كتبت الفليسوفة الأمريكية سوزان لانجر في مقدمة ترجمتها لكتاب أرنست كاسيرر «اللغة والأسطورة»، تقول:

أن الموجِّه المعرفي الذي قاد كاسيرر هو إدراكه أن اللغة بوصفها أداة العقل الأولى، تعكس ميل الإنسان لصنع الأسطورة أكثر من ميله للعقلنة والتفكير المنطقي، فاللغة التي هي ترميز للفكر، تعرض نمطين مختلفين تمامًا من الفكر، الذي هو في كلتا الحالتين فكر قوي وإبداعي. ويبدأ ذكاء الإنسان مع التصور، وتبلغ عملية التصور أوجها في التعبير الرمزي.

يقصد كاسيرر بالشكل أو التعبير الرمزي، الطاقة والقدرة الذهنية، التي تسمح بالتأليف بين محتوى دلالي ذهني مع علامة محسوسة متحققة، حيث ينسجم المحتوى الذهني – جوانيًا – مع هذه العلامة. وبهذا المعنى، فإن اللغة والنسق الأسطوري الديني والفن تتمظهر كلها في أعيننا بوصفها أشكالا رمزية خاصة.


ارتقاء الأفكار الدينية

يقوم الفيلسوف الألماني أرنست كاسيرر في كتابه «اللغة والأسطورة»؛ بتسليط الضوء على بعض الدراسات في تاريخ اللغة والدين، والتي تتبع ارتقاء المفاهيم اللاهوتية عن طريق متابعة أسماء الآلهة وألقابهم. وتُقسّم هذه الدراسات الأطوار الدينية إلى ثلاثة مراحل أساسية؛ تتّسم أول مرحلة من هذه المراحل وهي تُعدّ أقدم الأطوار الدينية، بخاصية توليد «آلهة مؤقتة»؛ وهي كائنات لا تُشخِّص أيّ قوة من قوى الطبيعة؛ بل هي شيء فوري خالص، سريع الزوال، يُولّد محتوى عقليًا ويخفيه. فكل انطباع يتلقاه الإنسان وكل رغبة تعتلج في داخله، وكل خطر يهدده؛ يمكن أن يؤثر فيه دينيًا، خالقًا إلهًا مؤقتًا، ليس بوصفه قوة تكشف عن نفسها هنا وهناك وفي كل مكان، بل بصفته شيئًا لا يوجد إلا هنا والآن!

على مستوى أعلى قليلا من هذه القوى الإلهية المؤقتة – الناشئة من انفعالات ذاتية – نجد سلسلة جديدة من الآلهة وهي لا تنشأ عن انفعالات تلقائية، بل من فاعليات منظمة، هذه «الآلهة الخاصة» ليست ذات دلالة عامة، فهي لا تتخلل الوجود في كامل عمقه ونطاقه؛ بل تتحدد في مقطع منه، ولكنها في عالمها الخاص تحظى بالدوام وبشيء من العمومية، كالإله “أوكاتور” مثلا، فهو إله تمهيد التربة، ليس لسنة محددة أو لحقل معين؛ بل على العموم، وتستدعيه الجماعة بأسرها سنويًا كمُعين لها وحامٍ.

هذا النوع من الألوهية الخاصة أو الوظيفية تطور تطورًا واسعًا ومتنوعًا في الديانة الرومانية، فلكل ممارسة إلهها الخاص، من أول حفر التربة للحراثة، وأفعال البذار وإزالة الأحراش… إلخ. وما من عمل من هذه الأعمال يمكن أن يُفلح ما لم يكن إلهه الخاص قد استُدعي على نحو مقرر وباسمه الصحيح. وهذه الآلهة تمثل طورًا ضروريًا لا بد أن يجتازه الوعي الديني لكي يصل إلى إنجازه النهائي؛ أي تصور الآلهة الشخصية، والشرط الضروري لتكوين الآلهة الشخصية هو عملية لغوية تاريخية.

فبعد تصور الإله الخاص الوظيفي، يتم تطويقه باسمه الخاص، ولا بدّ أن يُشتق هذا الاسم من الفاعلية التي تسببت في إحداث ذلك الإله، وما دام هذا الاسم يُفهم ويؤخذ بمعناه الأصلي الحرفي؛ فإن حدود معناه هي حدود قوى الإله. . والإله يظلّ محتفظًا من خلال اسمه بذلك الميدان الضيق الذي خُلق من أجله، أمّا إذا فُقد الاسم من خلال تغيرات صوتية أو هجران لجذره اللفظي، تصبح الكلمة اسم علم؛ لا توحي بفكرة الفاعلية المفردة التي كانت للإله الخاص، بل تُوحي بما يُوحي به أيّ اسم علم انساني، أيْ بتصوّر شخصية.

وهكذا يكون قد تم إنتاج كائنًا جديدًا، له قانونه الخاص، يبدو مكتسيًا باللحم والدم، إذا صحّ التعبير. . فيكون قابلًا للتصرف والمعاناة شأنه شأن المخلوق الإنساني. وأسماء الآلهة المتعددة التي كانت في الأصل تدل على آلهة خاصة مميزة، تنصهر حينئذ في شخصية واحدة، ويتلاقى بعضها مع بعض، فتصير ألقابًا لهذا الكائن؛ تعبر عن مظاهر مختلفة من طبيعته وسلطته ونطاقه.


اللغة والتصور

يُشكل العقل المفاهيم بأخذه عددًا معينًا من الموضوعات التي تمتلك خواصًا مشتركة، أي أنها تتطابق في بعض النواحي، ويجمعها معًا ويستخلص شيئًا من الفروق والاختلافات بينها وبالتالي يحتفظ بالمتشابهات ويتأمّل فيها، فتتشكل في الوعي فكرة عامة عن فئة معينة من الموضوعات، فالمفهوم هو فكرة تُمثل الخواص الجوهرية للموضوعات قيد الاهتمام. فصياغة مفهوم عام تفترض وجود خواص محددة، وبفضل تلك الخصائص الثابتة يمكننا معرفة؛ ما إذا كانت الأشياء متشابهة أم متباينة، متطابقة أم غير متطابقة؛ وهنا يتساءل كاسيرر: كيف تستطيع هذه الفروق أن توجد قبل اللغة، ألسنا بالأحرى لا ندركها إلا من خلال اللغة، عن طريق التسمية؟

يفترض كاسيرر أنه من دون تحديد لشكل المفاهيم اللغوية الأولية وميزتها، لا يمكننا تطوير نظرية منطقية خالصة عن التصور، لأن جميع مفاهيم المعرفة النظرية تُشكّل مجرد طبقة عليا من المنطق تقوم على طبقة سفلى؛ وهي مفاهيم منطق اللغة، فقبل الشروع بالعمل العقلي في إدراك الظواهر وفهمها، لا بدّ أن يكون عمل التسمية قد سبقه، لأن هذه العملية تُحوّل عالم الانطباع الحسي، والذي تمتلكه الحيوانات أيضًا، إلى عالم عقلي، أي عالم من الأفكار والمعاني.

وبدلًا من مقارنة الأشكال اللغوية الأساسية بأشكال التصور المنطقي، يتم مقارنتها بأشكال التخيّل الأسطوري، فالتصور اللغوي والأسطوري يُجمعان في مقولة واحدة تقابل شكل الفكر المنطقي، والذي هو على النقيض منهما. إذ أن التفكير النظري، يكمن بالأساس في تحرير محتويات التجربة الحسيّة من الانعزال الذي توجد فيه، ويجمعها مع تجارب حسية أخرى، ويقارن بينهم، ثم يسلسلهم في نسق محدد ضمن سياق يشمل الكل. . فالتفكير النظري يتقدم «استطراديًا»، بمعنى أنه يعامل المحتوى المباشر كنقطة انطلاق فحسب، ويُوثّق الانطباعات المتعددة في تصور واحد، ومنظومة واحدة مغلقة لا يوجد فيها نقاط منعزلة، بل جميع أعضائها تترابط تبادليًا، ويشير أحدها إلى الآخر ويوضحه.

أما النسق الأسطوري واللغوي فلا يعملان بهذا الشكل السابق، فوظيفتهما الأولى لا تكمن في مقارنة التجارب وانتقاء بعض الصفات المشتركة؛ كما يقوم التفكير النظري المنطقي، بل إن وظيفتهما تكمن في تكثيف تلك التجارب، واستقطارها ضمن نقطة واحدة، ويعتمد ذلك التكثيف أو التركيز على اتجاه اهتمام الذات، ومنظورها الغائي الذي تتصور منه تلك التجارب. . فكل ما يبدو مهمًا لرغباتنا وإرادتنا، يتلقى طابع «المعنى» اللفظي، والتمييزات في المعنى هي المطلب الأول لعملية التكثيف المشار إليها.

ومن خلال الرموز أو المفاهيم اللغوية لا يتم عقد التمييزات فحسب، ولكن يتم تثبيتها في الشعور والوعي أيضًا، فما خلقه الذهن وما اصطفاه من عالم الوعي، لا يتلاشى حين تَسِمه الكلمة المنطوقة وتُضفي عليه شكلًا محددًا. . فالتعرف على الوظيفة يسبق التعرف على الوجود، ويتم تمييز مظاهر الوجود وتنظيمها من خلال ما يوفره الفعل، فنجد في اللغات التي تُسمى بدائية؛ ما يدعم المبدأ القائل «إن نسق الألقاب لا يعتمد على المشابهات الخارجية بين الأشياء والأحداث»، فمن الممكن أن نجد أشياء مختلفة تحمل الاسم نفسه، وتُدرج تحت المفهوم نفسه، لأنها تتمتع بالدلالة «الوظيفية» نفسها. . فنجد عند بعض القبائل الهندية كلمة واحدة بعينها لـ «الرقص» و«العمل»، فما دام الرقص والعمل يؤديان في الجوهر الغرض نفسه؛ في توفير سبل العيش والرزق فإنهما ينصهران في مفهوم لغوي واحد.

وهنالك مثال آخر يوضح الدور الذي تلعبه «الدلالة الوظيفية»؛ ففي لغة «كاتي» المستعملة في غينيا الجديدة، توجد كلمة «بيلين»، والتي تدل على نوع من العشب بسيقان وجذور صلبة، تنحشر في الأرض بقوة كالمسامير، ويُعتقد أن هذه العشبة تثبت الأرض عند حدوث الزلازل! وحين أحضر الأوروبيون المسامير لأول مرّة وصار استخدامها معروفًا على نطاق واسع، استخدم السكان الأصليون تلك الكلمة -بيلين- لتسمية المسامير والتي تتشابه وظيفيًا مع عشبة بيلين!

يؤكد كاسيرر على أن الأسطورة والدين يؤديان أدوارًا متشابهة في ارتقاء الفكر من التجربة المؤقتة إلى التصورات الباقية، ومن الانطباع الحسي إلى الصياغة، وأن وظائفهما الخاصة مشروطة تبادليًا، فهما يجتمعان ويتعاونان لتهيئة التربة لتأليفات كبرى ينبع منها خلقنا العقلي ونظرتنا الموحدة للكون.


سحر الكلمة

يؤكد كاسيرر على أن الأسطورة والدين يؤديان أدوارًا متشابهة في ارتقاء الفكر من التجربة المؤقتة إلى التصورات الباقية، ومن الانطباع الحسي إلى الصياغة

في الوعي اللغوي والوعي الأسطوري تبدو البنى اللفظية ككيانات أسطورية، فالكلمة نوع من القوى الأولية التي يتولد فيها الوجود بأسره والفعل برمته. يمكننا أن نجد ذلك الموقف السامي للكلمة في جميع نشآت الكون الأسطورية، فنجد مثلًا ضمن النصوص التي جُمعت من هنود «ويتوتو»؛ نصًا يمثل النظير المباشر للفقرة الأفتتاحية من «أنجيل يوحنا»، يقول النص:

في البدء، أعطت الكلمةُ الأبَ أصله!

ويعرض تاريخ الأديان أمثلة عديدة لحالة توقير «الكلمة»، حيث تبدو «الكلمة» متحدّة بسيّد الخليقة الأسمى، إما بوصفها الأداة التي يستخدمها، وإما باعتبارها المصدر الرئيسي الذي اشتق منه هو نفسه ككل كائن آخر، فنجد في الديانة المصرية القديمة أنّ إله الخلق «بتاح» جاء بكل ما في الوجود؛ عن طريق الفكر الذي في قلبه والأمر على لسانه. وفي الهند، نجد أن قوة «الكلمة المنطوقة» (Vặc) تتعالى فوق قدرات الآلهة أنفسها.

على الكلمة المنطوقة تعتمد الآلهة جميعًا، والوحوش والناس جميعًا، ففي الكلمات تعيش المخلوقات كلها، لأن الكلمة لا تفنى، وهي أول وليد للقانون الأبدي، وأمّ الفيدات، وسرّ العالم الإلهي.

ففي النسق الأسطوري، تُعطي معرفة «الاسم» لم يعرفه سرًا يتجاوز حتى وجود الإله وإرادته؛ فنجد في الأسطورة المصرية القديمة، أن «إيزيس» خدعت الإله «رع» وأقنعته أن يُفشي لها اسمه الحقيقي، فاكتسبت من خلال امتلاك الاسم القوّة عليه وسيطرت على جميع الآلهة الأخرى. ويقول جوزيف فاندريس في كتابه الأشهر «اللغة»:

في الواقع أن معرفة الإنسان للأشياء بأسمائها؛ إمساكٌ لها في قبضته؛ وإذن فعلم المفردات علامة القوّة. لذلك كان سحرة الأثاردافيدا المطببون يقولون في رقاهم: أيتها الحمى! لن تفلتي منّي؛ فإني أعرفك باسمك!.

يكتسب الاسم في الوعي الأسطوري قوى سحريّة، تمكنه من أن يؤدي وظيفة ما نيابة عن حامله، ويُعدّ النطق به مساو لاستدعاء شخص ما إلى الوجود، والإله الخاص لا يعيش ولا يتصرف إلا في النطاق الجزئي الذي يمنحه له اسمه، والكلمة أو اللغة في النمط الأسطوري تمثل وجود وقوّة جوهرية قبل أن تكون آلة الذهن، فوظيفتها الأساسية تكمن في بناء وتطوير واقع روحي، وفي كتاب «الخروج إلى النهار»، المسمى كتاب «الموتى»، نجد الترنيمة الشهيرة التي تصف يوم البعث، فتقول:

انهضْ، فلن تفنى، لقد نوديت باسمك، لقد بُعثت!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. اللغة والأسطورة – إرنست كاسيرر، ترجمة : سعيد الغانمي.
  2. اللغة – جوزيف فندريس، تعريب : عبد الحميد الدواخلى، محمد القصاص.
  3. فلسفة الأشكال الرمزية – عبد القادر فهيم.
  4. متاهات الوهم – يوسف زيدان.