«الخصوصية والتفرد»، هي أحد المصطلحات المحورية التي حاولت الصهيونية ترسيخها في ثقافتها الوليدة. فالجماعات اليهودية حول العالم – ومن بعدها “إسرائيل” – افترضت أن لها حضارة مستقلة وثقافة مستقلة وتراثًا مستقلًّا عن المجتمعات التي يتواجد فيها اليهود، وعن باقي دول العالم. وهو ما كان سببًا مباشرًا في محاولة اختلاق “تاريخ من العدم” لـ “إسرائيل”، وصياغة الكثير من الأساطير في هذا الشأن.وقد سعت الحركة الصهيونية، من خلال اختيار العبرية كلغة رسمية لإسرائيل، إلى التأكيد على هذه الخصوصية الثقافية، كما أنها افتخرت بقدرتها على إحياء لغة ميتة منذ أكثر من 1800 عام. فكيف تمكنت العبرية من الهجرة إلى أرض فلسطين مرة أخرى؟، وهل حقًّا تمكّن اليهود من إحياء “اللغة العبرية” من جديد؟.


العبرية القديمة

اللغة العبرية هي واحدة من فروع اللغات “السامية”، التي تنتمي إليها أيضًا: (العربية، والآشورية، والبابلية، والسريانية، ولغات جنوب الجزيرة العربية، والحبشية).وقد وصلت إلينا العبرية من خلال ثلاثة طرق:

  • أسفار العهد القديم والتلمود، وعدد من المؤلفات الأدبية والعلمية التي كتبها علماء اليهود في مختلف العصور.
  • بعض النقوش الأثرية على لوحات الصخر أو المعدن.
  • الأناشيد الدينية ومقاطع التوراة وترانيم الصلوات التي ظل اليهود يتلونها خلال العصور الماضية.

وهذا كله بالطبع تراث مكتوب، لا يعطي أي ملامح مؤكدة بشأن منطوق هذه اللغة.

في العصور الوسطى، أصبحت العبرية لغة دينية بالأساس، واقتصر استخدامها على الصلوات اليهودية والكتابات الدينية، وأصبحت تُسمى اللغة المقدسة.

وقد مرت العبرية خلال تطورها وحتى انقراضها بمرحلتين أساسيتين:

  1. العبرية القديمة: وقد بدأت مع نشأة العبرية في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وحتى النفي البابلي عام 586 ق.م. ويجد بعض الباحثين أنه من الصعب إطلاق كلمة “العبرية” على تلك المرحلة الأولى من تاريخها فلم تكن قد توفّر لها بعد أسباب الاستقلال اللغوي أو التمايز اللهجي. وتُسمى عبرية هذه المرحلة “عبرية العهد القديم” أو “العبرية القديمة أو الكلاسيكية” أو “عبرية ما قبل المنفى”. وهي تتمثل في عبرية أسفار العهد القديم، وهي لغة دينية أساسًا. وهذه العبرية استعارت كلمات كثيرة من اللغات المجاورة كالبابلية، والآشورية، والآرامية، والمصرية القديمة، والفارسية، وأخيراً اليونانية. ومع النفي البابلي اضمحلت اللغة العبرية في أرض كنعان([1])، حتى اختفت تمامًا كلغة منطوقة عام 250 ق.م.
  2. عبرية المشنا: مع بداية القرن الرابع قبل الميلاد، أدرك اليهود تراجع اللغة العبرية لصالح اللغة الآرامية، فبدأوا في محاولة حفظ اللغة عن طريق كتابة دراسات أدبية ودينية كان أشهرها “المدراش”، وهي شروح العهد القديم بنوعيها “الهالاخا” التي تبين أحكام الشريعة في الحلال والحرام، و”الهاجادا” التي تتضمن بعض النصوص التاريخية والأخلاقية. وبدايةً من القرن الأول قبل الميلاد، أصبحت لغة الكتابة لدى اليهود هي “عبرية المشنا”، وهي تختلف عن العبرية القديمة، فهي عبرية مُشبّعة بالآرامية أو آرامية مشوبة بمفردات عبرية وفارسية ويونانية. وقد ظهرت “المشنا” على يد علماء الدين، الذين استخدموها في كتابة نحو 63 كتابًا تتعلق بأمور دينية وتاريخية وقانونية. وقد أطلق لفظ “المشنا” على مجموعة هذه الكتب، في حين أطلق على شروحها “الجمارا”. ومن المشنا والجمارا تألف “التلمود”. وتُعَتبر “المشنا” مصدرًا من المصادر الأساسية للشريعة اليهودية، وتأتي في المقام الثاني بعد “التناخ”([2]). ثم ماتت هذه العبرية تمامًا مع القرن الثاني بعـد الميلاد.

وفي العصور الوسطى، أصبحت العبرية لغة دينية بالأساس، واقتصر استخدامها على الصلوات اليهودية والكتابات الدينية. ومع هذا، لم تكن “عبرية الصلوات” ذات سمات واحدة محدّدة، إذ نجد أن النصوص العبرية التي يتعبّد بها الإشكناز مُختلفة عن تلك التي يتعبد بها السفارديم. وترتب على موت اللغة العبرية واستخدامها في الصلوات وحسب، أن أصبحت تُسمى “اللغة المقدسة”.


إليعازر بن يهودا ونشأة العبرية الإسرائيلية

يُؤرخ لبدايات نشأة العبرية الإسرائيلية مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بالتزامن مع بداية التفكير في إنشاء وطن قومي لليهود يجمع شتاتهم. ويُعتبر “إليعازر بن يهودا” هو مؤسس العبرية الإسرائيلية، في حين يعتبره الإسرائيليون هو من أحيا اللغة العبرية. (وسيتطرق المقال في جزئه الثاني لجدلية الإحياء والتأسيس في اللغة العبرية).

يُعتبر «إليعازر بن يهودا» هو مؤسس العبرية الإسرائيلية، في حين يعتبره الإسرائيليون هو من أحيا اللغة العبرية.

وُلد “إليعازر إسحق برلمان” عام 1858، في مدينة لوجكي التي كانت تقع في محافظة فيلنيوس بلتوانيا (أما اليوم فتقع داخل حدود روسيا البيضاء)، درس بعض المواضيع الدينية في عدد من المدارس الدينية اليهودية، ثم سافر إلى باريس بعد إنهاء الدراسة الثانوية وشرع في دراسة الطب. كتب أول مقال له تحت عنوان “سؤال صعب” في جريدة “هشاحار” التي كان يحررها الكاتب اليهودي “بيريتس سمولنسكين”، تطرق فيه إلى “الوطن التاريخي لليهود – أرض إسرائيل – واللغة العبرية المرافقة للشعب اليهودي عبر التاريخ الطويل الذي عاشه هذا الشعب”.وبعد ذلك قرر ترك دراسة الطب والتوجه لدراسة التربية والتعليم تحضيرًا للسفر إلى فلسطين ليقوم بالتعليم في المدرسة الزراعية “مكفيه يسرائيل”([3]).فور وصوله إلى ميناء يافا، قرر مع زوجته أن يتكلما بالعبرية فقط. وقرر أيضًا إقناع المتدينين اليهود في القدس بأن يتكلموا العبرية بدلًا من لغة اليديش، ولكنهم رفضوا جعل العبرية المقدسة لغة الشارع اليومية. وبعد ذلك بدأ في تدريس اللغة العبرية في مدرسة “كول يسرائيل حفريم”.وأظهر اهتمامًا كبيرًا في نشر اللغة العبرية من خلال الصحف والمجلات التي أصدرها، حيث جدد وأوجد كلمات كثيرة لم تكن موجودة في اللغة العبرية. وحاول الوصول إلى أسلوب لغوي يتميز بالبساطة والملاءمة لاحتياجات الناس اليومية، بشكل مختلف تمامًا عن “اللغة العبرية المقدسة”. وقام بن يهودا بوضع أول قاموس للغة العبرية الحديثة (الإسرائيلية)، وأسس “لجنة اللغة العبرية” التي أصبحت مع الزمن “أكاديمية اللغة العبرية”؛ (أي مجمع اللغة العبرية).وعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، ضغط بن يهودا مع “مناحيم أوسيشكين” على المندوب السامي البريطاني “هربرت صموئيل” ليعلن أن اللغة العبرية هي لغة رسمية في فلسطين إلى جانب العربية والإنجليزية.


لماذا أصبحت العبرية لغة “إسرائيل”؟

يحكي المؤرخ “إيلان بابيه”، في مقال كتبه بمجلة “ميطاعام”، أن هرتسل وهو يخطط لدولته أراد أن تكون لغتها الرسمية هي الألمانية، لا العبرية، لأن الألمانية لغة التقدم والعبرية لغة “بدائية”.حيث كتب هرتسل في مذكراته بتاريخ 23 فبراير 1896: “إذا أقمنا دولة عبرية جديدة فستكون بمثابة يونان جديدة. ولكن إذا لم ننغلق في غيتو لغوي، فإن العالم كله سيكون في أيدينا”. واعتبر هرتسل أن تبنّي لغة القوى العظمى هي الطريقة المثلى من الناحية الثقافية، التي يجب أن تسلكها الحركة الصهيونية من أجل الشعب اليهودي في العالم المتحضر. وبهذه الطريقة ستتخلص دولة اليهود من خطر الانفصال الثقافي الذي عانت منه قوميات صغيرة مُصمِّمة على الحديث بلغات غير مفهومة من قِبَل “أبناء الحضارة”.صحيح أن وجهة نظره لم تنتصر في النهاية، وأن دولته المستقبلية تحدثت العبرية، ولكن ستحدُث تسوية بين العبرية واللغات الأوروبية، (وهو الأمر المُتعلق بمكانة العبرية حاليًا في إسرائيل).

هرتسل وهو يخطط لدولته أراد أن تكون لغتها الرسمية هي الألمانية، لا العبرية؛ لأن الألمانية لغة التقدم والعبرية لغة بدائية.

ولم يكن هرتسل وحده من عارض “إحياء العبرية”، فقد سبقه في ذلك “أبراهام جايجر”([4])، والذي كان من أنصار تبني لغة اليديش، حيث قال: “من يكتب العبرية في القرن التاسع عشر لا يعبر عن أحاسيسه الداخلية بل يعيش في عالم آخر، هو عالم التلمود والربانيين، ويفكر بنفس أسلوبهم”. فكان يرى أن العبرية لغة ميتة، بخلاف اليديشية، التي كان يتم اعتبارها لغة خاصة باليهود، عاشت معهم طويلًا، وكتبوا بها أعمالاً فنية وأدبية.وهنا، يظهر السؤال: لماذا أصرّ اليهود على جعل العبرية الإسرائيلية لغة دولتهم الجديدة؟.هناك أربعة عوامل أساسية كانت وراء اختيار العبرية لغة “إسرائيل”، وهي:

  1. ارتباط اللغة بإحياء القومية: أدركت الحركة الصهيونية أن اللغة المشتركة كانت أحد أهم مقومات نشأة القوميات في العصر الحديث، فاليهود لا يستطيعون أن يكونوا شعبًا حيًّا إلا بعودتهم إلى “لغة الآباء”، واستخدامها في الكتابة والتخاطب، فمن خلال اللغة تنشأ الثقافة القومية. وعلى ذلك، رفعت الحركة الصهيونية في بداية نشاطها في أوروبا شعار “أرضنا ولغتنا”.
  2. العبرية لغة التراث: أوضحنا سابقًا أن “العبرية المقدسة” هي اللغة التي كُتب بها التراث الديني اليهودي، ومن هنا جاءت أهمية تبني يهود “إسرائيل” للغة التي كُتب بها تراثهم الديني. فيقول الباحث “راؤوفين سيفان”: “كان الدين اليهودي عنصرًا محوريًّا في نجاح جهود إحياء اللغة العبرية، لأن المجتمع اليهودي في نهاية القرن التاسع عشر كان ما زال مجتمعًا محافظًا، تُستخدم عنده كلغة مقدسة”. وعلى ذلك، ربطت الحركة الصهيونية بين العبرية وبين الدين اليهودي.
  3. التمرد على الغيتو اليهودي ولغته: كانت الحركة الصهيونية في الأساس تمثل تمردًا على حياة اليهود التقليدية في أحياء الغيتو بأوروبا، بهدف القضاء عليها، وبالتالي، رفض التحدث بلغاتهم.
  4. لغة مشتركة: مع تدفق موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومع تعدد اللغات الأصلية التي نشأ عليها هؤلاء المهاجرون، كان من الضروري الاتفاق على لغة واحدة تحمل دلالات وإيحاءات صهيونية، وتمثل وعاء صهر لكل يهود العالم القادمين إلى فلسطين، ووجد اليهود ضالتهم في العبرية.

(الجزء الثاني من المقال سوف يناقش جدلية الإحياء والتأسيس في اللغة العبرية).


الهوامش:[1]أرض كنعان: هي أرض فلسطين ولبنان والأجزاء الغربية من الأردن وسوريا، كانت ذات أهمية كبيرة قديمًا، من الناحية السياسية؛ كونها النقطة المتنازع عليها بين الآشوريين والإمبراطورية المصرية.[2]– التناخ: تمثل الكتاب المقدس اليهودي، وهو أكثر أسماء الكتاب المقدس العبري شيوعًا في الأوساط العلمية، وأحيانًا يُسمى “المقرأ”.[3]مكفيه يسرائيل: مدرسة زراعية يهودية، وهي الأولى من نوعها في فلسطين، تأسست عام 1870 على طريق يافا القدس. وأُعيد تجديد المدرسة بعد الحرب العالمية الأولى، وتبنت إدارة المدرسة اللغة العبرية أساسًا للتعليم فيها من منطلق دعم وتقوية المعرفة بهذه اللغة، ولتصبح لغة التخاطب لليهود في فلسطين استعدادًا للمستقبل الآتي؛ ألا وهو إقامة دولة يهودية في فلسطين.[4]أبراهـام جايجر (1810-1874): عالم يهودي ألماني، تَزعَّم الحركة اليهودية الإصلاحية في ألمانيا. حاول أن يُدخل على اليهودية مفاهيم معاصرة أقل قَبَلية وأكثر عالمية من المفاهيم السائدة في عصره، ودعا إلى عقد أول مؤتمر للحاخامات الإصلاحيين عام 1837، وأسس في برلين مدرسة لدراسة علم اليهودية، واستمر في التدريس فيها حتى وفاته.
المراجع
  1. عبد الوهاب المسيري، "الأكاذيب الصهيونية من بداية الاستيطان حتى انتفاضة الأقصى"، (القاهرة: دار المعارف، 2002)، ص 25.
  2. عبد الوهاب المسيري، "موسوعة اليهود واليهودية الصهيونية"، المجلد الثالث، ص ص 451: 455.
  3. محمد أحمد صالح حسين، "اللغة العبرية والجهود الصهيونية لإحيائها"، (الرياض: مجلة جامعة الملك سعود، 2005)، ص ص 9: 13.
  4. نائر الطوخي، "كيف تعلمنا العبرية شيئاً عن ذواتنا: شهادة شخصية وغير شخصية"، موقع مدى مصر، 10 يوليو 2015.
  5. "اللغة العبرية"، موقع الموسوعة الفلسطينية.
  6. دمتري شومسكي، "موت اللغة العبرية في عالم الأكاديميا"، موقع صحيفة الأيام الفلسطينية، 15 ديسمبر 2015.
  7. "بن يهودا، اليعازر"، موقع مركز مدار (المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية).
  8. "كتب يهودية مقدسة"، موقع مركز وفا (مركز المعلومات الوطني الفلسطيني).