على مداخل مستشفيات روسيا يقف المهرجون بوجوه مضحكة وأنوف حمراء وملابس مبهجة، يستعدون للدخول إلى صالات استقبال المرضى الصغار ذوي الملامح الخائفة المتوترة، وبمجرد أن يراهم الأطفال ينقلب خوفهم إلى مرح، وتتحول صالة الاستقبال في المستشفى إلى ملعب كبير يضج بضحكات الصغار مع المهرجين.

في روسيا لا تقتصر وظيفة المهرج على أدواره في السيرك، بل إن دوره الأكبر يكون بين غرف الأطفال المرضى في المستشفيات، فتكون مهمته رسم الابتسامة على وجوه هؤلاء الصغار وإبعاد القلق والتوتر عن قلوبهم ومساعدتهم في التكيف على بيئة المشفى، وخلال هذا التقرير سنأخذك في جولة للتعرف على مكانة المهرج في روسيا حتى وصل به الأمر ليكون طبيبًا مساعدًا!


المهرج الروسي: بداية كل العروض

للمهرج في الثقافة الروسية قيمة كبيرة، حيث كانت بدايات السيرك الروسي في القرن الحادي عشر على يد بعض الممثلين الهزليين الذين أُطلق عليهم «سكومروخي»، كانوا يجولون في أنحاء روسيا القديمة يطلقون النكات ويقومون بالألعاب البهلوانية والعروض الساخرة وتدريب الحيوانات، فنشأت بذلك جذور السيرك الروسي.

حتى القرن الثامن عشر لم يكن لروسيا أي تقاليد محددة لهذه العروض المرحة الساخرة التي يشاهدها الناس في الهواء الطلق، ولكنها كانت قائمة على دور المهرجين المضحكين، والذين حاولت السلطة قمعهم نظرًا لشدة تأثيرهم في الناس.

ثم بدأت تتطور هذه العروض بالانفتاح الأوروبي على روسيا في عهد الإمبراطور «بطرس الأكبر»، وتوسع الأنشطة الاجتماعية والثقافية في مدينة سانت بطرسبرج عاصمة روسيا آنذاك، فتطورت معها فنون السيرك الروسي وظهرت عروض الخيول والسحرة وغيرها.

وفي عام 1849 كان افتتاح أول سيرك للدولة، وكان ملحقًا به مركز تدريب للفنانين ومقدمي العروض والألعاب البلهوانية، ومن بعدها توالى بناء مسارح السيرك في روسيا وظهر السيرك المتنقل ليجوب أنحاء روسيا وأقاليمها.

ولا زال السيرك الروسي في تطور حتى أصبح السيرك مرادفًا لروسيا، واشتهر فنانو السيرك السوفييت والمهرجون بمهاراتهم وفنهم منذ بداية القرن العشرين، وأصبحت العروض تقام في البلدان باسم سيرك موسكو. بل وصل اهتمام الروس بفن السيرك إلى إنشاء مدارس متخصصة لتعليم وتدريب فنانين محترفين في عروض السيرك عامة، وفي فن التهريج خاصة، حيث أنشأ «سلافا بولينيون»، واحد من أشهر المهرجين وفناني الكوميديا الروس، أكاديمية مخصصة لتخريج مهرجين ناجحين أسماها «أكاديمية الحمقى»، ولم يقتصر على ذلك بل سعى لنشر ذلك الفن في الكتب والأفلام والمعارض.


ملائكة الرحمة ذوو الأنوف الحمراء

لم يقتصر حب الروس لفن المهرج ونكاته على صالات السيرك، بل امتد ذلك إلى صالات المستشفيات وغرفها، حيث عرفت روسيا التأثير الإيجابي للمهرجين على الأطفال المرضى، فكان دورهم يمتد بدءًا من خلق الابتسامة على شفتي الطفل المريض وتبديد قلقه وحزنه، حتى الوقوف بجانب أهل المريض ومحاولة التخفيف عنهم.

في المقابل، فإن العمل كمهرج في مستشفى يُشعر المتطوع بكونه راضيًا عن نفسه وعن العمل الذي يقدمه بالإضافة إلى اختبار قدراته الإبداعية، فمجرد اختيار الطفل لمهرج معين للعب معه هو نقطة جيدة في حد ذاتها، أما بالنسبة للطفل فيُمثل اختيار المهرج القرار الوحيد الذي يمكن له أن يتخذه في المستشفى. وقد قامت بالفعل أنشطة متعددة ومنظمات للاهتمام بوجود المهرج في المستشفيات بجوار المرضى، ومنها:

1. منظمة «مهرجو المستشفى – Hospital Clowns»

مجموعة من الممثلين والموسيقيين والراقصين المحترفين والمرحين، يتطوعون بيومين أسبوعيًا لإسعاد الأطفال في المستشفيات بملابسهم زاهية الألوان، وعروضهم المرحة المضحكة وفنهم الاحترافي الجميل.

منظمة «مهرجو المستشفى» غير الهادفة للربح تسعى بهذه الأنشطة إلى تقديم العلاج للصغار في كبسولات الفرح واللعب، وبالتالي يعمل ذلك على رفع الطاقة الإيجابية والحالة العاطفية عند الأطفال، فيكون هؤلاء الصغار أكثر شجاعة في مواجهة الألم ومحاربة المرض، وأكثر حبًا وإقبالًا على الحياة.

وقد بدأ المشروع بمتطوع واحد ثم بدأ يكبر حتى ضم 50 من المحترفين في الموسيقى والرقص والفن والتمثيل، كلهم يؤمنون بهدف المنظمة لخلق بيئة مليئة بالطاقة الإيجابية والسعادة في المستشفيات من خلال الألعاب البهلوانية والحركات التي يقوم بها المهرجون، ومرافقتهم للأطفال خلال مراحل العلاج المختلفة، خاصة تلك التي تصاحبها الآلام المبرحة وقبل العمليات الجراحية وبعدها، مما يساعد في إعادة تأهيل الأطفال نفسيًا وعاطفيًا.

وعلى مدى 25 عامًا أثبت مهرجو المستشفيات فعالية أنشطتهم في حالات الاستشفاء وتحقيق الطاقة الإيجابية لدى المرضى، ومساعدة الأطفال اليتامى وفي مستشفيات الأمراض النفسية على الاختلاط والتناغم مع غيرهم، ومثل هذه الأنشطة انتشرت في الولايات المتحدة وفرنسا والبرازيل، وليس في روسيا فقط.

وهؤلاء المتطوعون يحصلون على التدريب أولًا، ولكن ليس التدريب المقتصر على اللعب والرقص، وإنما تدريب نفسي لشخصية المهرج وحركات الجسد، والتفاعل مع الأطفال المرضى والطاقم الطبي في المستشفى، وتوفر الراحة النفسية والإسعافات الأولية للأطفال.

2. منظمة «Doctor clowns»

هي مؤسسة خيرية أخرى تعتمد على الاهتمام بفنون التهريج والتسلية لعلاج الأطفال الموجودين في المستشفيات، خاصة هؤلاء المحجوزين لتلقي العلاج طويل المدى، فيقوم هؤلاء المهرجون بألوانهم وضحكاتهم الجميلة بالتجول في عنابر الأطفال للتواصل معهم وتسليتهم كل طفل على حدة.

وتعتمد هذه المنظمة أيضًا على المتطوعين الذين يحصلون بدورهم على التدريب النفسي، خاصة أن الوجود بجوار طفل مريض كمهرج ليس بالسهولة والمرح الذي يبدو عليه العمل، فأغلب هؤلاء الأطفال من المرضى ذوي الحالات الصعبة، فقد يموت الطفل الذي يصاحبه المهرج، وقاعدة العمل في المستشفى: «لا بكاء أبدًا»، وواجب المهرج عندها التخفيف عن الأهل.

3. جولات «باتش آدم» السنوية حول روسيا في المستشفيات

«باتش آدم» هو طبيب روسي تخرج في مدرسة طبية لتدريس الطب من أجل التغيير الاجتماعي، وبعدها أسس مشروعه لمستشفى متنقل يضم المهرجين والأطباء ويقدم المحاضرات الطبية والرعاية الصحية، كبر المشروع وأصبح معهدًا صحيًا لغير القادرين، ولكن الجولات لم تنته حيث يقوم آدم كل عام بجولة في مستشفيات روسيا ودور الأيتام والمسنين لمدة أسبوعين، تُقدم فيها الرعاية الطبية بواسطة الأطباء المهرجين في جو مرح وترفيهي. كما تُتاح هذه الجولات لكل من يرغب في الاشتراك ولعب دور المهرج لإسعاد الأطفال.

4. المهرجان العالمي للمهرجين في يكترين بورغ

مهرجان سنوي للمهرجين واسع النطاق يُقام في مدينة يكترين بورغ الروسية، ويضم مجموعة من المهرجين حول العالم، وينظمه أشهر فناني روسيا «أناتولي مارشفسكي» و«ألكسندر كالميكوف» منذ عام 2008، وهو ليس مجرد مهرجان ترفيهي بل إن أهميته عالمية ثقافيًا واجتماعيًا، فهو مكرس لتعميم نمط الحياة الصحي والصحة البدنية، ونشر التسامح الثقافي وتقبل الآخر، حيث يشترك في هذا المهرجان فنانون من مختلف أنحاء العالم، من ألمانيا وفرنسا والصين وأمريكا، وغيرها من البلاد.


هل الضحك والترفيه علاج مفيد فعلًا؟

في دراسة أجراها بعض الباحثين على الأطفال العرب واليهود في إسرائيل لمعرفة تأثير وجود المهرجين داخل المستشفيات على الأطفال من الثقافات المختلفة، أثبتت الدراسة فعالية هؤلاء المهرجين في الحد من القلق والتوتر لدى الأطفال وأهاليهم، وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك اختلافات في حجم التأثير بين الثقافتين فإن الأطفال العرب تأثروا بالنكات اللفظية أكثر من الحركات الساخرة، بينما تأثر الأطفال اليهود بالحركات البهلوانية المرحة والساخرة.

وبعيدًا عن المهرجين، وإن كان للأمر علاقة قوية، فإن الضحك عامة أثبت عدد من الدراسات أهميته وتأثيره لحماية صحة القلب، حيث يتم إفاز هرمون الكورتيزول في الإنسان عند الضحك بشدة، وهو هرمون يُفرز في الوقت العصبي بكميات كبيرة، بينما في وقت الضحك فيفرز بنسبة صغيرة، وبالتالي إذا ضحك الإنسان عند تعرضه لضغط عصبي يمكن أن يخفف ذلك الضغوط، بل يساعد الإنسان على تحمل الألم.

هذه الضغوط العصبية والآلام التي قد يتعرض لها الإنسان من الممكن أن تقوم بضعف قوة المناعة عند الإنسان، لذلك روح الفكاهة من حوله ستعمل على تقوية مناعته وبث القوة في روحه لمواجهة آلامه، بل إن الضحك يساعد في عمل الأوعية الدموية بشكل طبيعي، فوفقًا لدراسة أجريت على مجموعة من الأشخاص يشاهدون مسرحية كوميدية، وآخرون فيلمًا دراميًا، فكانت الأوعية الدموية للمجموعة الأولى تعمل بطريقة طبيعية، بينما اختل عمل الأوعية في المجموعة الثانية.

لذلك استخدام المهرّج من الطرق الفعالة للعلاج بالضحك خاصة للأطفال، فهو يقوم بمساعدة هؤلاء الملائكة الصغار على تحمل الآلام وتقبل الحياة بصدر رحب روح مرحة، وتساعدهم على التأقلم والتكيف على البيئة الجديدة الموجودين فيها، والتفاعل مع الآخرين، كل ذلك من شأنه أن يساهم في تعجيل نسبة الشفاء، فلا يحتاجون إلى المهدئات والمسكنات، كما تكون تلك طريقة ممتعة لتقوية مناعتهم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.