الظروف والسياقات تتبدل بين عشية وضحاها. وفي السياسة، تختلف الأدوار باختلاف رؤى اللاعبين وتبدل أولوياتهم. فوفق تحليل «التكلفة والعائد» وبحساباتٍ بسيطة، قد تكتشف دولة ما أن انخراطها في ساحة معركة لم يعد مجديًا بالشكل الذي كانت عليه من قبل. وقد يكتشف الساسة في الدولة نفسها، حين تتكالب عليهم الضغوط داخليًا وخارجيًا، أنه لا بد من تخطي مرحلة التشرذم والخلافات السياسية إعلاءً للمصلحة العامة للدولة.

وها هي لبنان في الخامس من فبراير/شباط، وسط التحديات الخارجية والتوترات السياسية، تفتح أبوابها أمام المرشحين للانتخابات النيابية للتقدّم بأوراقهم الرسمية، التي تمكنهم من خوض الاستحقاق المزمع انعقاده في 6 مايو/آيار القادم. بعد تأجيل الاستحقاق ثلاث مرات على التوالي. إذ كانت آخر انتخابات نيابية مرت بها لبنان عام 2009.

الأمر الذي يفرض تساؤلًا مهمًا عن إذا ما كانت لبنان ستنجح هذه المرة في إتمام العملية الانتخابية بسلام أم لا؟ وهل ستفلح محاولات التصالح بين القوى السياسية أم أن الخلافات لن تلبث أن تتفجر من جديد؟


لماذا هذه الانتخابات مختلفة؟

الانتخابات النيابية هذه المرة تتميز عن أي انتخابات مرت بها لبنان سابقًا. ويرجع هذا إلى ثلاثة أسباب.

رفع الوصاية السورية

لعل أبرز ما يميز الانتخابات المنتظرة هو غياب الدولة السورية كلاعب رئيسي في السياسة اللبنانية. إذ ظلت سوريا حتى قيام الثورة السورية لاعبًا إقليميًا مؤثرًا فيما يجري في السياسة في لبنان، ومؤثرًا محوريًا على الانتخابات فيها. إذ كانت سوريا على أرض لبنان في مواجهة محتدمة مع واشنطن. الأمر الذي تسبب حينها في اضطراب لبناني وانقسام كبير. وبعد اغتيال الرئيس «رفيق الحريري» بشهر، خرجت تظاهرة «14 آذار» مطالبةً بانسحاب سوريا عسكريًا من لبنان. انسحبت سوريا عام 2005 عسكريًا، لكنها ظلت حاضرة بكل كيانها سياسيًا.

استفادت سوريا من انقسام المجتمع اللبناني إلى معسكري 8 آذار و14 آذار. وسعت في عام 2009 إلى إحداث وفاق سوري سعودي بهدف احتواء النفوذ الإيراني المتنامي في لبنان. أثمر ذلك الوفاق عن تشكيل حكومة سعد الحريري في لبنان. لكن الولايات المتحدة الأمريكية أبت إلا أن تتدخل لإفشال ذلك التقارب، ما أدى إلى الإطاحة بحكومة «سعد الحريري» الأولى في يناير/كانون الثاني 2011. وبعد شهرين اشتعلت الثورة في سوريا. تاركة الساحة للولايات المتحدة وإيران لعقد صفقة ضمنية أسفرت عن انتخاب الرئيس «ميشيل عون» وعودة «سعد الحريري» إلى رئاسة الوزراء.

نظام التصويت

للمرة الأولى تستخدم الانتخابات اللبنانية قانون تصويت نسبي. فبموجب هذا القانون سيكون هناك تناسب بين عدد المقاعد المكتسبة والنسبة المئوية للأصوات التي فاز بها الحزب. الأمر الذي يعني أن كل الأطراف ستشهد انخفاضًا في عدد المقاعد. فقد تتقاتل الأحزاب فيما بينها على مناطق معينة دون المناطق الأخرى. كما أن هذا القانون من شأنه أن يعطي المجتمع المدني فرصة أكبر لدخول البرلمان وتزويد الناخبين بخيار لا تحدده الطائفية.

اتحدت مجموعة مكونة من أحد عشر حزبًا من منظمات المجتمع المدني تحت اسم «التحالف الوطني»، وقيل إنهم سيتباحثون أمر الانتخابات في جماعات مختلفة في جميع أنحاء البلاد. ويقول الخبير الانتخابي اللبناني «كمال فغالي» إن موضوع النسبية هو موضوع قديم منذ عام 2000. تمت صياغته من قِبل إحدى اللجان لكنه لم يطبق سابقًا، لأن مصالح السياسيين كانت تصب في النظام الأكثري. ورغم ذلك فإن انتخابات 2005 و2009 مهدت لـ «النسبية» عند الناخبين. إلا أن نتائج انتخابات 2009، على سبيل المثال، جاءت «فاضحة» على حد قوله. إذ على الرغم من حصول لوائح «8 آذار/مارس» على 150 ألف صوت زيادة عن لوائح «14 آذار/مارس». فإنها في المقابل حصدت 15 مقعدًا أقل، ما يعبر عن عدم وجود تمثيل حقيقي.

شكل التحالفات

كثر الحديث منذ اللحظة التي أُعلن فيها فتح باب الترشح للانتخابات، عن إمكانية تغير المشهد الانتخابي. وكثرت التكهنات عن احتمال تشكيل «التيار الوطني الحر» تحالفًا مع «تيار المستقبل» و«القوات اللبنانية» من أجل تعزيز وضعيته وموقعه التمثيلي. الأمر الذي من شأنه أن ينتج مشهدًا جديدًا للتحالفات لم تشهده لبنان من قبل. جاء هذا التكهن على ضوء الرغبة السعودية في توحيد القوى المناهضة لحزب الله في تحالفٍ واحد.

أما الإسلاميون في لبنان، فقد قرروا خوض السباق الانتخابي كما المعتاد. ولعل اعتماد قانون «النظام النسبي» سيصب في صالح الإسلاميين. لأنه قد يعطيهم فرصة أكبر للمناورة والتحالف. فالإسلاميون بما يمتلكون من تنظيم دقيق وانتشار واسع في معظم المدن اللبنانية وأغلب الدوائر، وبما يمتلكونه من قدرة كبيرة على التواصل مع الناس، قد ينجحون في التأثير بشكل كبير في نتائج الانتخابات رغم حملة «شيطنتهم» في الدولة اللبنانية.

ولكن حتى الآن، لم يترشح سوى القليل. وربما ستميل الأحزاب والقوى الرئيسية لانتظار لحظات الحسم حتى لا تكشف عن خططها للقوى الأخرى. وقد تحدث على الساحة مستجدات تقلب دفة الأمور وموازين القوى، تُغير قرارات الأحزاب.


التوترات السياسية في لبنان

مرت لبنان الأيام الماضية بتوترات سياسية كبيرة كادت أن تعصف بالانتخابات النيابية المقبلة وتتسبب في تأجيلها. كانت تلك التوترات على خلفية التسجيل المسرب لوزير الخارجية «جبران باسيل» رئيس التيار الوطني الحر الذي أساء فيه إلى «نبيه بري» رئيس مجلس النواب ورئيس حركة «أمل». إذ وصفه بـ «البلطجي»، وبأن «رأسه سيتكسر»، وذلك على خلفية جدل دائر حول قانون «أقدميات ضباط في الجيش».

نتج عن هذا التسجيل غضب في الشارع اللبناني من قبل مؤيدي «بري». إذ خرج المئات من أنصار حركة أمل إلى الشارع. وقاموا بقطع طرقات وحرق إطارات سيارات وهاجموا مكاتب للتيار الوطني الحر الذي يرأسه «باسيل».

هذه التوترات أنتجت أزمة بين حركة أمل والتيار الوطني الحر وأحبطت قدرة حزب الله على الحفاظ على التماسك النسبي للائتلاف الحاكم. إذ كشفت تلك الأزمة الأخيرة أن الجمهور الحزبي في لبنان لايزال لديه القدرة على التفاعل مع الخطاب الطائفي أكثر بكثير من استجابته لخطاب الإصلاح، وإن كان انتخابيًا فقط. فتأجيل الانتخابات طوال خمس سنوات قلل من مصداقيتها وكشف للعيان الكثير من التفاهمات الاقتصادية التي حكمت علاقة الأحزاب فيما بينها رغم حالة الخصومة التي تتبدى ظاهريًا.


رحلة البحث عن حليف

ليس خفيًا عن الأنظار الأزمة اللبنانية السعودية التي نشبت منذ تراجع «الحريري» عن قرار استقالته التي أعلن عنها من المملكة العربية السعودية. إذ اعتبر حزب الله هذا القرار ناتجًا عن ضغط وإجبار.وجراء ذلك دعت حكومات المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين والكويت رعاياها إلى مغادرة لبنان في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. ساعد الحريري في تراجعه عن قرار الاستقالة زيارته لفرنسا ولقاؤه برئيسها ماكرون في الثامن عشر من نفس الشهر.

ومنذ ذلك الحين، وسعد الحريري بات يسعى إلى توسيع هوامشه والتحرر من الخط السعودي المرسوم له. وقد ظهر ذلك جليًا في حالة التناغم السياسي مع حزب الله منذ أن عاد إلى لبنان. وإشادته بدور الحزب في تخفيف حدة التوترات في الدولة. فضلًا عن اقترابه الشديد من رئيس الجمهورية «ميشيل عون» ووزير الخارجية «جبران باسيل». ومساعيه في التوسط وتهدئة الخلافات بين حركة أمل والتيار الوطني الحر. وأخيرًا زيارته الأخيرة لتركيا. التي اجتمع فيها مع الرئيس «رجب طيب أردوغان» ورئيس حكومته «بن علي يلدريم». وطلب الحريري خلال الاجتماع دعمًا من الحكومة التركية للمساهمة في تعزيز الجيش والقوى الأمنية وخطط الاستثمار في البنى التحتية. وتشجيع الحكومة التركية للقطاع الخاص التركي للمشاركة في خطة الاستثمار في لبنان.

وفي أعقاب الزيارة تداولت بعض وسائل الإعلام أخبارًا عن استياء السعودية من هذه الزيارة. ونشر موقع «إيلاف» السعودي أن مسئولًا سعوديًا أبلغ وزيرًا لبنانيًا «أن هرولة الحريري إلى تركيا ستكلفه ثمنًا باهظًا»، وأن تحالفه مع تركيا «لن يمر مرور الكرام».وهدد المصدر نفسه الحريري بانقلاب «تيار المستقبل» عليه. إلا أن مصدرًا مسئولًا بوزارة الخارجية السعودية أوضح أن هذا الكلام عارٍ تمامًا من الصحة. وقالت وزارة الخارجية السعودية على حسابها على تويتر إنه: «لم يصدر عن أي مصدر سعودي أي تصريحات بشأن زيارة رئيس الوزراء اللبناني إلى تركيا».


الطريق نحو إعادة الاصطفاف الوطني

في ظل التوترات السياسية التي شهدتها لبنان مؤخرًا والتحديات الخارجية التي نالت منها. كان على السياسيين اللبنانيين السعي نحو إعادة الاصطفاف وتنحية خلافاتهم جانبًا. إذ ا ستغل القادة اللبنانيون عوامل خارجية لتسوية حساباتهم في الداخل.

ولعل اللقاء الثلاثي، الذي جمع بين رئيس الجمهورية «ميشيل عون» ورئيس مجلس الوزراء «سعد الحريري» ورئيس مجلس النواب «نبيه بري» في مقر رئاسة الجمهورية في «بعبدا»، جاء حاملًا معه أجواءً إيجابية. تدارس خلاله المجتمعون المعطيات المتوفرة حول أبعاد التهديدات الإسرائيلية الأخيرة، ورأوا فيها انتهاكًا للقرار 1701 وتهديدًا للاستقرار الذي يسود المنطقة الحدودية. وتم الاتفاق خلاله على «ضرورة التحرك دوليًا لمنع إسرائيل من بناء الجدار الأسمنتي داخل الحدود اللبنانية واحتمال تعديها على الثروة النفطية والغازية في المياة الإقليمية اللبنانية. واجتمعوا على ضرورة معالجة ما حدث من توترات في الأيام الأخيرة وفقًا للدستور والأنظمة والقوانين المرعية، مؤكدين ضرورة التزام الجميع بوثيقة الوفاق الوطني وعدم السماح بأي خلاف سياسي بأن يهدد السلم والاستقرار الذي تنعم به البلاد. كما اتفقوا على ضرورة توفير المناخات السياسية والأمنية المناسبة لإجراء الانتخابات النيابية في موعدها المحدد.

تلا ذلك اجتماع عقدته كتلة «تيار المسقبل» النيابية في «بيت الوسط»، برئاسة رئيس الوزراء «سعد الحريري»، أصدرت فيه بيانًا عبر عن ارتياحها للقاء الثلاثي السابق ذكره. الذي اكتسب، وفق البيان، أهمية مميزة في ضوء التهديدات الإسرائيلية الأخيرة بخصوص «البلوكات» الواقعة في نطاق المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان. مؤكدة تمسكها بحق لبنان المطلق في توقيع اتفاقية التنقيب والاستخراج في البلوك رقم تسعة. وفيما يتعلق بالانتخابات النيابية المقبلة، أعلنت الكتلة عن دعمها الكامل لسعد الحريري في «استكمال المشاورات لرسم صورة كاملة للتحالفات الانتخابية وصورة اللوائح التي سيخوض تيار المستقبل الانتخابات على أساسها».

الخلاصة، وسط تحديات جمة داخلية وخارجية تواجه الدولة اللبنانية، وتوترات سياسية عصيبة مر بها الشارع اللبناني، تحاول لبنان أن تسير على الخطة التي رسمتها لنفسها، وألا تسمح لتلك التحديات أن تعرقل مسيرتها نحو إتمام الانتخابات اللبنانية. فهل ستنجح لبنان في الصمود أمام التطورات التي تحدث على نحو متسارع خارج البلاد وداخلها؟ وهل سيصمد التوافق الوطني طويلًا؟ هذا ما ستخبرنا به الشهور القليلة المقبلة.