شهدت إسرائيل احتجاجات شعبية غير مسبوقة، وسط حالة انقسام عميقة بسبب وجود اليمين الصهيوني إلى السلطة، فقد نزل إلى الشوارع مئات الآلاف من المحتجين اليهود، وعم الإضراب العام كل القطاعات مما أدى إلى تعطيل مرافق البلاد كالمطارات والمستشفيات والمدارس.

ورفض الجنود وضباط الاحتياط استدعاءهم إلى الخدمة العسكرية، ووقع عدد من العسكريين مذكرات احتجاج، وأعلن العديد من طياري سلاح الجو مقاطعة تدريباتهم، واعتبر رئيس الوزراء السابق والزعيم المعارض حاليًا، يائير لابيد، هذه الأحداث «أكبر أزمة في تاريخ البلاد».

واشتعلت هذه الاحتجاجات بسبب رغبة الحكومة بقيادة بنيامين نتنياهو في تمرير تعديلات تحد من قوة السلطة القضائية الإسرائيلية، مما أثار غضبًا شعبيًا واسعًا، دفع وزير الدفاع، يوآف غالانت، لدعوة نتنياهو لتجميد المشروع، فأقاله الأخير من منصبه في 26 مارس/آذار الجاري، فكان ذلك الشرارة التي أوصلت الاحتجاجات إلى ذروتها.

وانتقد البيت الأبيض مساعي نتنياهو لإقرار التعديلات القضائية، مما استدعى ردود حادة من الأخير وحلفائه على الجانب الأمريكي رفضًا لـ«تدخلاته» في الشئون الإسرائيلية، وحاول التيار الصهيوني اليميني المؤيد لنتنياهو موازنة الكفة فنظم مظاهرات مضادة لتأييد تمرير الإصلاحات، ووصلت الأوضاع إلى أقصى درجات التوتر، فتراجع نتنياهو وأعلن تعليق الخطة فعاد الهدوء إلى إسرائيل مؤقتًا وتم وقف الإضراب العام.

ما هي التعديلات القضائية؟

بعد فوز ائتلاف يقوده نتنياهو بانتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، سعى حلفاؤه اليمينيون الأكثر تطرفًا للاستفادة من وجودهم القوي في الحكومة في مد نفوذهم أيضًا إلى القضاء الذي ظل عصيًا على هيمنتهم.

فهذا التيار يرى أن المحكمة العليا يهيمن عليها تيار اليسار، وبالتالي لا تمثل شرائح المجتمع اليهودي بشكل متوازن، ويريد اليمين تعديل الوضع خلال وجوده في حكومة لا يعلم مدى استمراريتها.

فاليهود المتدينون الذين ينحدر الكثير منهم من أصول شرقية يريدون إنهاء هيمنة اليهود العلمانيين الذين ينحدر الكثير منهم من أصول أوروبية، ومن ضمن نقاط الخلاف بين الطرفين ميل اليمينيين إلى فرض تشريعات ضد الشواذ وتقييد حرية الصحافة وتشجيع الاستيطان في الضفة الغربية، ومن أبرز رموز اليمين في الحكومة، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وهو مستوطن سبق أن اعتقله الأمن الإسرائيلي بتهمة الإرهاب، وكذلك وزير الأمن الداخلي، إيتمار بن غفير، وهو من أصول عراقية.

وتهدف الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، إلى السيطرة على اللجنة التي تعين القضاة، ومنح الكنيست حق إبطال قرارات المحكمة العليا بأغلبية بسيطة -نظرًا لامتلاكهم هذه الأغلبية حالياً- وتحصين منصب رئيس الحكومة بشكل كبير من احتمال عزله.

وتأتي المحكمة العليا على رأس الجهاز القضائي الإسرائيلي، وتضم 15 قاضيًا، وتتمتع بسلطة إلغاء أي قانون تراه متعارضًا مع القوانين الأساسية (تمثل هذه القوانين المرجعية العليا بسبب عدم وجود دستور لإسرائيل)، أو تعتبره «غير معقول» من وجهة نظر قضاة المحكمة، وبذلك تمارس الرقابة على السلطتين التنفيذية والتشريعية.

ويجادل نتنياهو وحلفاؤه بأن التعديلات المقترحة تحقق التوازن بين السلطات ويرى المعترضون أن المشروع يحصن شخص نتنياهو الذي يواجه تهمًا منظورة أمام القضاء تتعلق بتورطه في الفساد والرشوة، لكنه يعتبر هذه التهم كيدية.

كما تتخوف المعارضة من أن إضعاف المحكمة العليا سيفتح الباب أمام الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة دون رقابة قانونية، ويفتح المجال كذلك للمتشددين لنيل مزايا لطائفتهم لن تسمح بها المحكمة العليا.

كما أن المساس باستقلال السلطة القضائية في إسرائيل يعد مؤشرًا على غياب دولة القانون والمؤسسات، مما يطعن في ركيزة مهمة في الكيان الصهيوني الذي روج لنفسه على أنه واحة الديمقراطية في المنطقة، وانهيار هذه الصورة له تداعيات وخيمة على الكيان؛ فمن دون صورته الجاذبة في عيون اليهود سيصعب جلب مهاجرين جدد للعيش في ظل نظام قمعي، ويصعب أيضًا إقناع الشباب اليهودي بمواصلة العيش في ظل هذا النظام الخانق، وخلال الاحتجاجات الأخيرة أعلن طيارون معترضون على التعديلات القضائية أنهم «غير مستعدين لخدمة نظام ديكتاتوري».

فبحسب عبد الوهاب المسيري في موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية»، فإنه رغم كون النظام السياسي الإسرائيلي نظام عنصري قائم على التفرقة والتمييز بين السكان، فإن مؤسسات هذا النظام وشكل عملها اعتمدت على الديمقراطية الشكلية بهدف جذب اليهود من جميع أنحاء العالم للهجرة والقدوم إلى هذا الكيان، وبالذات من دول الغرب ذات النظم الليبرالية، واحتواء المستوطنين سياسيًا وضبط حركاتهم واتجاهاتهم بما ينسجم مع أهداف الحركة الصهيونية.

فإسرائيل ليست دولة حقيقية بل مجرد تجمع لمستوطنين أجانب جاءوا من دول شتى من شرق العالم وغربه، وليس لهم جذور في هذه الأرض ولا تتابع جيلي يجعلهم يتمسكون بها بحلوها ومرها، بل إن كثيرًا منهم ظلوا يحتفظون بعناوين وبيانات أقاربهم في الدول التي جاءوا منها، وكثيرًا منهم ظل يحتفظ بلغته وثقافته الأصلية ولديه خطط للعودة، ومع تزايد الأخطار الأمنية يزداد عدد من يطلبون جنسيات دول غربية وتزداد الهجرة العكسية إلى الخارج.

العلاج بالمُسكنات

لم يجد نتنياهو حلًا أمام المعارضة الجارفة إلا التراجع، فقرر تعليق المشروع بهدف الوصول إلى صيغة أقل إثارة للجدل، فهدأت الشوارع وتوقف الإضراب العام، رغم عدم ثقة المعارضة برئيس الوزراء.

وأعلن زعيما الحزبين المعارضين، يائير لبيد وبيني جانتس، استعدادهما للحوار برعاية الرئيس إسحق هرتسوغ الذي استضاف أولى الجلسات في مقر إقامته في القدس المحتلة.

بينما كشف إيتمار بن غفير أنه لم يقبل بتأجيل الخطة إلا بعد أن جعل نتنياهو «قوات الحرس الوطني» تحت سلطته، وهي ميليشيا متطرفة تقرر تأسيسها لتضم اليهود المتشددين، وأعلنت الخارجية الفلسطينية في بيان لها عن تخوفها من عواقب تشكيل هذه الميليشيا، وحذرت نتنياهو من إطلاق يد بن غفير ضد الفلسطينيين.

ومن المقرر أن يعيد نتنياهو عرض التعديلات القضائية في الدورة البرلمانية المقرر لها أن تبدأ في نهاية شهر أبريل/ نيسان، بينما حذر لبيد وغانتس في بيان مشترك لهما من أنهما سينسحبان من المفاوضات فورًا إن تم إدراج المشروع على جدول أعمال الكنيست البرلمان.

عقدة العقود الثمانية

منذ سنوات يسود الكيان العبري قلق بالغ على مصيره، على اعتبار أن حكم اليهود عبر التاريخ لم يتجاوز ثمانية عقود، وبالتالي فإن قادة إسرائيل يتخوفون من عدم تجاوز دولتهم لهذه المدة أيضًا بسبب الانقسامات الداخلية وفقًا لسنن التاريخ.

فرئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، تعهد عام 2017 بأن يبذل جهده كي يبلغ عمر إسرائيل مائة سنة، قائلًا «التاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة»، ونفس الكلام ردده رئيس الوزراء الأسبق، إيهود باراك، في مقال له معربًا عن مخاوفه من تفكك دولته لأنها «على وشك دخول عقدها الثامن، وأخشى أن تنزل بها لعنته كما نزلت بسابقاتها».

ونفس التحذير كرره رئيس الوزراء الأسبق، نفتالي بينيت، في 3 يونيو/حزيران الماضي، قائلًا إن الدولة تواجه احتمال الانهيار بشكل غير مسبوق بسبب الانقسامات بين مكوناتها المختلفة، مذكرًا أيضًا بتفكك دولة اليهود في السابق مرتين كلتيهما بسبب النزاعات الداخلية، معتبرًا أن إسرائيل تعيش «واحدة من أصعب لحظات الانحطاط التي عرفتها على الإطلاق»، كما حذر الرئيس السابق لجهاز الموساد، تامير باردو، من دمار إسرائيل عبر الإبادة الذاتية المتمثلة في الكراهية المتبادلة.

وقبل ذلك توقع عبد الوهاب المسيري «نهاية قريبة» للدولة العبرية ربما خلال 50 عامًا، وذلك عند احتفال اسرائيل بالذكرى السنوية الستين لإنشائها عام 2008، مبينًا أن الدورات التاريخية أصبحت أكثر سرعة مما مضى، وأن تل أبيب في حالة تقهقر بعد أن لحقت بها هزائم عسكرية متوالية، وأن الباحثين الإسرائيليين لا ينكرون هذا الأمر حتى كثرت الكتابات بينهم عن نهاية إسرائيل وأصبح ذلك من المواضيع المُملة المكررة.

فمع مرور الوقت ذهب الجيل المؤسس وهدأت فورة الاندفاع والتوسع، وظهر جيل تعود على واقع انكماش مساحات الأراضي المحتلة بخاصة بعد الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000، ومن قطاع غزة عام 2005.

ومع تفشي الانقسامات العميقة بين مكونات المجتمع الإسرائيلي فإن أزمة التعديلات القضائية تبدو مجرد عرض على مرض الانقسام المستشري في جسد الاحتلال، وكذلك لا يقدم قرار تأجيل التعديلات حلا للأزمة السياسية الراهنة لأن المحتجين يطالبون بإلغاء المشروع تماماً وليس فقط تأجيله.