 17.5 مليون لغم على مساحة ربع مليون فدان. وأتت الحروب المصرية الإسرائيلية لتضيف 5.5 مليون لغم في سيناء والصحراء الشرقية. لتصبح بذلك مصر أكثر دولة في العالم تلوثًا بالألغام. فالعالم يحتوي في أوسط التقديرات 110 ملايين لغم مزروع حتى الآن، تحتوي مصر وحدها منها على 23 مليون لغم.

نجحت القوات المسلحة المصرية عبر عقود من العمل الدءوب في تحديد مكان والتعامل مع قرابة 20 مليون لغم، منذ عام 1995، لكن تظل الألغام الباقية كافية لجعل مصر في صدارة الدول الملوثة بالألغام. إلا أن جهود أي دولة منفردة لا تكفي، بسبب تغير أماكن الألغام، والتعقيد الشديد اللازم لإبطال مفعولها، والتكلفة العالية لتشغيل وصيانة كاسحات الألغام. خاصة أن الدول التي زرعت الألغام أعلنت أنها لا تملك، أو فقدت، العديد من خرائط أماكن زراعة الألغام.

يظل المجهود الفردي في مواجهة الألغام فعلًا غير مُجدٍ، فالتكاتف الدولي هو الأهم والأقدر على تطهير مناطق شاسعة هُجرت بسبب الألغام. لكن يبدو أن دول العالم منشغلة بتقنيات أخرى لزراعة الألغام لا تفكيكها. فمثلًا روسيا كشفت عن نظام زاملاداليا، هو عبارة عن سيارة تشبه قاذفة الصواريخ. لكنها تُطلق رشقة من الألغام بدلًا من الصواريخ، تلك الرشقة تتوزع على مدى من 5 إلى 15 كيلومترًا، وتسقط منزرعة في الأرض.

ثم تعيد شحن ذخيرتها لتطلق رشقة أخرى. وتقول روسيا أإنها تلتزم بالقانون الدولي فيما يتعلق بهذه النقطة، فقد فرض القانون الدولي ضرورة احتواء اللغم على آلية للتدمير الذاتي كي لا يربض في مكانه منتظرًا ضحيته للأبد. لكن حتى التدمير الذاتي الذي يبدو أشد صور الرحمة التي توصل إليها القانون الدولي يظل فعلًا مرعبًا، وتبقى الاحتمالية أن يفتك اللغم بالأبرياء، كل ما في الأمر أنه سيفتك بهم الآن وليس بعد عدة عقود.