بدا بلاط الخليفة مهيبًا ذلك اليوم وقد حضره العلماء والشعراء والقادة، إلا أن الذي استقطب الأضواء عنهم جميعًا كان «كثير عزة». [1]

لقد استقطب كثير كل الأنظار من حوله، وقام على رءوس الناس، فذكر عزة وبث أشواقه وشعره فيها وسط الدموع التي تنهمر من عينيه، فبكى واستبكى الحاضرين جميعًا حتى رقَّ أمير المؤمنين لما سمعه وظهر أثر ذلك على وجهه، إلا أن عبد الملك اعتدل في جلسته محاولًا أن يستجمع شتات نفسه وسأل بصوت أجش:

قاتلك الله يا كثير، هل رأيت أحدًا أعشق منك؟

ومن بين دموعه هتف «كثير»:

نعم يا أمير المؤمنين… «قيس».

شبيه الحبيب

تردد صدى الجواب في مجلس الخليفة، فأنصت الجميع لـ «كثير» الذي بدأ يحكي عن ذلك اليوم الذي خرج فيه إلى الصحراء، وفي عمق البادية رأى رجلًا قد نصب فخًّا ليصطاد ظبيًا، فسلَّم «كثير» على الرجل ثم سأله أن يطعمه من الظبي الذي سيصطاده، فوافق الرجل، وتحدثا كثيرًا بعد ذلك حتى نسي «كثير» أمر الصيد من شدة حلاوة كلام الرجل وعذوبة ألفاظه، إلى أن قاطعهما سقوط ظبية في الفخ، وعلى الأثر تحرَّكا لأسرها، إلا أن الرجل لم يكد ينظر في عيون الظبية حتى أدركته الرقة فبكى وحرَّرها وهو يقول:

أيا شبه ليلى لن تُرَاعِي فإنني *** لك اليوم من بين الوحوش صديق
فديتك من أسرٍ دهاك لحُبها *** فأنت لليلى ما حييتُ طليق

إن الدهشة التي اعتلت وجه «كثير» لا يستطيع أحد وصفها بالكلمات، لكنه تمالك نفسه ثم عزم أن يبيت مع الرجل ليعلم منْ هو، وما سره الذي حمله على ذلك الفعل.

وأشرقت شمس اليوم التالي، فقام الرجل لينصب الفخ مُجددًا واستعد لصيده، لكن ما إن وقعت في الشرك ظبية أخرى حتى رق الرجل وأطلقها قائلًا:

اذهبي في كلاءة الرحمن *** أنتِ مني في ذمة وأمان

وتضاعف ذهول «كثير»، فبات ليلة أخرى مع الرجل يحادثه ويقولان الشعر حتى أشرق الصبح على فخ جديد نصبه الرجل، وعندما أطبق الفخ على ظبية ثالثة قام الرجل ليطلقها كذلك، وهنا نفد صبره بعد ثلاثٍ، فصاح كثير:

ماذا تريد أن تعمل؟ أقمت ثلاثة أيام كلما صدت شيئًا أطلقته!

ولكنه تفاجأ بالدموع تنهمر على وجه صاحبه وهو يقول: [2]

أتلحى مُحبًّا هائم القلب أن رأى *** شبيهًا لما يهواه في الحبل موثقًا
فلما دنا منه تذكر شجوه *** وذكَّره من قد نأى فتشوقا

وختم كثير حديثه قائلًا:

فنظرت في أمر الرجل فإذا هو «قيس بن الملوح» المجنون، فذلك والله أعشق مني يا أمير المؤمنين.

قيس ابن عمي عندنا

إلا أن بداية الأمر لم تكن ذلك اليوم في البادية، بل كانت قبله في «نجد»، حيث «حي بني عامر» الذي نشأ فيه طفلان هما «قيس بن الملوح» وبنت عمه «ليلى بنت سعد». ومنذ الصبا ولعب الأطفال كان قيس شديد الاهتمام بابنة عمه، فما بلغ مبلغ الرجال حتى كانت ليلى ملكة على قلبه ووحيدة فيه، فعزم على الزواج بها.
وطلعت شمس ذلك النهار على خمسين ناقة حمراء يسوقها قيس أمامه إلى بيت عمه طالبًا يد ليلى، لكنه صادف وجوهًا مشمئزة يعلوها السواد والغضب وقد ابتدر الشيخ إلى ابن أخيه: «أنت لا تؤتمن على العِرض والمال».

وكانت عادة العرب ألا تُزوِّج بناتها ممن تغزَّل فيهن أو شاعت عنه محبتهن، مخافة أن يلحقهم بذلك عار الأبد وتُعيِّرهم الناس، وسرعان ما جاء ليلى خاطب آخر هو «ورد بن محمد العقيلي» الذي بذل عشرًا من الإبل مهرًا لليلى، وهنا تحجَّج العم بأنه سوف يسأل ابنته فمن اختارته فهو زوجها، ثم دخل الأب عليها وهدَّدها إن لم تختر «وردًا» للزواج فسوف يُمثِّل بها، ومن الرعب وافقت ليلى وتم الإعداد للزفاف.

بأستار الكعبة أدعو بليلى

قالوا قديمًا: «من مأمنه يؤتى الحَذِر»، وإن قيسًا في ذلك النهار ما توقع الخذلان أبدًا، فكان وقعه عليه كالصاعقة، بل هو أشد هولًا، فلم يرفضه عمه فقط بل رفضته حبيبته كذلك، فانعزل قيس وآثر السكوت وطوى نفسه على بركان من الحزن الذي أتى بعد فرح وشوق، وما زال بتلك الحال حتى أشفق عليه أبوه مما هو فيه، فجمع الرجال وذهب إلى أبي ليلى يناشده الله والرَحِم أن يزوِّجها بقيس، وذكروا له مالهم الكثير وشرفهم في القوم إلا أن الرجل رفض، واشتد عنادًا فحلف بالطلاق ألا يزوِّج ابنته من قيس أبدًا ولو كان في ذلك هلاكه؛ مخافة العار، بل استعجل الزواج وأتم زفاف ليلى على ورد في مشهد عظيم من الناس.

وكان الغضب والحزن مجتمعين في صدر قيس، فأمله بليلى لم ينقطع، وإن من الأمل العظيم ما يقتل صاحبه أحيانًا، فقد كان قيس على ثقة أن ليلى ستكون له وهو ابن عمها وصاحب المال والشرف، وفوق ذلك كله يحبها حتى سارت بمحبتهما الرُّكْبَان.

لكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، فكان تجرعه لمرارة الخذلان كاملًا غير منقوص، حتى ترك اجتماع الناس، واصفر وجهه، ونحل جسده، وأورث نفسه الفقد والفراق وقد تشبع بهما بعد رجاء وأمل.

وباستمرار الحال لم يجد أبو قيس بُدًّا إلا أن يذهب بابنه إلى الحج لعل الله تعالى يرفع ما به من البأس، وعند البيت العتيق تلحقه رحمات الرحيم فتزيل عنه الهم الذي استقر في حشاه.

وعلى مداخل مكة رأى الناس ذلك الشاب الشريف وقد علته الصفرة وانصدع كبده، وبأبواب الحرم حيث اجتمع الخلق بالبيت قال الرجل لابنه: تعلَّق بأستار الكعبة وادعُ الله وقل اللهم يا من احتجبت عن العيون أرحني من حب ليلى وأزل عني هذا الجنون.

ولم يملك قيس نفسه فبكى مُتعلقًا بأستار البيت وقال:

أيها الإله الحي إني تائب إليك عن جميع الخطايا إلا من حب ليلى فإنني لا أتوب.

واستكمل بدموعه:

يقولون تب عن حب ليلى وذكرها *** وتلك لعمري توبة لا أتوبها
يقر بعيني قربها ويزيدني بها *** عجبًا من كان عندي يعيبها
فيا نفس صبرًا لست والله فاعلمي *** بأول نفس غاب عنها حبيبها

المجنون!

بتغير الليل والنهار أخذت حال قيس تتحول من سيئ إلى أسوأ، وما كف لسانه وعقله عن ذكر ليلى في الصباح والمساء، وإذا ما هبت الريح من تجاه ليلى وقف في طريقها كأنه سيجمعها في نفسه دفئًا لقلبه المفطور.

ونزل على بني عامر في ذلك اليوم «عمر بن عبد الرحمن بن عوف»، آتيًا بأمر أمير المؤمنين «مروان بن الحكم» ليكون على الصدقات من قبائل نجد، والتقى عمر بقيس وجالسه ورأى من نسبه وشرفه وعلمه ما جعله يُعجب به وينزل في نفسه موضعًا كريمًا، فطلب منه عمر أن يرافقه في مهمته التي كلَّفه بها الخليفة لعله يرتقي بذلك عند أمير المؤمنين، وبعد تردد وافق قيس أن يخرج معه.

ومع انتشار الخبر في الحي تفاجأ عمر بالشيوخ من أقارب ليلى قد جاءوه في أمر قيس وأنه يجب له عدم الخروج في صحبته، بل أشاعوا وأكدوا أنه لا يدخل البيوت إلا لينتهك حرمات أهلها، ومنْ يدري لعل قيسًا يتعلق بفتاة من بيت عمر فيفضحه بين القبائل مثلما فعل مع ليلى، ففزع عمر من الخاطر وترك قيسًا، وكان لتلك الوشاية التي انتشرت كما النار في الحطب أثرها، فخاف الناس قيسًا وحاولوا تجنبه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، أمَّا العاشق المُتَيَّم فقد وجد نفسه في ترك الناس والتفكير في ليلى ما بقي حيًّا حتى لو اتهموه بالجنون وقال:

ما بال قلبك يا مجنون قد خُلعا *** في حب من لا ترى في نيله طمعًا
الحب والود نِيطا بالفؤاد لها *** فأصبحا في فؤادي ثابتين معَا

المؤنسة

دارت الأيام على قيس فانتقل حاله من الفتى الشريف صاحب المال إلى رجل مُحطَّم يعيش في الصحراء مُترحلًا مع القوافل، فإذا علم أن ليلى في تيماء انتقل إليها ثم إذا وصل إليه أنها رحلت سعى إلى ريح منها، وشيئًا فشيئًا أصبحت الصحراء مستَقَرَّهُ ومكان معيشته في القفار بعيدًا عن الخلائق، لعل خيالًا منه يلقى خيالًا لليلى في يوم ما.

عشرون عامًا أو يزيد وقد شبَّ أبناء ليلى وتزوَّجوا، أمَّا قيس فكان في البراري مع الوحش والسباع، فهي أرق فؤادًا من البشر، حتى صار إلى الحالة التي رآه عليها «كثير عزة»، وإن منعوا عنه ليلى فلن يمنعوا عنه القوافي والشعر ليذكرها، وبهذا قال قيس أعظم قصائده وأحزنها في نفس الوقت، ورغم حزنها كانت هي مؤنسة وحدته ومذكرته بليلى أبدًا: [3]

تذكرت ليلى والسنين الخواليا *** وأيام لا نخشى على اللهو لاهيا
خَلِيلَيَّ إلا تبكياني ألتمس *** خليلًا إذا أنزفت دمعي بكى ليا
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما *** يظنان كل الظن ألا تلاقيا
لحى الله أقوامًا يقولون إننا *** وجدنا طِوال الدهر للحب شافيا

فما يملك قيس لنفسه في الحب وهو قضاء الله على خلقه، أو لم يكن رسول الله غير مالك في الحب نفسه: [4]

خليلي لا والله لا أملك الذي قضى *** الله في ليلى ولا ما قضى ليا
قضاها لغيري وابتلاني بحبها *** فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا

سنين طِوَالًا قضاها في حب ليلى يتجرع مرارة الفراق حتى شاب رأسه، وحتى قالت ليلى إنه لم يعد يحبها، وقد طال الأمد وأن ذلك قد انقضى: [5]

ألا ليت شِعْرِي ما لليلى وما وليا *** وما للصبى من بعد شيب علانيا
وتُجرم ليلى ثم تزعم أنني *** سلوت ولا يخفى على الناس ما بيا

في النهاية لا يؤلم الجُرح إلا من به ألم، وما يشعر أبوه أو عمه أو حتى ليلى بما في صدره، وبعد سنين الخذلان وانقطاع خبره خرج أهله وأعمامه وأبو ليلى معهم ليبحثوا عنه في كل وادٍ، ثم وجدوا قيسًا ميتًا بين أحجار البادية وقد كتب جواره:

توسد أحجار اليمامة والقفر *** ومات جريح القلب مندمل الصدر
فيا ليت هذا الحب يعشق مرة *** فيعلم ما يلقى المُحب من الهجر

مات قيس جريحًا في عمره، لكنه وإن اعتزل الناس فما زال حيًّا ما بقيت حروف ليلى رمزًا لكل من يُحب قرنًا بعد قرن، وإن كان «كلٌّ يغني على ليلاه»، فما نسي أحد أول ليلى ومنْ خلَّدها بعذابه في فراقها، فهو باقٍ في القلوب والأسماع أبدًا، وأمَّا القلب فتودع منه إذا طرقت بابه ليلى أخرى.

المراجع
  1. هو «كثير بن عبد الرحمن الخزاعي» عاش في وقت الدولة الأموية اشتهر بحبه لـ «عزة بنت جميل الغفارية» وانتشر شعره فيها.
  2. «أتلحي» بمعنى تلوم… و«الشجى» هو الشوق.
  3. لحى الله: قاتلهم الله فهم لم يصدقوا وطول الدهر لم يشفه من الحب.
  4. سُئل رسول الله منْ أحب الناس إليك؟ قال: عائشة. رواه البخاري.
  5. سلوت: نسيت وابتعدت.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.