في عام 1921، كتب القانوني الفرنسي الكبير «مارسيل موراند» نادما: «لقد ارتكبنا خطأ كبيراً، كان السبب في ذلك هو رغبتنا الاعتيادية في الوضوح، وحاجتنا إلى الدقة، وهوسنا بالتجانس». كان موراند قد تم تكليفه في عام 1907 من قبل سلطات الإحتلال الفرنسي في الجزائر بكتابة «قانون» للمسلمين الجزائريين.

نظراً لسيادة المذهب المالكي في المغرب العربي بشكل عام، فقد بحث موراند عن «نص» يستخدمه لإعداد هذا القانون. وبالفعل توصل موراند إلى أن كتاب «المختصر في فقه الإمام مالك» الذي ألفه العلامة خليل بن إسحاق الجندي المصري في القرن الرابع عشر، والمشهور بِاسم «مختصر خليل» هو عمدة المذهب المالكي. كان الكتاب قد ترجم سابقاً إلى الفرنسية بواسطة مستشرق فرنسي عاش في مصر، وكان صديقاً مقرباً من رفاعة الطهطاوي، اسمه نيكولا بيرون. ونشرت هذه الترجمة في فرنسا سنة 1847 تحت عنوان «الاستكشاف العلمي للجزائر.» ثم طبع الكتاب مرة أخرى في فرنسا ولكن باللغة العربية عام 1855، ثم ترجم ترجمة أخرى إلى الفرنسية عام 1878.

اعتمد موراند على ترجمة بيرون لـ«مختصر خليل» في إعداده للقانون المقترح، الذي تم إصدار مسوداته أخيراً ما بين عامي 1914 و1916، واشتهر حينها باسم «قانون موراند» أو «مسودة القانون الإسلامي الجزائري». أثار «قانون موراند» عند صدوره زوبعة من النقاشات. وبرغم أن القانون لم يطبق رسمياً بشكل كامل، إلا أن تدريب القضاة المسلمين والفرنسيين في الجزائر اعتمد عليه بشكل كبير. بعد سنوات، أي في 1921، وبعد تردد كبير، كتب موراند ملاحظاته في محاضرات ألقاها على طلبته عن النظام القانوني في الجزائر. كان موراند يشير بذلك «الهوس بالتجانس والدقة والوضوح» إلى المفهوم الفرنسي عن «القانون»، الذي تحدثنا عنه في هذا المقال.

باختصار، يميل المفهوم الفرنسي عن «القانون» إلى فكرة «مدونات الأحكام الثابتة» التي يحاكم وفقها جميع «المواطنين»، دون أن تكون لدى القاضي أي مساحة تشريعية ممكنة. وبهذا المعنى يميل مفهوم «العدالة» وفق المدرسة الفرنسية إلى تأسيسها حصراً على «المساواة» بين «المواطنين»، بالحمولة الثورية «الجمهورية» للكلمة. يختلف هذا المفهوم كثيراً عن معنى «القانون» في المدرسة البريطانية كما ذكرت سابقاً، التي تستمد القانون من أحكام القضاة أساساً، ولا تعتمد على مدونات الأحكام الثابتة.

وبهذه العقلية، لم يفهم الفرنسيون نظام المحاكم الشرعية في الجزائر حين قدموا إليها كمستعمرين. فقد كانت المحاكم الشرعية تمارس تقليداً قضائياً يتيح للقاضي المسلم مساحة معقولة من «الاجتهاد». و«الاجتهاد» هنا– على عكس ما يعتقد كثير من الناس- ليس هو «اختراع أحكام جديدة»، هكذا ببساطة، ولكنه اجتهاد يأتي في أغلب الأحوال عن طريق «الترجيح» بين عدة آراء متداولة داخل المذهب، وربما خارجه إذا استدعى الأمر. كما تعطيه أيضاً مساحة جيدة للجوء إلى «العرف» كأحد مصادر التشريع الممكنة بحسب ما تقتضيه القضية المنظورة. وقد يختار القاضي في أحيان كثيرة أن يتمسك بالرأي المعتمد أو المشهور في المذهب في هذه الحالة أو تلك. وكذلك بإمكانه بالفعل أن ينشئ رأياً جديداً إذا كانت مكانته العلمية والأدبية تؤهله لذلك. وتقريباً، كان هذا النظام هو نفسه نظام المحاكم الشرعية في مصر قبل دخول الحملة الفرنسية إليها، وحتى بعدها بدرجة أو بأخرى.

هنا، ورغبة في بسط «العدالة» الفرنسية على نظام المحاكم الشرعية في الجزائر، شرع الفرنسيون في مشروعهم «الإصلاحي» عن طريق «التقنين» أي تحويل الفقه الإسلامي المالكي إلى مدونات أحكام ثابتة وموحدة تأسيساً على «مختصر خليل». وقد قال موراند بعد ذلك عن هذا المشروع الذي أشرف عليه بنفسه: «لقد بقينا في الجزائر ملتزمين بقانون خليل»، أي إلى «قانون» عمره أكثر من خمسة قرون، وبذلك نكون قد ارتكبنا خطأ حين توهمنا أن السكان المحليين قد توقفوا عند هذه المرحلة.

ويضيف:

لقد أدخلت الممارسة والأعراف المحلية كثيراً من التحسينات اللاحقة، وعندما قمنا باستبدال هذا النظام العرفي الممارس -وهو ما لم نكن نعلم به من الأساس- بنظام قانوني أقدم (أي ظاهر نص مختصر خليل)  فقد حرمنا السكان من كل هذه التحديثات اللاحقة التي أنجزوها، وهو ما يجعل تدخلنا يمثل تراجعاً واضحاً بالنسبة للتطور الذي حدث في مؤسساتهم.

لقد أدرك موراند أخيراً ما كان غائباً عن العقلية الاستعمارية والاستشراقية الفرنسية في بداية الأمر، وهو أن النظام القانوني الإسلامي لا يمكن فهمه بطريقة صحيحة بالعودة إلى مدونات الفقه بهذه الطريقة المجردة، وإنما يجب النظر إلى الطريقة التي تتم بها ممارسته في المحاكم على أيدي القضاة. وقد أضاف موراند أيضاً أن التدخل «الإصلاحي» الفرنسي بهذه الطريقة قد أسهم في تصعيد النزعة «الإسلاموية» لدى مسلمي الجزائر، وإبعادهم أكثر فأكثر عن «التحديث» الفرنسي المرغوب.

تعطينا قصة موراند فرصة جيدة لتسليط الضوء على إحدى أكبر مشكلات النقاش المعاصر في مصر حول «الشريعة» و«الفقه» و«القانون». تكمن المشكلة أساساً في عدم ملاحظة المسافة الكبيرة بين «الفقه الإسلامي» الموجود في بطون المتون، و«النظام القانوني الإسلامي» ككل، كما كانت تمارسه المحاكم الشرعية بالفعل على مر العصور. هذان الشيآن، أي «الفقه الإسلامي» و «النظام القانوني الإسلامي»، لم يكونا أبداً الشيء نفسه.

مأساة التقنين الاستشراقي

لتقريب الصورة، تخيل أنك قد حفظت قانون الجنايات المصري عن ظهر قلب، ومن ثم قررت أن تدخل صباح اليوم التالي إلى المحكمة لتدافع عن أحد المتهمين، فماذا تتوقع من نفسك؟ كارثة بكل تأكيد. أنت لا تعرف شيئاً عن الطريقة التي يتم بها تطبيق هذه القوانين على الأرض، ولا كيف سيستخدمها «القاضي» أو «محامي الخصم» في أثناء المحاكمة. وغالباً ستضع نفسك ومن تدافع عنه في مأزق كبير.

نفس هذ الخطأ وقع فيه الاستشراق الكلاسيكي عند دراسته للفقه الإسلامي، حيث اعتبر باحثون كبار من أمثال «شاخت» و«كولسون» و«جولدتزيهر» أن دراستهم لكتب الفقه ستكفيهم لمعرفة «النظام القانوني» الذي يعمل وفقه المسلمون. ونفس الخطأ وقع فيه الإسلاميون لاحقاً عندما استخدموا «الشريعة» كشعار أيديولوجي شعبوي، حيث روج هذا الشعار للشريعة باعتبارها «قانوناً» على شاكلة القوانين الحديثة، لكن الفارق أن مصدره «إلهي» فهو بالتالي واجب التطبيق من وجهة نظره!

كما أنه نفس الخطأ الذي وقع فيه «الحداثيون» عند مخاصمتهم لنظام التفكير القانوني الإسلامي بحكم أنه يمثل «حكماً دينياً» لم تعد تقبله الحداثة. كل هؤلاء فعلوا ما فعله موراند بالضبط: نظروا إلى كتب الفقه واعتقدوا أنهم بذلك يعرفون كيف يقوم المسلمون بتطبيق «العدالة».

يعتقد غالبية الناس أن «القاضي» الذي يطبق الشريعة يقرأ من نصٍّ مصمت، وأنه مجرد «حافظ» للأحكام، يطبق بشكل أعمى ما قاله الفقهاء في كتبهم أو أنه سيبدأ حكمه بتلاوة عدة آيات وبعض الأحاديث ثم ينزل حكما بقطع اليد أو الجلد أو قطع الرقبة.

ربما أسهم في هذه النظرة الخيالية ما يراه الناس من شيوخ السلفية المعاصرة، التي تدعي أنها امتداد لمدرسة التراث الإسلامي، وهو ادعاء باطل. يكفيك فقط أن تقارن بين كتاب متقدم في أصول الفقه كـ«رسالة» الإمام الشافعي من القرن الثاني الهجري، وكتاب متأخرٍ في نفس الباب، ككتاب «الأشباه والنظائر» للسيوطي مثلاً في القرن العاشر، لتعرف مدى التطور الذي قطعته النظرية الإسلامية في التشريع، ولتعرف كذلك المسافة الهائلة بين مدرسة التراث الفقهي الإسلامي، والمدرسة السلفية، التي هي ظاهرة حداثية بامتياز، نشأت في منتصف القرن الثامن عشر كثورة مضادة لمدرسة التراث الفقهي المذهبي.

مؤلفات الفقهاء – إذا استثنينا منها أبواب العبادات، التي هي في الغالب لا توجد فيها خلافات كبيرة- تعبر عن نقاش مفتوح في أحكام المعاملات بين المذاهب الفقهية المختلفة، التي هي بالمصطلح الحديث: مدارس تفكير قانوني مختلفة. هذا النقاش المفتوح يحسمه القاضي الذي يتخذ القرار بالفعل، وفق القاعدة المعروفة «إذا قضى القاضي ارتفع الخلاف». وقد أشرت سابقاً إلى ضرورة الانتباه إلى الطبيعة «الاقتراحية» للآراء الواردة في أبواب المعاملات في مدونات الفقه، وهو ما لم ينتبه إليه أكثر الدارسين حيث اعتبر الجميع أن كتابات الفقهاء تعتبر نفسها «نصوصاً دينية» وتدعي لنفسها القداسة، وهو ما لم يحدث مطلقاً.

تقنين الشريعة في العالم الإسلامي

وقد كان التقنين الذي بدأت محاولاته المبكرة في الدولة العثمانية في حدود القرن التاسع عشر مع الفقه الحنفي، يمثل تحولاً جذرياً في مفهوم التشريع التقليدي للتراث الفقهي. ذلك التحول الذي ابتغى تحجيم التنوع التشريعي في متون الفقه، أدى إلى تثبيت هذه الحركة الدينامية ذاتية التطور للأحكام، وهو ما فهمه «موراند» متأخراً وعبّر عنه في ملاحظاته. وفي مصر، وفي نفس الفترة تقريباً، فكر الخديو إسماعيل أيضاً في تقنين الفقه المالكي ليجاري التطور القانوني الأوروبي، وكلف بذلك الشيخ مخلوف المنياوي الذي أعد مقارنة بين الفقه المالكي والقانون المدني الفرنسي ولكنها لم تنشر في حينها لأسباب مجهولة. ولاحقاً تم استيعاب نسخة فقهية مقننة في قانون الأحوال الشخصية المصري وهو ما قامت به كثير من الدول العربية والإسلامية بعد ذلك.

كان هذا التحول «التقنيني» يعكس تحولاً أعمق في مفهوم الدولة ذاته. وهو تحول بدأ في أوروبا وامتدت أصداؤه لاحقاً إلى المناطق المحيطة في آسيا وأفريقيا. لاحظ أن مؤسسة الفقه كانت تقليدياً مؤسسة تشريعية مستقلة نسبياً عن الدولة، بمعنى أنها كانت مؤسسة «اجتماعية» إذا اعتبرنا بالتمييز الضروري بين «المجتمع» و«الدولة». بل أكثر من ذلك، فقد كانت هذه المؤسسة تُخضِع الدولة/السلطان لرقابتها المعنوية في كثير من الأحيان.

هذه المؤسسة هي التي تهيمن على وظائف مهمة جداً مثل «التعليم» و«التشريع» و«القضاء»، ولم تكن أي من هذه الوظائف واقعة تحت سيطرة الدولة إلا بشكل نسبي. ولم يكن قد ظهر بعد إلى الوجود مفهوم الدولة «المهيمنة» القابضة على كافة وظائف المجال العام، التي شبهها «توماس هوبز» في القرن السابع عشر بوحش «الليفاياثان» العملاق. كما لم يكن قد ظهر إلى الوجود مفهوم «المواطنة» بدلالاته السياسية والحقوقية المعاصرة. فعملية التقنين تواكبت مع تنام لمفهوم جديد للدولة يجعل منها مركزاً لكل العمليات المتعلقة بالمجال العام، من تعليم وتشريع وغير ذلك، كما يعيد تعريف وصياغة العلاقة بين «الفرد» و«الدولة».

كيف إذن أثرت هذه التحديثات في تطور القانون المصري، وكيف أدت إلى نشوء مفهوم جديد تماماً عن «الشريعة»، وما علاقة ذلك كله بالإسلام السياسي، هذا هو ما سنناقشه في المقال المقبل بإذن الله.