يبدو أن السمة المشتركة بين الإنتاج الفني في الشرق الأوسط هي الهجمات غير المُبررة من مراكز القوى المتعسفة والرافضة لأي محاولات من صناع السينما للتعبير. ذكرني فيلم «إخوة ليلى» بطليعة أفلام الثمانينيات والتسعينيات المصرية من القرن الماضي، بشكلها الاجتماعي الجاذب الذي يلفت انتباه الفرد العادي في المجتمع، لما يستقبله من حماس في رؤيته لعمل ممتع يمثله ويشبه أفكاره عن نفسه ومن حوله ممن يشاركونه حياته المليئة بالزحام والغلاء ودخان أتوبيسات النقل العام.

عادةً لا أشعر بالغربة في مشاهدة الأعمال السينمائية الإيرانية القليلة المستقلة، التي ترى طريقها للنور بعيداً عن الأغلال المحيطة، والمتمثلة في قرارات الحكومة التي تتصدى لأي محاولة للتعبير والإبداع؛ فهي تُذكرني بالوضع الراهن من التضييق الحاصل على أي فرصة للخروج من سرب أعمال «الكومباوندات» ومسلسلات الوعظ للرجوع إلى قيم الأسرة والوطنية الزائفة.

يتناول الفيلم في سلاسة باهرة علاقة الأب الطاعن في السن بأبنائه، ومدى تعقدها بسبب تمسكه بأفكاره العتيقة عن الأسرة والمكانة المزيفة التي يسعى للحصول عليها من أبناء عمومته، وبين أحلام الأبناء المحطمة بسبب ظروفهم الاقتصادية وأحوال البلاد المتخبطة، التي لا تنفك تهزمهم وترجعهم لنقطة الصفر مرة أخرى.

الهزائم المتوارثة

يبدأ الفيلم بعرض أحوال الأبناء المتخبطة، بين فقر وتسريح من العمل والعجز عن رعاية الأطفال المتكدسة في منزل صغير – في حالة الابن الأكبر «بارفيز» – ثم يتراءى لنا وضع الأب اللاهث على جذب العطف والاحترام من أقاربه الناظرين له كشخص غير جدير بالقيادة، رغم سنه، بعد موت كبير العائلة.

نجد نموذجاً لأب يائس، يبحث عن قيمة وسط أناس لا يقدرونه، بعدما أفنى سنوات حياته في وظيفة حقيرة لا يتم أيضاً تقديره بها، يتكسب منها مالاً لا يُثمن ولا يغني من جوع. نموذج لا يختلف عن نماذج كثيرة توجد في مجتمعاتنا العربية، من رجال متمثلين في أقارب لنا أو معارف هزمتهم السنون والحروب، وكذلك الحكومات الخادعة بأفكار حول ضرورة التضحية من أجل مستقبل أفضل للأجيال التالية.

يُمثل البيت المتداعي الذي يعيش فيه «إسماعيل» الجائزة الوحيدة في حياته، فلا ينفك يذكِّر الأولاد بهذا الإنجاز وتفضله بإقامتهم معه. لا أدري لماذا ذكرتني شخصية «إسماعيل» بشخصية «الوحش» في فيلم «أقوى الرجال»؛ ربما لاشتراك الشخصيتين في الحقارة والانكسار طوال حياتهم، وعندما يحصلون على الفرصة في سلب مجدهم يتحولون لأشخاص حاقدة؛ الحقد والانتقام هما ما يدوران في خلدهم فقط.

يستمر الفيلم في عرض محاولات الأبناء لشراء المكان الذي تقنعهم «ليلى» بشرائه، لضمان دخل مضمون لإخوانها المتخبطين في الحياة وحرصها على تجميل صورهم في أعينها كرجال قادرين على تأمين حياة مناسبة لأنفسهم وعوائلهم. يُشعرني إصرار «ليلى» لإنجاح هذا المشروع عن دوافعها الحثيثة لإلقاء بعض من مسئولية أبويها – المتذمرين دائماً – عن عاتقها لإخوتها الذكور، في محاولة منها للتخلص من أسلوب احتقارهم لها، برغم مشاركتها الأساسية في النفقات والعناية بهم كعجائز في حاجة للدواء والراحة دائماً؛ على العكس من باقي الإخوة المنغمسين في حياتهم دون إلقاء بالهم لرعاية الأبوين، وبرغم ذلك يلقون بعضاً من الاحترام، وعلى الجانب الآخر تُنعَت الابنة بألقاب كالعاهرة.

محفزات الدولة القمعية

عند رؤيتي للفيلم لم أتوقع أن تكون هناك خلافات حوله لكونه فيلماً اجتماعياً بحتاً – على الأقل بالنسبة لي – لم يتطرق بشكل مباشر للقضايا السياسية الشائكة في إيران، ولكن يبدو أن للحكومة الإيرانية رأياً آخر؛ فتبع مشاركة الفيلم في مهرجان «كان» السينمائي، محاكمة مخرج الفيلم «سعيد روستاي» ومنتجه، والحكم عليهما بالسجن لمدة ستة أشهر، والمنع من الإنتاج الفني لمدة خمس سنوات، أو حتى التواصل مع العاملين في نفس المجال، بالإضافة إلى إلزامهم بحضور دورة تدريبية لصناعة  الأفلام مع الحفاظ على القيم الأخلاقية والوطنية في جامعة «قم» الإيرانية.

أما بالنسبة للتهمة المثيرة للضحك، فهي خلق ضجة ضد نظام الحكم الإسلامي في الدولة. وقد تم منع الفيلم من العرض بسبب اشتراكه في مهرجانات دولية دون الحصول على تراخيص، ورفض المخرج تصحيح الوضع بعد طلب وزارة الثقافة.

بالطبع أنا لست باحثة في الشأن الإيراني، ولكن من الجلي أن إهداء المخرج الفيلم لضحايا حادث مدينة «عبادان» الذي أدى إلى مقتل 43 شخصاً، حيث أسفر انهيار المبنى غير المكتمل عن إشعال العديد من الاحتجاجات، مما أثار استفزاز المسئولين ودفعهم للانتقام من صناع العمل، الذين أدى الحكم عليهم لإثارة عدد من صناع الفن في العالم، للدفاع عن المخرج والمنتج، وذلك مثل «مارتن سكورسيزي»، الذي شارك عبر مواقع التواصل الاجتماعي «عريضة» للتوقيع عليها للتنديد بالحكم على المخرج.

ربما يكون السبب في منع الفيلم هو مواقف العاملين فيه الثورية، كموقف بطلة الفيلم «ترانه عليدوستي» من الاحتجاجات المستمرة بعد مقتل الشابة «مهسا أميني» بعد اعتقالها من قِبل «شرطة الأخلاق»؛ حيث تم القبض على الممثلة بعد نشرها صورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي دون الحجاب الإلزامي، وهي حاملة لافتة عليها شعار الاحتجاجات «النساء .. الحياة .. الحرية»، وتم الإفراج عنها بعد ثلاثة أسابيع من الاحتجاز.

عقوبات الولايات المتحددة وذهب «إسماعيل»

يعود تاريخ عقوبات الولايات المتحدة الأمريكية على إيران إلى عام 1978، مروراً بعام 2018 عندما قرر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، فرض عقوبات اقتصادية على إيران مُستهدفة بشكل رئيسي قطاع النفط، الذي تعتمد عليه إيران بشكل حيوي لتوفير العملات الصعبة، مع استهجان شديد لهذا القرار بعدما تم الاتفاق على رفع العقوبات في العام 2015 بعد اتفاق حول البرنامج النووي لإيران.

مع تضخم العملة في إيران، والخوف من المستقبل، ازداد شراء العملات الذهبية، ويبدو أن بطلنا المُتفاني «إسماعيل» قرر تجميد مدخراته في العملات، حتى ينتفع بها في كسب احترام عائلته، ولكن يبدو أن لـ «ليلى» رأي آخر، حتى أنها سرقتهم لتقنع إخوانها بالاستثمار في المحل، ليهربوا من سحابة الفقر القابعة فوقهم.

المثير للانتباه هي مشاعر الذكور الأربعة المُشتتة، ما بين السعي لتحقيق حلمهم بالاستقرار المادي، وبين الخوف من خسارة رضا أبيهم الكهل وصاحب المأوى الذي يجمعهم؛ خصوصاً «علي»، الأخ الأقرب لـ «ليلى»، والتي تستجدي عطفه طوال الفيلم لمساعدتها في إتمام المشروع.

تظهر شخصية «علي» المسالمة، التي تُفضِّل العيش بعيداً عن «دراما العائلة» وصراعات باقي إخوته مع الأبوين، كأنه الابن المثالي الذي لا يقدر أن يأخذ العملات الذهبية لتنفيذ ما فيه مصلحة له ولإخوته، وذلك خوفاً من ردة فعل أبيه، وحرصاً منه على استرضائه طوال الوقت.

ولكن على الجانب الآخر يُوضِّح الفيلم كيف أن للأب دوراً رئيسياً في تعاسة هذا الابن الوديع، وحرمانه من الحق في اتخاذ قرارات تخصه، ومع هذا يُصر «علي» على بيع المحل مرة أخرى ليستعيد عملات أبيه.

تُوضِّح رحلة الأبناء في إعادة شراء العملات حالة خانقة من التضخم الذي يعيشه كثير من الأشخاص في بلادنا، حيث تستمر أسعار العملات في ازدياد مع انخفاض قيمة الأموال، وتتخبط مشاعرهم بين الندم والحسرة على بيع المحل، وتفويت آخر فرصهم للحصول على حياة بها بعض من الاستقرار المادي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.