هذه هي الخامسة من سلسلة رسائل يكتبها «ياسين الحاج صالح» لزوجته سميرة الخليل، المخطوفة في دوما منذ مساء يوم 9/12/2013، يحاول فيها أن يشرح لها ما جرى في غيابها. نشرت لأول مرة في موقع «الجمهورية».


سمور، حاولت في الرسالة السابقة أن أعطيك فكرة عن الوضع الإنساني لسوريا، ويقال عنه بين حين وآخر إنه أسوأ أزمة إنسانية منذ أيام رواندا عام 1994، وأكبر أزمة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية. لكن ما أجده أنا فظيعًا هو شيئان. أولًا أن نكبتنا جرت عمليًا بإشراف عالمي، وبحضور أمريكي وروسي وفرنسي وبريطاني، ودون نقص في المعلومات الموثوق فيها، وطوال ست سنوات ونصف تقريبًا (وليس ثلاثة شهور مثلما في رواندا)؛ ثم إن عنوان هذه الكارثة الوطنية والإنسانية، بشار الأسد، ليس في موقعه بعد كل هذا الوقت، بل يجري الكلام اليوم عن «إعادة تأهيل» النظام، وهو ما يعادل مكافأته على هذا المسلسل الإجرامي الخارق.

ما معنى ذلك يا سمور؟ ما معنى أن يقتل نصف مليون، وتحطم حياة الملايين، وتعمل القوى القائدة في النظام الدولي، وفي عالم اليوم، على إعادة تثبيت الأوضاع التي أدت إلى الكارثة، والطاقم الحاكم المسئول مباشرة عن مقتل أكثر من 2% من محكوميه؟ معناه ببساطة أن موت من ماتوا لا قيمة له، أن عذاب من عُذِّبوا لا اعتبار له، وأن تحطيم حياة الملايين لا مقابل له. أعتقد أنه يقال لنا إن مئات الألوف الذين قتلوا ذهبت حياتهم هدرًا، وكذلك صرخات كل من عذبوا، وكل آلام الأمهات والآباء والأطفال لا شأن لها ولا اعتبار، وأن هذا كله ليس ثمنًا لأي شيء، ولا يعود عليكم بأي نفع. ليست الدماء ثمنًا للحرية، وليس الضحايا قرابين للخلاص؛ وباختصار: موتانا ليسوا شهداء، وليست لنا قضية. ولن تؤدي المحنة الرهيبة إلى التغيير السياسي، ولن يحاسب القتلة ولن تتحقق العدالة، ولن يُفتح أفقٌ جديدٌ أمام البلد، ولن يصير السوريون في موقع أفضل للتحكم بحياتهم وصنع مستقبلهم.

يعني أن موت من ماتوا لن يحمي حياة من ظُلوا أحياء، وأن عذاب من عذبوا لا يضمن في شيء ألا يعذب من لما يعذبوا بعد.

هل يمكنك أن تتخيلي ذلك يا سمور؟ حين تحرم معاناتنا من أن يكون لها معنى، نخرج عمليًا من الدائرة الإنسانية التي هي دائرة معاناة ومعنى، فإما أننا ندرج في دائرة الأشياء التي لا تعاني ولا تعني بينما يكون مهندسو نكبتنا وحدهم البشر، أو نكون بشرًا مخفوضي المرتبة، بينما مهندسو نكبتنا فوق البشر، وربما آلهة. هل تتخيلين ذلك يا سمور؟ العنصرية تتفوق على نفسها، وعلى حساب كائن مثل داعش يستطيع أي عنصري فاشي أن يضع على وجهه قناع المتحضر المتحرر الرفيع الشأن.

حين يعتبر موت 100 منا مثل موت 1000 مثل موت 100 ألف مثل موت مليون، صفر في كل حال، فإنه يقال لنا عمليًا إن كل واحد منا وكلنا معًا صفر، وإن إبادتنا ليست خسارة، ولا عواقب لها. لا بد أنهم آلهة أولئك الذين أخرجوا محنتنا على هذا النحو حتى تكون قِلّتنا مثل كثرتنا أمامهم. وبالفعل تقارب قضيتنا من مدخل «الحرب ضد الإرهاب»، الذي لا يكتفي بإباحتنا، بل هو حكم مسبق بالإدانة علينا كإرهابيين أو «حواضن اجتماعية» للإرهاب، مثلما قال بشار الأسد. هكذا نسير من الحرمان من المعنى إلى الإباحة والحرمان من العدالة إلى الإبادة والحرمان من الحياة.

هذا مرعب يا سمور. أن نُهَجَّر ونُدَان، أن نُعَذَّب ونُدَان، أن نُقْتَل ونُدَان. أن يُدان المعتدى عليهم والمقتولون بدل المعتدين والقتلة. مرعب أن نُلعن هكذا، أن نعامل كملعونين من آلهة قاسية، متروكين لعذاب بلا نهاية، لا يُجدينا شيء ولا ينقذنا شيء.

يقولون إنه لا بديل عن بشار الأسد، يجددون انتدابه علينا لأنه مضمون وتحت السيطرة. ما يريده المتحكمون بعالم اليوم هو امتلاك تغييرنا، هو أن يقرروا هم مقدار التغيير واتجاهه وإيقاعه ومحصلاته، وليس نحن. أي أيضًا ألا يكون لنا تاريخ. أو أن يكون تاريخنا بالكاد فرعًا من تاريخ المتحكمين.

وما يروّع في كل ذلك يا سمور هو أنه حكم مبرم على أحسن جهودنا بألا تترك أثرًا، وبألا يثمر شيئًا كل ما يمكن أن نقوم به بإخلاص. فعلنا مثل عدم الفعل، ومحصلته في كل حال صفر. هذا تسليم لليأس، بل هو حكم بالموت، واستئناف لعمل بشار الأسد.

هذا القصة السورية لا تشبه غيرها من قصص التاريخ الحديث المليء بالدم والعناء. القصص الأخرى إما كانت غير معلومة بهذا القدر، أو كانت محلية لم تشارك فيها القوى العالمية القائدة، أو هي لم تستمر كل هذا الوقت، أو لم تكن مهولة الكلفة البشرية والمادية ومدمرة للمستقبل مثل قصتنا. أما أن تكون القمة الدولية موحدة أو هي تتوحد بعد انقسام في بلدنا إلى جانب القاتل الأول (أو في حياد إيجابي تجاهه)، فهذا ما يجعل قصتنا عالمية، قصة العالم.

والمشكلة أن الاستخلاص السياسي الوحيد الصحيح من ذلك هو وجوب تغيير العالم. إذ ما دام العالم هو العائق أمام التغيير، وهو من ينكر على حياتنا المعنى، وجب أن يتغير كي نحيا ويكون لحياتنا معنى. لكن يا سمور هذا يعني الحكم علينا بالخروج من الفعل، من السياسة، من محاولة التأثير على مصائرنا إلى أمد يطول. تغيير العالم ليس كلمة تقال، إنه اسم لمصير رهيب. تعلمين هذا من عملنا لتغيير سوريا. العالم سوريا كبيرة يا سمور، وتغييره يعني تعميم الرهيب الذي أصابنا في العالم كله.

لكنه يبقى التحدي الوحيد الذي من شأن الاضطلاع به أن يعيد المعنى إلى عنائنا، ويكرم ضحايانا، ويجعل من مأساة سوريا حدثًا مغيرًا لعالم يجب أن يتغير. ما لا معنى له هو العالم الذي ينكر معنانا، وتغييره هو الواجب من أجلنا ومن أجل غيرنا ممن يعانون كثيرًا ويعنون قليلًا.

تعرفين سمور أن معلمنا القديم ماركس كان أوجب على الفلاسفة تغيير العالم وليس الاكتفاء بتفسيره، وفيما بعد أناط تغيير العالم الذي كانت الرأسمالية توحده بالبروليتاريا، الطبقة المستغَلة والمنظمة في عالم الرأسمالية، التي ليس لديها ما تخسره من الثورة، ويمكن أن تكسب كل شيء. في عالم اليوم، المدعوون إلى تغيير العالم هم من ينكر عليهم العالم المعنى، من يطردون من التاريخ، من يقتلون ويعذبون ويهجرون، ومن يُقلّل من شأنهم طوال الوقت.

نحن يا سمور بروليتاريا المعنى، المنبوذون خارج المعنى، الملعونون المدانون الذين لا يحق لهم أن يدينوا، الذين ينكر عليهم القول في شئون الخير والشر. قضيتنا اليوم هنا يا سمور. في موقع غير مستقر بين إنكار المعنى علينا وبين التطلع المأساوي إلى تغيير للعالم من أجل أن يكون لنا معنى.

ومن تغيير عالمنا القريب أولًا. الإسلاميون، وهم مشمولون بإنكار المعنى مثلنا، أضيق أفقًا وأشد أنانية من أن يكونوا قوة للتغيير وللمعنى. أنت شخصيًا تجسدين أكثر من أي إنسان آخر صغر الإسلاميين، وعجزهم المتأصل عن المساهمة يسهم في تجدد العالم، مبنى ومعنى. عدميون، يائسون وبائسون.

نحن يا سمور من لا نخسر أي شيء من تغيير عالم اليوم. نحن الملعونون الذين لا معنى لنا غير العمل على تغيير عالم ينفي معنانا. نحن الذين منك ومعك. لكن، مرة أخرى، هذا مصير رهيب وليس فكرة شجاعة تُدوّن لننتقل إلى غيرها. والمصير يملِك ولا يُمتلك. أعرف هذا منذ أن خُطفت وغيبت. أراه بعيني وبعينك.

«في عالم يهلك»، «الواحة» هي أنت في حصارك المضاعف أو المثلث. اسلمي لي يا سمور.

بوسات يا قلبي

ياسين