مهما احتوى الدستور على مواد تحظر الانقلاب، فإنها لن تمنع الانقلاب من الحدوث. ومهما كثرت المواد القانونية التي تتوعد الذين يقومون بانقلابات أو يستولون على السلطة بطريقة غير شرعية، فإنها لا تجعل الدول في مأمن من الانقلابات، فالعديد من الدول التي تتمتع بحكم دستوري ديمقراطي كانت ضحية للانقلابات المتكررة على مدار تاريخها.

فالدراسات الحديثة تؤكد أن 55% من دول العالم التي يزيد عدد سكانها على 100 ألف مواطن تشهد محاولة انقلاب واحدة على الأقل كل 50 عامًا. أما الدول الغربية، بخاصة دول أمريكا الجنوبية، فقد شهدت محاولات انقلاب بنسبة 30% أكثر من الانتخابات الديمقراطية التي جرت في تلك البلاد.

ومنذ بداية الألفية الجديدة شهد العالم قرابة 70 انقلابًا في دوله المختلفة. تلك الانقلابات كانت في دول تضع المئات من العراقيل الدستورية أمام الانقلاب، لكن دائمًا ما يكون المُنقلب على أتم استعداد للإطاحة بكافة المواثيق والأمور الدستورية. وليست الإدانات الدولية وحدها هي الأخرى كافية لردع الانقلابيين، لكن أحيانًا كما في نموذج دول أمريكا اللاتينية، بوليفيا والبرازيل، تصبح القوى الدولية هي المحرض على الانقلاب.

لكن في نموذج الدول اللاتينية أيضًا نجدها تنهض من الانقلاب لتستعيد ديمقراطيتها مرة أخرى، رغم أن الانقلاب لا يختلف في شيء عن كافة الانقلابات التي تُحكم قبضتها النارية على السلطة في دول مختلفة، ورغم أن دعم الدول العظمى غالبًا ما يكون واضحًا بالوقوف في صفوف الانقلاب، فكيف تفعل تلك الدول أمرًا كهذًا، وما الدروس التي يمكن أن تستفيدها منها الدول الأخرى كي تصبح في مأمن نسبيًا من الانقلابات، أو على الأقل تملك هامشًا للمناورة والعودة للديمقراطية؟

السياسة الدفاعية ضد الانقلابات

لقد نجحت تلك الدول في تكوين ما يقرب إلى السياسة الدفاعية ضد الانقلابات، تلك السياسة قد لا تردع حدوث الانقلاب لكنها تكون متجذرة في مختلف مؤسسات الدولة، ما يجعل من كل مؤسسة القدرة على مناهضة الانقلاب بطريقتها. مثلما حدث مع الرئيس البرازيلي الأسبق لولا دا سيلفا، حين قضت المحكمة العليا بتبرئته من التُهم الموجهة إليه وفتحت أمامه باب الترشح للرئاسة مرة أخرى. فلولا استقلال المحكمة، والقضاء عامة، ووقوفه على منطقة واحدة بعيدًا عن سطوة الدولة لكانت إدانة دا سيلفا من قبل القضاء تحصيل حاصل.

السياسة الدفاعية ضد الانقلابات تعمل الحكومة الشرعية على ترسيخها وسط المؤسسات، حتى مع وجود الإعلانات المتكررة من الأشخاص القادرين على الانقلاب بأنهم لن ينقلبوا، لأن تلك التصريحات غالبًا ما تنتهي بانقلاب حقيقي. كما أن تلك الحكومات توزع جهودها بين الاستعداد التام للعدوان الخارجي، والتجهز بكافة الوسائل لمقاومة أي هجوم خارجي، وبين التجهز لمقاومة العدوان الداخلي، قد تكون الأولى بالسلاح والدفاعات العسكرية، أما المقاومة الداخلية، فبتوعية المجتمع وتدريبه على التعاطي مع سيناريوهات الانقلابات غير الشرعية.

فمثلًا في دول كسويسرا والنرويج يبدو من الصعب تخيل حدوث انقلاب في إحداهما، ذلك لأن المجتمع نفسه يبغض الانقلابات، وقيادات الجيش ما هم إلا جزء من هذا المجتمع المؤمن بالديمقراطية فيلتزمون بالحدود الرسمية التي تُقيد سلطتهم. كذلك فإن تلك الدول تشهد حالةً يكون فيها المجتمع المدني قويًا ويُدار بطريقة ديمقراطية، وتتمع فيها المؤسسات الرسمية غير العسكرية بهامش كبير من الاستقلالية والنزاهة.

 في تلك الحالة تكون تلك المؤسسات أقوى من المؤسسة العسكرية لذا من غير المحتمل أن ينقلب الضعيف على القوي. لأن فكرة الانقلاب قائمة بالأساس على كون المؤسسة العسكرية تمتلك قوة تنظيمية وقمعية أقوى من المُنقلب عليهم. وبالطبع حين تعمل تلك المؤسسات المدنية والرسمية في تناغم، وحين توفر الدولة وسائل شرعية وسلمية للاستجابة لمطالب الشعب وإصلاح أخطاء الحكومة، فإن احتمالية الانقلاب تقل للغاية.

السخرية والخروج الآمن

من الدروس المستفادة من تعامل بوليفيا والبرازيل مع انقلاباتهما للتغلب عليها، وقبلهما العديد من الدول الأفريقية، يمكن تلخيص عدد من النصائح لمواجهة الانقلابات، يضعها أليكس دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمية في نقاط متعددة.

أولى النقاط هي المعلومات، يقول أليكس إن المعلومات هي كل ما لدينا، وإن الإعلام هو الحليف الأهم. فإذا كُشف فساد المُنقلب فإن أيام بقائه في السلطة تصير معدودة، وتزداد الأمور صعوبة إذا استطاع الانقلاب إسكات الإعلام الداخلي. ومن أبرز النقاط التي ذكرها الرجل أن الدولة العميقة ليست حليفة الديمقراطية في كل الأحوال، لذا لا يجب الركون إلى تصريحات رجال الأمن المحترفين ولا السياسيين المحسوبين على الأنظمة السابقة، لأنهم لا يتقنون إلا توسيع نفوذهم فحسب على حساب أيًا كان.

يقول أليكس أيضًا، إن من أهم طرق التعافي من الانقلابات منح الانقلابيين فرصةً للخروج الآمن، لأنهم إذا رأوا أن الاختيار الوحيد هو البقاء في السلطة أو السجن، فسيفعلون أي شيء للبقاء في السلطة. لذا يجب منحهم خروجًا آمنًا، وهنا تجدر بالمعارضة التخلي عن طُهرها الأخلاقي المنادي بمعاقبة كل من ارتكب انتهاكًا في مقابل التسوية من أجل استعادة البلاد ومستقبلها.

كذلك يشير أليكس إلى أهمية التصويت الانتخابي وعدم الركون إلى مقاطعتها، يؤمن أليكس بأن الانتخابات هي وسيلة آمنة في إرسال رسائل بالسخط وعدم الرضا على السلطة الحالية. كما يرى أن مقاومة الانقلابات يمكن أن تبدأ بانتخاب أعضاء المجالس المحلية، ليكونوا هم بعد ذلك أبطال عملية التحول الديمقراطي.

ولا ننسى النقطة الأبرز، التي تتقنها الشعوب العربية جيدًا، السخرية. يؤكد ويُشدد أليكس على أهمية السخرية في مواجهة الانقلابات، فالسخرية تضغط على أبرز نقطة ضعف لدى المُستبد، شعوره بأهميته وبأنه لا يُمكن المساس به. فالفكاهة تنال منه بصورة أسرع وأشد مما يفعل النقد المنطقي.

على المعارضة أن تتنازل

المفاجأة أن معظم الأبحاث الإحصائية تؤكد أن الدول التي استندت للمقاومة اللاعنيفة وصلت إلى الديمقراطية بشكل أسرع من الدول التي تبنت العنف كمقاومة. لكن قد تفشل بعض النماذج لأسباب عدة، منها أنه بمجرد إزاحة الديكتاتور يتراجع الزخم الشعبي ويكتفي الجمهور بتسليم السلطة لمن قادوه ضد الانقلابيين، بينما الصحيح أن يظل الضغط الجماهيري لتحقيق كل الأهداف المطلوبة.

نماذج البرازيل وبوليفيا وتشيلي، وحتى إندونيسيا والمكسيك والفلبين وبولندا، تخبرنا أنه لا يوجد نموذج واحد للتغلب على الانقلابات يناسب الجميع، لكن هناك على الأقل بعض الدروس التي يمكن الاسترشاد بها وتطبيقها. من أبرز تلك الدروس أن يكون لدى الإصلاحيين من المعارضة استعداد واضح لتقديم تنازلات.

من تلك التنازلات ما رأيناه في تشيلي حين تبنى المعارضون اليساريون كافة أنواع النضال ضد نظام بيونشيه، بما في ذلك العنف، مما شوه المعارضة وجعل القاعدة الجماهرية تتضاءل، لذا تحولت المعارضة للاحتجاج السلمي وبدأت حديثًا عن ضرورة بناء وطن للجميع، ثم لاحقًا انتصرت المعارضة على بيونشيه في انتخابات عام 1988، التي أرادت المعارضة مقاطعتها في البداية.

كما يجب على قادة المعارضة أن تكون أولويتهم هى التحول التدريجي قبل المطالبة بحل شامل. بالطبع يجب على المعارضة ألا تكون عبارة عن جزر منفصلة عن بعضها، بل يبنوا تحالفات تتسامى فوق اختلافاتهم السياسية في الأوقات العادية، لأن مقاومة الانقلاب تستدعي أن تكون المعارضة تكتلًا قويًا، على الأقل تساوي قوته الجهة القائمة بالانقلاب.

لا تعادِ الانقلاب بالكامل

فمثلًا نجد أن حركة المعارضة البرازيلية استمالت الصناعيين في ساو باولو وأقنعتهم بعدالة قضايا المعارضة. وفي بولندا تكتلت حركة تضامن العمالية مع المنظمات الطلابية ومع المثقفين وتكاتفوا جميعًا مع الكنيسة الكاثوليكية.

ومن الدروس التي تقدمها البرازيل للعالم أيضًا أن التركيز على العامل الاقتصادي يخلخل بنية الانقلاب، إذ دائمًا ما يأتي الانقلابيون بوعود اقتصادية ضخمة، ويقول لأنصاره إنه سيحقق معجزة اقتصادية، لكن في البرازيل مع بدايات الثمانينيات حدث كساد اقتصادي استغلته المعارضة في إظهار زيف الوعود المُقدمة. كما تراكمت الديون على النظام الذي اعتمد بشكل رئيسي على الاقتراض، وأصبحت واجبة السداد، وكلها بالدولار الأمريكي.

وضع ذلك عبئًا هائلًا على كاهل المواطن البرازيلي، جعل المواطنين في حالة غضب تنتظر فحسب من يوجهها. والعبء الأكبر كان بوجود الفقراء في العشوائيات والمناطق معدومة الآدمية بينما الأثرياء ورجال الجيش يسيطرون على كافة الأراضي الجيدة والعقارات الفارهة، لهذا نشب صراع بين الفقراء والدولة، وبدؤوا في السيطرة على الأراضي بوضع اليد، وفي خطوة تاريخية قررت الكنيسة الكاثوليكية الوقوف لجانب الفقراء رغم أنها كانت ضالعة في انقلاب عام 1964.

موقف الكنيسة الكاثوليكية يعطي العالم أهم درس في سبيل استعادة الديمقراطية من مخالب الانقلاب، ألا وهو عدم معاداة النظام ككل، بل السعي لتكوين صداقات مع بعض الأفراد داخله، كي تستطيع المعارضة خلق صدع داخل النظام التي تريد الإطاحة به. وليس فقط الذين بداخله حاليًا، بل الذين تعاونوا مع النظام في الماضي لكن لديهم الآن دافع ما لمعارضته، فالتركيز على مظالم وجرائم الماضي يشق الصفوف ولا يُطهرها كما تتوهم بعض المعارضة في دول مختلفة من العالم.