في طريق عودته المسائية المتأخرة بعد يومٍ طويلٍ من العمل المضني، وبينما يزحف النوم رويدًا رويدًا، حتى تغلغل في خلايا مخه، كان مركز الخيال في عقله لا يزال في قمة نشاطه، حيث كان ينقل له بثًّا مباشرًا من مطبخ زوجته لفعاليات إعداد العشاء الذي تنتظره عصافير بطنه على أحر من الجمر. هل هو المحشي سيد المائدة، أم المكرونة بالبشاميل سلطانة البطون؟ هل يكون كليهما؟ شعر بلتراتٍ عديدة من العصارات الهاضمة تندفع كالشلالات داخل جوفه.

ما إن عبَرَ باب الشقة، حتى وجد نفسه فجأة في المطبخ، وقد رفع الغطاء عن 3 أوانٍ للطبخ على الموقد دفعةً واحدة، وبدأ يلتقط قطعة من هنا، وملعقة من هناك، وشريحةً من هنالك، غير ملتفتٍ لتوسلات زوجته المحمومة بأن يصبر دقائق خمسة، لتحضر له المائدة. استمرت الملحمة لأكثر من نصف ساعة، أباد فيها كتائبَ تترى من البروتينات والدهون والنشويات والسكريات، بلا شفقة.

لكن لماذا الآن فجرًا هو في المستشفى، راقدًا على سريرٍ بقسم الطوارئ، بينما تنهمك الممرضة الناعسة في تجهيز محلول وريدي من أجله؟ لقد انفجرت قنبلة حارقة في معدته المسكينة بعد دقائق قليلة من نومه. هكذا كان الوصف الذي أدلى به للطبيب بينما كان يتلظى ألمًا.

لم يتصور أبدًا أن تفعل به وجبته الأليفة الحبيبة كل هذا، وأن تجعله يبيت ليلة عصيبة، تغمرها رائحة المشافي التي يكرهها، ويقصف الطبيبُ فيها أذنَه بمصطلحات من قبيل (قرحة معدية، نزيف، منظار، محاليل، نقل دم … إلخ ).


إن كان متأخرًا فتلك مصيبةٌ، وإن كان ثقيلًا أيضًا فالمصيبة أعظم

أصبح معلومًا لدى الكثيرين، حتى من عامة الناس غير المتصلين بشكلٍ مباشرٍ بالوسط الطبي، أن وجبة العشاء ضارة بالصحة، أو على الأقل إثمُها أكبر من نفعِها، ورغم هذا، فإن أغلبنا لا يستطيع التخلص منها، خاصة من يعملون إلى وقتٍ متأخر، فلا يعودون إلى منازلهم إلا عند ساعات النوم، فيتناولون عشاءَهُم، ثم يخلدون إلى النوم. أو من يضطرون للعمل في دوريات السهر، وما يصاحبه من جوعٍ شديد، يدفع إلى تناول وجبة عشاءٍ غالبًا ما تكون دسمة.

والقاعدة الأساسية أنهُ كلما تأخَّر وقت تناول الوجبة الأخيرة في اليوم، وكلما زادت كمية المأكولات، ودسامتها، كلما كانت أضرارها القريبة والبعيدة المدى أشد، ولهذا يكره الطب وجبة العشاء، وإن أحبَّها كثير من الأطباء، خاصة الساهرين منهم.

الوزن الزائد والسمنة

أشهر أضرار العشاء هو زيادة الوزن وحدوث السمنة. دراسات عديدة أكدت العلاقة بين العشاء المتأخر وبين زيادة الوزن. السعرات الحرارية التي تكتسبها في وقتٍ متأخر من اليوم، حيث يقل نشاطك البدني، وبالتالي استهلاكُك للطاقة، غالبًا ما يكون مصيرها هو التخزين على هيئة الدهون المسئولة عن زيادة الوزن.

ولا نحتاج بالطبع لتفصيل الأضرار الصحية التي تكاد لا تعد ولا تحصى للسمنة، من زيادة فرص الإصابة بارتفاع الضغط المزمن، وداء السكري، وأمراض الشرايين التاجية، وارتجاع المريء، والإصابة بالاكتئاب … إلخ.

والعكس صحيح أيضًا، فلا يمكن عمل نظامٍ غذائي ناجح لإنقاص الوزن دون تنظيمٍ جيد للطعام على مدى اليوم، مع تجنب العشاء المتأخر، وأكدت ذلك دراساتٍ علمية موثَّقة عديدة، منها دراسة عام 2017، توصَّلت إلى أنه للتخلص من دهون محيط البطن (الكرش والأجناب) لابد من تقسيم الطعام إلى 4 وجباتٍ صغيرة، أهمها وجبة إفطار مبكرة، ووجبة غداء في منتصف اليوم، مع تجنب تناول الطعام مساءً.

اقرأ أيضًا: دليلك لحمية غذائية غير مؤلمة.

الحموضة ومضاعفاتها

معدتنا أشبه بالكيس، ولها مدخل من جهة المريء تحرسه عضلة تسمى عضلة الفؤاد، تمنع ارتجاع الطعام من المعدة إلى المريء والبعوم، ولها مخرج من جهة الاثنى عشر تحرسه عضلة البوَّاب. ولا بد أن يمكث الطعام بعض الوقت داخل المعدة لتقوم بهضمه عبر عصاراتها وأحماضها وانقباضاتها العضلية القوية.

عندما نتناول وجبة ثقيلة، فإن المعدة تكتظ بالطعام عن آخرها، ويتسبب الطعام المختزن بداخلها في مطِّ جدرانِها، مما يقلل كفاءتها في عملية الهضم، فتتسبب في زيادة المدة التي تحتاجها المعدة لهضم الطعام، وكذلك كمية الأحماض والعصارة التي تفرزها جدران المعدة للتعامل مع تلك الحالة الطارئة. يتسبَّب هذا الاختزان للطعام في شعورنا بالثقل والتخمة.

فإذا كانت تلك الوجبة هي العشاء، وخلدنا بعدها مباشرة إلى النوم، فإن ضغط الطعام في وضع النوم على عضلة الفؤاد يصعب من قيامها بوظيفتها في منع الارتجاع، حتى ولو لم تكن العضلة ضعيفةً بالأساس، فتنفتح فتحة الفؤاد رغم انقباض عضلتها، ويرتجع الطعام والأحماض إلى المريء والبلعوم والفم، فيسبب ألمًا شديدًا حارقًا، كافيًا لإيقاظ الشخص من النوم، بل قد يدفعه إلى طلب خدمة طبية عاجلة لإعطائه مضادات الحموضة الوريدية.

وتكرار مثل هذا الارتجاع بشكلٍ شبه يومي على مدى سنين قد يؤدي إلى تغييرات خطيرة في خلايا جدار المريء، قد تتطور إلى حدوث السرطان.

اقرأ أيضًا: الحموضة .. كيف نهزم ألم الليل ونار الصباح؟

الربو الشعبي

تلك النقطة مرتبطة بشكلٍ أو بآخر بالنقطة السابقة. في كثير من الأحيان يتزامن وجود الربو الشعبي مع ارتجاع المريء، ويعتبر الأخير من أشهر محفزات حدوث الربو الشعبي الحاد، خاصةً أثناء الليل، حيث تسبب الأحماض المرتجعة عبر المريء إلى البلعوم، ومنه إلى الحنجرة والجهاز التنفسي، حدوث التهاب، وتحسُّس للشعب الهوائية، التي تكون أكثر حساسية في مرضى الربو الشعبي، فتسبب السعال الشديد، وقد تؤدي إلى نوبة ربو شعبي حادة وضيق شديد في التنفس.

جلطات شرايين القلب

في دراسةٍ خطيرة، صدرت نتائجها منذ أيام، ونُشرت في المجلة الأوروبية للوقاية من أمراض القلب، وُجِد أن الأشخاص الذين لا يتناولون وجبة إفطار مشبعة، بينما يتناولون عشاءً متأخرًا، تتضاعف 4-5 أمثال لديهم فرص حدوث الوفاة نتيجة السكتة القلبية، أو على الأقل حدوث نوبة قلبية جديدة في الشهر الأول بعد حدوث جلطة في شريان القلب، واحتشاء بعضلة القلب.

أوصى الباحثون بناءً على تلك النتيجة، للجميع، وبالأخص لمرضى الشرايين التاجية للقلب، بالحفاظ دائمًا على تناول وجبة إفطار معتبرة وصحية، تقدم حوالي ثلث الحاجة اليومية من السعرات الحرارية، وكذلك الحرص على وجود فاصل أكثر من ساعتين بين آخر وجبة وموعد النوم.

ومن المعلوم طبيًّا أيضًا أن تناول قدرٍ كبير من الطعام دفعةً واحدة، خاصة في وجبة العشاء، يدفع جانبًا كبيرًا من الدم للاحتشاد في الجهاز الهضمي للتعامل مع الكم الكبير من الطعام، والذي يحتاج إلى الهضم والامتصاص، مما يسبب انخفاضًا نسبيًّا في ضغط الدم في باقي أجزاء الدورة الدموية، ومنها الشرايين التاجية المغذية للقلب، مما قد يسبب لدى مرضى الشرايين التاجية قصورًا في التغذية الدموية للقلب، ما يسبب حدوث آلام الصدر، وقد يتطور الأمر في بعض الحالات إلى حدوث جلطة بأحد الشرايين التاجية.

والسرطان أيضًا

أظهرت دراسة إسبانية حديثة، أشرف عليها معهد برشلونة للصحة، نتائج مثيرة بخصوص العلاقة بين وجبة العشاء والإصابة بالسرطان. حيث تبيَّن أن من يتناولون عشاءَهم قبل التاسعة مساءً، أو قبل ساعتيْن على الأقل من موعد النوم، يكونون أقل عرضة للإصابة بسرطانيْ الثدي والبروستاتا بنسبة 20%. رجَّح الباحثون أن للأمر علاقة بانتظام الساعة البيولوجية، وبالتالي انتظام إفراز العديد من الهرمونات الحيوية في الجسم، لدى الأشخاص الأكثر استقرارًا وطبيعيةً في عاداتهم في الطعام والنوم.


وجبات عشاءٍ مشبعة وصحية

إن كان عملك يحتِّم عليك السهر، وما يصاحبه من جوعٍ شديد، فهناك العشرات من الاقتراحات الجيدة لوجبات عشاءٍ كثيرة الفائدة، وقليلة التكلفة من جهة السعرات الحرارية، والآثار الصحية الجانبية. على أن تحاول أن يكون الفاصل بين آخر طعامك، وموعد النوم ساعتين على الأقل، وأن تتناول أقل كمية مشبعة منها.

في مقدمة الأكلات المحبوبة الصالحة لعشاءٍ صحي، يأتي بالطبع الفاكهة، خاصة التفاح والموز والبرتقال والفراولة والخوخ والكمثرى، مع عدم الإكثار منها حتى لا نتعرض للحموضة وارتجاع المريء. هناك أيضًا البيض، خاصة المسلوق، وهو من أكثر الأغذية فائدة وإشباعًا، رغم انخفاض السعرات الحرارية التي يقدمها.

لدينا أيضًا في القائمة أطعمة من العيار المشبع، والغنية بالبروتين، مثل صدور الدجاج المشوية، أو اللحم البقري الأحمر قليل الدهون. ولا ننسى بالطبع الخضروات بشتى أنواعها، لاسيَّما الخيار والجزر والبروكلي والطماطم والفلفل والقرنبيط والخس والمشروم. وكذلك البقوليات كالفول والفاصولياء والعدس.

فإذا انتقلنا إلى الأطعمة البحرية، فحدِّث ولا حرج عن مدى مناسبتها لهذا الأمر. الأشخاص الأكثر تناولًا للأسماك أطول عمرًا كما ذكرت بعض الدراسات، وأنسب الأنواع لعشاءٍ خفيف هي السالمون والسردين والجمبري غير المقلي.

أما الحبوب، فلها مساحتها أيضًا، خاصة الشوفان المغذي والمُشبِع رغم ارتفاع سعراته الحرارية، وخبز دقيق القمح الكامل (السن) عند تناوله باقتصاد. وبالنسبة لمحبي منتجات الألبان، فالزبادي والجُبن واللبن قليلة الدسم تعد اختيارًا جيدًا لعشاءٍ مغذي وقليل التكاليف. أما الزيوت والدهون، فأفضلها على الإطلاق هو زيت الزيتون عالي الجودة.

إذًا فقد تبيَّن من خلال السطور القليلة السابقة أن بإمكاننا أن نجمع بين الصحة ووجبة العشاء، ودون أن نغضب الطب والأطباء.