يعرفه معظم المشاهدين باسم «تيد موزبي» لظهوره في مسلسل How I met your mother الشهير، لكن ما لا يعلمه الكثيرون أن «جوش رادنور» قد كتب وأخرج فيلمين من ضمنهما Liberal Arts، الذي يمثل سيرة شبه ذاتية، حيث يعود بطل الفيلم «جيسي» مسئول القبول بأحد الكليات في نيويورك إلى جامعته في أوهايو ليلقي خطابًا في حفل تقاعد معلمه المفضل، وتمضي الأحداث بهدوء فيستعرض جوش رادنور الحياة بخفة من منظور شخصياته التي تسكن عدة طوابق عمرية من الشباب والنضج والشيخوخة.

في لقاء له بعد عرض الفيلم، يقول «جوش» إن فكرة الفيلم خطرت له عندما عاد إلى أوهايو في عرض فيلمه الأول happy. Thank you. More please، فتساءل: ماذا لو وقع في حب إحدى الطالبات هناك؟ كيف يمكن لقصة كهذه أن تحمل تعقيدًا مثيرًا للاهتمام؟ ولأن جوش من مواليد أوهايو بالفعل، يشعر المشاهد بحيوية المشهد الذي يعود فيه جيسي إلى أوهايو، ويتراقص على المقاعد ويلقي التحية على الشجرة الموجودة في حرم الجامعة.

ماذا نعرف عن الحياة؟

تتحرك المشاهد كما لو كان الفيلم نوتة موسيقية تتنقل بين الشخصيات بإيقاع مألوف، ليعزف كل منهم منفردًا في مونولوج يعكس وجهة نظره في الحياة.

يحملنا المرح والقبول بكل ما تمنحه الحياة إلى عالمٍ حالمٍ مع «إليزابيث» التي تؤمن أن الحياة مسرح ارتجالي يجب الموافقة على اختياراته مهما كانت خارجة عن المنطق. نشعر بالضغط مما ينتظره المجتمع منا، فنلجأ للهرب مثلما فعل «دين» الذي ظن أنه لا يستحق الحياة، فقرر إنهاءها بعدما أدرك أن الكتب لا تحمل وعدًا بالخلاص كما ظن. على عكس «نات»، ذلك الطالب الفريد الذي قام بدور الملاك الحارس لـ جيسي، وبفلسفته عن الحياة استطاع إقناعه أن كل شيء بخير وأن الحياة حتى وإن كانت قاسية فكل منّا يستحق وقتًا كي يتحول من شرنقة إلى فراشة.

في مشهد آخر نلتقي بـ «بروفسور جوديث»، التي تعلن أنها لا تمتلك وقتاً تضيعه في الترهات الرومانسية التي لا طائل منها، وتكفر بما تدرسه لطلابها من قصائد وأشعار.

لأن الفيلم إنساني بالدرجة الأولى تركز الكاميرا دوماً على العنصر البشري في معظم اللقطات، ويشعر المشاهد أنه يجلس إلى الشخصيات على طاولة الطعام ويتحدث معهم بحميمية يخلقها دفء الألوان وتشابه الأماكن مع المطاعم والمكتبات والغرف التي يسكنها معظم أبناء المدينة.

نتعرف على الفوضى التي تواجهنا بعد النضج مع جيسي، فنتأرجح ما بين الظن أننا اكتشفنا ما تريده الحياة منا وبين الاشتياق للماضي المليء بالإمكانات اللا نهائية. بعد مرور خمسة عقود أو أكثر، تنكشف جميع الأوهام ونرى الأشياء على حقيقتها مع تسوية «بيتر» لمعاشه، ليصاب بعدها بمتلازمة ستوكهولم، ويحاول بيأس الرجوع إلى منصبه مُعلنًا فشله في التخلي عن حياته كما يعرفها.

هل العمر مجرد رقم؟

في مشهد مليء بالتوتر، يقوم جيسي بحساب الفارق في العمر بينه وبين إليزابيث ليسخر منه القلم، فقد كان يملك من السنوات ستة عشر عامًا قبل أن تأتي هي إلى الحياة، ستة عشر عامًا تشكل عائقًا أمام مشاعر الإعجاب التي تنمو بينهما، رغم فارق العمر في تفصيلة كلاسيكية تدفعنا للتساؤل: أيمكن أن يستمر الحب رغم هذا الفارق الكبير، أم أن العمر مجرد وهم؟

يحسم إليزابيث وجيسي إجابة هذا السؤال كل بطريقته، فرغم أن جيسي يدفع إليزابيث إلى الشعور بخيبة الأمل حين يرفضها، إلا أنها تدرك فيما بعد أن لديها من العمر ما يكفي كي تلتقي بنسختها الناضجة في الوقت المناسب دون أن يكون جيسي هو الطريق المختصر لهذا. أمّا هو فيقع في الحب مع «آنا» معتبرًا انجذابه لـ إليزابيث رغبة في العودة بالزمن إلى الوراء، بعيدًا عن فوضى «عالم الكبار» الخالي من الأحلام والموسيقى والمشي لمسافات طويلة والجدال حول هذا الكتاب أو ذاك.

يقول «جوش رادنور» إنه لا يحب الجانب الخاص بالأموال المتعلق بصناعة الأفلام، لكنه ينبهر عندما يتأثر الجمهور بأفلامه التي كانت مجرد فكرة تدور في خاطره يومًا ما، ومن الأفكار الضمنية التي يحملها الفيلم هي أن الطلاب قد يعلمون عن الحياة ما لا يعلمه معلموهم، ويظهر هذا واضحًا في فلسفة إليزابيث في الحياة وفي وضوح الرؤية والثقة التي يتحدث بها نات.

هل الموسيقى قادرة على إيقاعك في الحب؟

بعد سنوات من الغضب المتنكر، يبدو أن الموسيقى توسطت في خلق هدنة بيننا.
«جوش رادنور» في شخصية «جيسي فيشر».

يخلو الفيلم في بداياته من أي موسيقى تصويرية، إلى أن يستمع جيسي إلى أسطوانة الموسيقى الكلاسيكية التي غيّرت حياة إليزابيث فأرادت مشاركتها معه مثلما تشاركا الخطابات المكتوبة بخط اليد في نوستالجيا ناعمة، تؤمن بأن تلك الخطابات كانت أكثر صدقًا. لكن هل قد تدفعنا الموسيقى نحو الوقوع في الحب حقًا؟

ربما استطاع «فيفالدي» في «أوبرا جوستينو» أن يجيب عن هذا السؤال، فالموسيقى يمكنها أن تغير طريقة النظر للأشياء والأشخاص مثلما قام بيتهوفن وفاغنر بمصالحة جيسي على نيويورك، وجعله يرى الجمال الكامن في سكانها، لتصبح محتملة لا حِملاً يؤلم. لكن مع هذا الشعور، تحتاج قوة من نوع ما كي تستوعب هذا القدر من الجمال وإلا فستكون شهيدًا للروعة.

ما بين أرجوحة الواقعية والرومانسية

في مناورة ماهرة يعيدنا جيسي إلى الواقع بعدما تشاركنا معه رومانسية صادقة في مشاعره نحو إليزابيث، لكن لأن الحياة لا تسير كأنها رواية كلاسيكية، يفترق الثنائي بعدما اكتشفا الهوة الفاصلة بينهما. مع ذلك، ينضج كل منهما على طريقته ويرى الأمور بصورة أوضح، فتتمهل إليزابيث قليلاً وترضى بحقيقة أنها لم تبلغ العشرين بعد، فلتمزج حكمتها بقليل الطيش المناسب لعمرها.

أما جيسي فيتعرف على أمينة المكتبة التي تحفظ عاداته وتراقبه منذ زمن، فيقعان في الحب. رغم أن النهاية محسومة، لا يمتلك المشاهد إلا أن يتساءل: ماذا لو أن جيسي وإليزابيث خالفا المعتاد وتطورت علاقتهما؟

لأن جيسي يسعى دومًا إلى الشعور بالـ groundedness أو الاستقرار النفسي بعيدًا عن أمواج الحياة المتلاطمة، نجد أن مشهد استلقائه على العشب يتكرر عدة مرات، فأول ما يفعله عند عودته من نيويورك الخرسانية إلى أوهايو الخضراء هو أن يفترش العشب ويتنفس، وعندما تنمو علاقته مع إليزابيث يمد جذوره في الأرض ويفترشان سويًا العشب مرة أخرى عند أول لقاء بينهما، ثم في مشهد تعرفه على آنا يفترشان أرض المكتبة وتحيطهم الكتب، ويتحدثان لتنشأ بينهما رابطة -ذات سن مناسب.

ينتهي الفيلم تاركًا شعورًا بالألفة مع أبطال الفيلم، خلّقته الموسيقى الكلاسيكية الممتدة عبر المشاهد والحوارات العميقة التي تثير شجونًا وتجعلنا نعيد النظر في رحلة نضج كل منّا عبر الحياة والحب.

لا تقل لا… الحظ لا يبتسم لمن يقول لا.
«زاك إيفرون» في شخصية «نات».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.