لطالما حاولت دول مجلس التعاون الخليجي إظهار اتِّفاقها والتفافها حول مواقف مشتركة، كما حاولت الإبقاء على المشكلات والتباينات بعيدةً عن الأنظار داخل الأروقة المُغلَقة، غير أنَّ بعضها يطفو، أو يطفو ما يُنبئ عنها، إلى السطح بين الحين والآخر. وربما كان الخلاف الأكثر وضوحًا ذلك الذي تفجَّر على خلفية التباينات تجاه الربيع العربي وتُوِّج بسحب سفراء الرياض، وأبو ظبي، والمنامة من الدوحة في مارس/ آذار 2014، قبل أن يعودوا لاحقًا قبل انقضاء العام.


معركة النفوذ

http://gty.im/500557114

يتكوَّن الترتيب الإقليمي لمجلس التعاون من ستة بلدانٍ تتشابه في أشياء كثيرة، إلّا أنَّ جميعها لا يملك نفس الطموحات؛ ففي حين تُعَد المملكة العربية السعودية الفاعل الأقوى، والأكبر، واللاعب الأبرز داخل مجلس التعاون الذي يصعب تجاوزه، لما له من ثِقلٍ ونفوذٍ كبيرين بحكم كافة الاعتبارات، تبرز دولٌ أصغر كعُمان المُهادنة، والكويت الهادئة، والبحرين المُنكَفِئة على داخلها المُضطَّرب، ويتبقى لنا الإمارات وقطر. ولطالما كانت للأخيرتين، الثريتين، نزعات للحصول على دورٍ ما، يفوق في بعض الأحيان مقدرتهما، الأمر الذي تسبَّب في أحيانٍ كثيرة بخلق تنافساتٍ ومشاحناتٍ بينهما تحديدًا.

وحقيقة إنَّه يصعب، أو حتى لا يمكن، تجاوز السعودية، تتطلَّب عدم الإقدام على الدخول في مواجهة مفتوحة مع الشقيقة الكبرى، بل محاولة استمالتها للحصول على دعمها، أو على الأقل عدم معارضتها، لتحقيق بعض الأهداف. كانت الإمارات مُدرِكةً لذلك، وعملت على التوصُّل إلى تفاهماتٍ مع الرياض حتى قبل اندلاع الربيع العربي، واتَّضح ذلك تمام الوضوح في حديث ولي عهد أبو ظبي، والحاكم الفعلي على الأرجح للإمارات حاليًا، محمد بن زايد، في إحدى الوثائق التي سرَّبها موقع ويكيليكس،فيقول: «السعوديون ليسوا أصدقائي الأعزاء، وإنما أحتاج إلى التفاهم معهم فقط».

على هذا الأساس حاولت الإمارات تنسيق بعض الملفات مع السعودية، و كوَّنت في سبيل ذلك ما يشبه «اللوبي» داخل دوائر الحكم السعودي، من خلال علاقاتها مع رجال مثل خالد التويجري، رئيس الديوان الملكي للملك عبد الله. وحينما حلَّ الربيع العربي، تشابهت رؤيتا البلدين له على أنَّه خطرٌ في معظمه، لكن كانت هناك بعض المؤشِّرات على موقفٍ أقل حدة من الرياض، يظهر مثلًا في بداية علاقتها مع وصول الرئيس السابق محمد مرسي إلى حكم مصر، ومَنح المملكة بعض المساعدات إلى مصر في عهده، في حين حافظت الإمارات على نهجٍ متشدِّد حيال حكمه على طول الخط، بل وحاولت فرضه على المملكة.

على العكس من ذلك، لم تدرك قطر ذلك إلّا أخيرًا، وبعد أن دفعت ثمنًا باهظًا، بعد خطوة سحب السفراء منها في مارس/ آذار 2014، وذلك على إثر نهجها المُخالِف تجاه الربيع العربي. عُزِلت قطر خليجيًا نتيجة ذلك، ولم تستطع الخروج منها سوى بعد تقديم تنازلاتٍ واضحة؛ تمثَّل أهمها في تعديل خطَّها السياسي، وعلاقاتها مع الإخوان، والسياسة التحريرية لفضائيتها «الجزيرة».

غير أنَّ المشروع الإماراتي تلقّى ضربةً قاصمة مطلع العام 2015 بعد وفاة الملك عبد الله، وتولِّي أخيه سلمان الذي أطاح بـ«اللوبي الإماراتي»، بل وأتى بوليٍ لولي العهد. ولي العهد الآن، محمد بن نايف، الذي تُحيط علاقاته بحُكَّام أبو ظبي علامات استفهامٍ كبيرة بسبب ما قيل إنَّها خلافاتٌ قديمة.

بدت الفرصة سانحة آنذاك أمام قطر، التي تمسَّكت بها بقوةٍ، وظهرت بوادر صفحةٍ جديدة مغايرة مع العاهل الجديد.توالت زيارات أمير قطر إلى المملكة، واستغلت قطر تغيُّر أولويات سلمان، وإعادة تركيزه على مواجهة إيران، ورغبته في تكوين حلف سُنّي مواجه لها، وعملت على التقريب بينه وبين الإخوان المسلمين، وتركيا كذلك، حتي فُتِحت أبواب الرياض أمام أعداء الأمس، الذين كانوا سببًا في محنة العلاقات الخليجية، في مقابل هدوء ملحوظ لنشاط أبو ظبي.

بدأت الدوحة تجني الثمار؛ فتراجعت عن أكثر التنازلات التي قدَّمتها سابقًا، وعادت الجزيرة لتناول «انقلاب مصر»، لكنَّ الثمرة الأهم كانت انتقاد بيانٍ لأمانة مجلس التعاون اتِّهاماتٍ مصرية لقطر بدعم الإرهاب، لكن سُرعان ما حُذِف الموضوع، ونفاه الأمين العام للمجلس، عبد اللطيف الزياني، غير أنَّ الدلالات كانت واضحةً؛ تحوُّلٌ في بوصلة الرياض باتجاه الدوحة؛ فما كان البيان ليخرج دون موافقة، أو عدم اعتراض، السعودية، لكنَّه حُذِف فيما يبدو رضوخًا لضغوطٍ إماراتية.

وبعد مرور نحو العامين، أكَّد بيانٌ جديد للأمين العام نفسه مكاسب قطر، وانتقد زجَّ القاهرة باسم الدوحة في تفجير الكنيسة البطرسية، لكن دون مواربة، ودون حذفٍ أو نفي، هذه المرة، ودون أن تتمكَّن حليفتها الإمارات كذلك من الذود عنها.

وإذا كانت ثمة إشارةٍ تبعث بها تلك التطوُّرات، فبالتأكيد ستكون تحوُّلات القوى التي شهدتها الساحة الخليجية، والنتائج التي أسفرت عنها الجولة الحالية لمعركة النفوذ، والتي خدمت الظروف فيها الدوحة بشكلٍ كبير.


«الجزيرة» .. من جديد

شاركت البحرين في خطوة سحب السفراء، رغم أنَّها لم تشارك السعودية والإمارات مخاوفهما الأساسية من دعم قطر للإخوان مثلًا، بل على العكس تُشرِكهم المنامة في معادلة الحكم، و رفضت تصنيفهم تنظيمًا إرهابيًا، لكن خطوة السحب تلك كانت بمثابة «تجميعٍ» لكل المشكلات التي حظيت بها الدول الثلاث مع قطر.

بالنسبة للبحرين، كانت مشكلاتها تتمثَّل في قضيتين أساسيتين: تغطية الجزيرة لأحداثها، وتجنيس قطر لمواطنيها. فذكر نص بيان سحب السفراء على أنَّ بعض دوافع الخطوة كانت «المحافظة على أمن واستقرار دول المجلس» وعدم الالتزام بـ«المبادئ التي تكفل عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي من دول المجلس».

تسبَّبت الجزيرة منذ انطلاقتها في الكثير من المشكلات لقطر في جوارها الخليجي والعربي، وقبل الربيع العربي، وبعده. وتكرَّر نفس الشيء مع البحرين إبَّان احتجاجات 2011، فرغم أنَّ قطر شاركت ضمن قوات درع الجزيرة التي دخلت إلى البحرين لمواجهة الاحتجاجات، إلّا أنَّ تغطية الجزيرة أثارت غضب البحرين، وخصوصًا بعد عرض الجزيرة الإنجليزية وثائقي «البحرين: صراخ في الظلام»، الذي تناول الاحتجاجات، وهو ما خلَّف ردودًا قوية، جاء أعنفها من وزير الخارجية، خالد بن أحمد، الذي رأى فيه مثالًا على «العداء غير المفهوم».

وإلى جانب ذلك، كانت البحرين تشكو من أنَّ قطر تُجنِّس بعضًا من مواطنيها السُنّة، الأمر الذي أطلق عليه بعض المسؤولين البحرينين «المشروع القطري»،إذ يُمثِّل الأمر مشكلةً بالنسبة للمنامة التي تُعاني تحت وطأة احتجاجات الأغلبية الشيعية، وأعاد كل ذلك الخلافات التاريخية إلى الأذهان من جديد.

لكن عاد السفراء إلى الدوحة، وتعهَّدت، ضمن ما تعهَّدت به من تنازلات، بوقف «الحملات الإعلامية العدائية»، ومنع الجزيرة «من الإساءة إلى أي دولة خليجية»، كما أسَّس الاتفاق الخليجي لـ«تفاهمات بين البحرين وقطر» في ملف التجنيس.

بيد أنَّه مع تراجع الدوحة عن بعض تعهُّداتها بعد ذلك، عادت تغطية الجزيرة للشأن البحريني من جديد لتُعكِّر العلاقات. فنشرت الجزيرة من جديد أخبارًا حول بعض الاحتجاجات، وذكَّرت في أخرى بمطالبات منظماتٍ حقوقية بالتحقيق في قمع اضطراباتٍ، وإفراطٍ في استخدام القوة من جانب الشرطة البحرينية. وجاء الحدث الأبرز خلال القمة الخليجية الأخيرة التي استضافتها المنامة؛ إذ رفضت السماح للجزيرة بتغطيتها في حضور أمير قطر، الأمر الذي سلَّطت القناة الضوء عليه بوضوح، بل ورفعت راية التحدِّي في بيانها، قائلةً إنَّها «ستستمر في تغطية الأحداث والفعاليات التي تشهدها البحرين، ولن تدَّخر جهدًا لنقل الصورة الكاملة».


اتحاد الفُرقة!

لطالما علمنا أنَّ الاتحاد وسيلةٌ لتعزيز القوة، وترسيخ اللُحمة، أمَّا أن يؤدي إلى العكس؟ فهذا ما يبدو أنَّ الحال سيكون عليه في مجلس التعاون.

دعا العاهل السعودي السابق في ديسمبر/ كانون الأول 2011 إلى تخطي مرحلة التعاون إلى «الاتحاد في كيانٍ واحد»، والذي كان فيما يبدو ردَّا على تهديدات الربيع العربي. وفي الحقيقة، تُعَد قضية «الاتحاد الخليجي» قضيةً قديمةً جديدةً، وليست وليدة تلك الدعوة؛ إذ نصَّ النظام الأساسي للمجلس بوضوحٍ على أنَّ هدف المجلس هو الوصول بدوله إلى «وحدتها». لكنَّ خطى المشروع بطيئةً، هذا إذا ما اعتبرناها موجودةً بالأساس، وتواجهه العديد من المشكلات، لكنَّ أبرزها على الإطلاق هو الرفض العُماني القوي.

وينقسم المجلس فيما يتعلَّق بالاتحاد إلى ثلاثة محاور: المحور المُتحمِّس، وتمثِّله السعودية والبحرين، وهما متحمِّستان للفكرة بقوةٍ. والمحور الرافض، وتُمثِّله عُمان، وهي رافضةٌ للمشروع تمامًا، وترى أنَّ المجلس غير مؤهَّل له بعد، بل وتُهدِّد علنًا بالانسحاب من مجلس التعاون في حال إقامته، وترى فيه أداةً لصراعٍ لن تكون جزءًا منه. وأخيرًا، المحور الرمادي، ويضم باقي أعضاء المجلس، وهم إمَّا أعلنوا موافقاتٍ طغى عليها الحذر كقطر و الكويت، أو آثرت ألّا تعلن موقفًا حياله كالإمارات.

والرفض العُماني، شأنه شأن الدعوة للاتحاد، قديمٌ؛ إذ أعلن السلطان قابوس 1986 أنَّ الرؤية العُمانية للمجلس هي أنَّه مجلسٌ للتعاون وليس «اتحادًا». وبشكلٍ عام، تُظهِر مواقف السلطنة أنَّها تحاول النأي بنفسها عن كل ما من شأنه أن يؤثِّر على نهجها المُهادِن، بل وتنأى عن دول المجلس بشكلٍ عام. فعُمان تحتفظ بعلاقاتٍ طيبة للغاية مع إيران، وساهمت في إتمام الاتفاق النووي معها دون علم شقيقاتها الخليجيات، ورفضت المشاركة في عاصفة الحزم، أو في التحالف الإسلامي الذي تقوده السعودية، إلّا مؤخرًا، كما تنحو نحوًا مغايرًا في اليمن، وسوريا، والتزمت الحياد إبَّان أزمة السفراء. وإلى جانب ذلك يتجنَّب قابوس حضور قمم المجلس منذ 2011، في حين زار طهران في 2013، واعتذرت بلاده كذلك عن استضافة القمة الخليجية في 2015.

تسبَّب الموقف العُماني في ردودٍ قوية من جانب البحرين المتحمِّسة للفكرة بشدة؛ فصدر عن مسؤولين بحرينيين، وصرَّح سعوديون بنفس المعنى، بأنَّ قيام الاتحاد بعددٍ أقل من الأعضاء الستة «أمرٌ وارد». بل ووصل الأمر ببعض المسؤولين الخليجيين إلى القول«بسلامتهم»، ردًّا على تهديدات عُمان بالخروج.

وخرجت تفاؤلات كبيرة قبل القمة الأخيرة بالمنامة بشأن الاتحاد، غير أنَّ القمة انتهت دون جديدٍ يُذكَر، مكتفيةً بالإشارة في البيان الختامي إلى أنَّ القادة «اطَّلعوا» على ما وصلت إليه المشاورات بهذا الصدد، وضرورة توحيد المناهج التعليمية، مما ينبئ بتصلُّب في المواقف، ربما يفاقم الخلافات فيما هو قادم.


وختامًا؛ تبدو مسيرة التعاون الخليجية مشروعًا واعدًا، غير أنَّها بطيئة للغاية، وتعتريها الكثير من التناقضات والخلافات التي لا تزال عصيةً على التجاوز، على الرغم من مُضي قُرابة 36 عامًا على تأسيس المجلس. وتُلقي الخلافات السياسية والشخصية بين الأعضاء بظلالها على مجالات التعاون الأخرى، وأهمها المجال الاقتصادي الذي يُشكِّل قاطرة التعاون داخل المجلس، ومن ذلك عدم تفعيل السوق المشتركة، والصعوبات التي يواجهها مشروع الوحدة النقدية بعد انسحاب عُمان والإمارات منه، وكذلك الخلافات النفطية المُتجدِّدة بين السعودية والكويت. وإذا لم تُقدِّم تلك الدول اعتبارات المصلحة المشتركة، وتُنسِّق سياساتها، وأهدافها، وإدراكاتها للأخطار الداخلية والخارجية على حدٍ سواء، فإنَّ المجلس سيواجه المزيد من المشكلات التي ربما تكون أكثر تعقيدًا من مشكلة سحب السفراء.