انظر إليّ، إلى كل ملامح الغنى التي تبدو علي، إلى سيارتي التي أظهرها لك على وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن لا تفعل ما فعلته أنا مطلقًا لأنك لن تصل أساسًا!
الكاتب الفرنسي كريستوف جليزيس

هكذا وصف الكاتب الفرنسي كريستوف جليزيس حال اللاعب الإفريقي صاحب المسيرة الكبيرة في أوروبا في حال مخاطبته بني وطنه في ثوب الناصح، مشيرًا إلى أن الرحلة التي يقطعها اللاعب الإفريقي نحو المجد، تكون أحيانًا محفوفة باحتمال عدم الوصول من الأساس!

الأمر أكبر من مجرد الموت في البحر كما تقافزت إلى ذهنك كل قصص المهاجرين التي سمعتها من قبل، الموت في البحر بالنسبة للفتى الإفريقي الذي يقرر الخروج إلى أوروبا من أجل كسب قوت يومه، هو محض احتمال.

جليزيس إلى جانب بارتيليمي جايلارد هما مؤلفا كتاب «النظام السحري: اللاعبون الأفارقة وتجارة الرقيق الحديثة» الذي ظهر للنور في عام 2018، وتناول تفاصيل قاسية عن استغلال حلم الأفارقة في لعب كرة القدم، وكيف يدفع الآباء أبناءهم لمصائر مميتة من أجل هذا الحلم.

جليزيس أدلى بحوار عن الكتاب لموقع «إنفو ميجرانتس» المتخصص في تعقب أنباء المهاجرين من شتى أنحاء العالم، قال فيه: «بالنسبة للراغبين الأفارقة في لعب كرة القدم بأوروبا، فهناك 3 أنماط أو مسارات، أولها أن تكون لاعبًا موهوبًا، والثاني أن تكون متوسطًا، والثالث أن تكون لاعبًا (صفرًا)».

ويؤكد جليزيس: «في الحالات الثلاثة لن يتركك الوكلاء الوهميون، وستجد نفسك في أوروبا أو في الطريق إلى أوروبا، ولكن بمصائر مختلفة».

3000 يورو من أجل مصير مجهول

متوسط المبلغ الذي تدفعه عائلة الطفل الإفريقي الذي سيدفع دفعًا نحو هذا المصير المجهول، لصالح هؤلاء الوكلاء الوهميين في الغالب، هو 3000-4000 يورو، يقول جليزيس: «تتم مخاطبتهم في بلدانهم كما لو كان مستقبل كريستيانو رونالدو ينتظرهم، هذا الخطاب يغري الأهل والطفل، يدفعون هذا المبلغ ولا يعرفون المصير الذي ينتظرهم».

أولئك الذين يتحرون أي إطار قانوني لعمليات تهجير اللاعبين الأفارقة في أعمار صغيرة، يصدرون لهم تأشيرات سياحية مدتها بين 3-6 أشهر حسب تسهيلات البلد الأوروبي الذي يعدون الطفل به، يجد الطفل نفسه في أوروبا بين يدي وكيل آخر، أو بالأحرى «تاجر رقيق» يقنعه أن كل شيء بات على ما يرام.

يقول جليزيس: «لا يتطلب الأمر من أي شخص أوروبي سوى أن يرتدي زيًا أنيقًا ويأتي بأي وريقات تمثل عروضًا سابقة من باريس سان جيرمان أو ريال مدريد أو برشلونة، ثم كيل الوعود لهؤلاء الأطفال»، مؤكدًا أن هناك حالة بالفعل لشخص ادعى أنه وكيل أعمال، قبل أن يتضح أنه مجرد سائق فرنسي مالي مقيم في إسبانيا، تمكن من «سرقة 5 أطفال» بات مصيرهم مجهولاً حتى الآن.

إن كان الطفل موهوبًا حقًا، فمن المرجح أن يسلك الطريق الأسهل، وهو أن يمر باختبارات أندية عديدة، فيصيب في واحد وتكون تأشيرته قابلة للتمديد، ويكون قد نجح في تأمين مكان له في أوروبا، وليكن بعد ذلك ما يكون.

مهاجرون سريّون

دعني أخبرك أن موهبة بحجم صامويل إيتو لم يتسنّ لها أن تخوض هذا المسار السهل، إيتو خرج من بلاده بعمر 9 أعوام إلى فرنسا، انتهت إقامته ولم ينجح في اللعب مع أي نادٍ، خاض اختبارات باريس سان جيرمان بعد انتهاء مدة إقامته، وتم قبوله، وحين فوجئوا بعدم قانونية أوراقه، اضطر للمكوث لدى أخته «مهاجرًا سريًا» قبل أن يشق طريقه في رحلة هجرة أخرى إلى إسبانيا، ومن هناك بدأ رحلة ناجحة أخرى.

هذا يوحي لك بنسبة الأطفال الذين لا يحالفهم الحظ في تمديد إقاماتهم، فإن كانت موهبة بحجم صامويل إيتو لم تستطع النجاح في اختبارات أندية ما، فكيف يكون حال السواد الأعظم؟!

يؤكد جليزيس في كتابه أن 6000 طفل قاصر يشقون طريقهم دون ذويهم سنويًا إلى أوروبا لاحتراف كرة القدم (2018)، بينما أكد الكاتب الإيطالي دانييلي مارياني في مقال له نشر على موقع «سويس إنفو» أن «60% من لاعبي كرة القدم الأفارقة، الذين يصلون إلى أوروبا والذين يتمكنون من الحصول على عـقد رسمي، يتم استبعادهم بعد بضعة مواسم، من ممارسة كرة القدم».

يتحول الباقون ممن لم يستطيعوا إيجاد نادٍ وتقنين إقاماتهم إلى «مهاجرين سريين» ينبغي عليهم أن يتواروا عن الأنظار، وأن يواجهوا مصيرًا مجهولاً في السجون أو أعضاء في شبكات تهريب بشر أو قتلة مرتزقين أو شبكات دعارة أو تجارة مخدرات، هنا يمكنك أن تفتح القوس على مصراعيه وتتخيل كل الاحتمالات، فقط لأنك لم تكن فذ الموهبة وفشلت في استقطاب اهتمام أي نادٍ بك.

عزيزي، هل كانت كل تلك الحقائق صادمة بالنسبة لك؟ يؤسفني أن أقول لك إن هذا هو الجانب الأكثر إشراقًا في المعادلة، نحن نتحدث عن سيناريوهات كتب لها النجاح كسيناريو إيتو، أو سيناريو أنسو فاتي الذي وجد والده ما يجعله يسافر شرعيًا إلى البرتغال قبل أن يتسول في إسبانيا من أجل وظيفة أتيحت له في ظروف غريبة فاستطاع جلب ابنه الذي لمع في أكاديمية نادي إشبيلية، ولكنهم وصلوا!

ماذا عن أولئك الذين لم يصلوا من الأساس؟ أو الذين وصلوا ولم يلعبوا كرة القدم لأنهم متوسطون أو «صفريون»؟ وماذا عن الذين وجدوا أنفسهم في بلدان أخرى؟

قصص الناجين

البر والبحر والجو، هكذا يسافر أطفال إفريقيا الباحثون عن حلم احتراف كرة القدم، من يستطيع دفع ثمن تأشيرة مؤقتة والهجرة مع والديه، هذا هو الغني المرموق، لكن عليه إيجاد نادٍ قبل انتهاء مدة إقامته، المتوسطون ماديًا يستطيعون القفز في المتوسط ومواجهة مصير مجهول في قارب يجدف نحو أوروبا، أما الأكثر فقرًا، وهم الأكثر عددًا بالمناسبة، فيشقون صحراء إفريقيا نحو الشمال، وقد ينتهي الأمر بهم في سجن ليبي أو في معسكر لتدريب مسلحين مرتزقة في إحدى البقاع المتوترة.

في المغرب وحيث ينتظر كثير من الواصلين بعد سنوات من رحلة المشي العصيبة في صحاري إفريقيا فرصة لدخول إسبانيا، سافر لاعب كرة قدم من بنين إلى المغرب، استغرق سفره 3 سنوات كاملة، قال في حوار لموقع «دويتشه فيله»: «عانيت من العطش والجوع ومعاملة المهربين السيئة، لا يمكن أن أنسى تلك الرحلة لقد رأيت أطفالاً ونساءً يلفظون أنفاسهم الأخيرة».

سيدريك هذا نجح في الوصول إلى أي وجهة، رمته الأقدار في المغرب حيث يعيش في ظروف غير آدمية منتظرًا فرصة لدخول إسبانيا، لكن ماذا عن رحلة شاب يبلغ من العمر 19 عامًا من غينيا عبر الصحراء، قادته -لحسن حظه- إلى وطنه مجددًا بعد عامين كاملين في الطريق؟ تلك هي حالة مامادو ألفا الذي قال في تصريحات لموقع «يورو نيوز»: «ما رأيته خلال الرحلة وما مررت به، لم أكن لأتمنى أبدًا أن يراه ألد أعدائي، مررت بالجوع والعزل والخيانة والعمل القسري».

ورغم أننا يمكننا تخيل القوة والجلد اللذين تحلى بهما مامادو ألفا كي يعود إلى وطنه وسط هذه الظروف، فإن أهله وجيرانه ببساطة لا يعتبرونه أكثر من «شاب فاشل» لم يستطع الوصول إلى ليون مثل أصدقائه الذين لم يتلقوا التعليم ومع ذلك فهم يرسلون نفقات زفاف أخواتهم وأمورهم تسير على ما يرام – على حد تعبيره.

الموت ليس أبشع المصائر

حتى الموت ليس أبشع السيناريوهات، ما رأيك أن توعَد بأن تذهب إلى البريميرليج رأسًا، فتجد نفسك في نيبال ملقى في مستنقع لا يصلح للإقامة، وبرفقتك 15 شخصًا في غرفة واحدة دون ملامح واضحة لوضعيتكم القانونية؟ هذا ما كشفته صحيفة «الجارديان» في 2017 حول أكثر من 100 لاعب إفريقي خرجوا من مالي وكوت ديفوار وبوركينا فاسو وبنين وغينيا وتوجو بآمال اللعب في الدوري الإنجليزي، فوجدوا أنفسهم في نيبال بعد أن أنفقوا كل ما معهم لشبكات الوكلاء.

ما إن وصلوا حتى فوجئوا بتوقف النشاط الكروي في نيبال أصلًا إثر زلزال، وبالطبع اختفى الوكلاء تمامًا من المشهد بعد أن سلموهم لآخرين يريدون منهم دفع 185 دولارًا كي يلعبوا في أي نادٍ بعد عودة النشاط.

هل سمعت عن لاوس؟ دولة آسيوية أيضًا تمنح تسهيلات للراغبين في الإقامة، كانت هي الأخرى في 2015 مسرحًا لتوقيع 23 مراهقًا إفريقيًا تحت 14 عامًا على عقود بإحدى أكاديمياتها تنص على تقاضي كل منهم 200 دولار بشكل شهري، تكبدوا مصاريف الرحلة التي ذهبت لجيب الوكيل –الذي كان بالمناسبة لاعبًا سابقًا في منتخب ليبيريا يدعى ألكس كارمو-، وما إن وصلوا وقننت أوضاعهم حتى وجدوا أنفسهم جميعًا في ملعب واحد يتقاسمون غرفة واحدة في أجواء وصفوها بـ«السخرة والاستعباد» في ظل عدم وجود أي رعاية طبية بعدما أصيبوا بالملاريا والتيفود، وبالطبع لا يملك أي من هؤلاء ولا ذووهم الفرصة لدفع تكاليف رحلة عودة، الأفارقة يذهبون ولا يعودون، يجلبون المال أو يموتون.

العالم قاسٍ لا شك، ولذلك حينما تسمع مقدمة من معلق عربي يتغنى بأن 16 من أصل 23 لاعبًا توج بلقب المونديال مع فرنسا في 2018 هم مهاجرون أو أبناء مهاجرين، أو عن لاعب من أصول غينية يمارس ألوان التألق في أوروبا، أو حين ترى لاعبًا إفريقيًا في دوري عربي وتذهب للبحث عن تاريخه فلا تجد له تجارب في أندية معروفة، عليك أن تعرف أن كل هؤلاء مروا بما مر به مامادو ألفا وأقرانه، برحلة مليئة بـالجوع، والعزلة، والخيانة، والموت!