تحرير فلسطين بين المفاوضة والمقاومة
في الحرب العالمية الأولى، دخلت القوات البريطانية فلسطين عام 1917. جرى هذا الاحتلال ظاهراً بدعوى تحرير فلسطين من الدولة العثمانية، وباطناً بهدف أن تتخلص بريطانيا وأوروبا كلها من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي سبّبها تدفق يهود أوروبا من شرقها إلى غربها، لهذا سرعان ما صدر تصريح وزير خارجية بريطانيا «جيمس آرثر بلفور» في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917، الذي يعهد فيه للحركة الصهيونية بإنشاء وطن قومي لليهود الصهاينة في فلسطين.
ومع وقوع فلسطين تحت الاحتلال البريطاني، تولّى قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية جيل من السياسيين من الطبقات العليا، درس في الغرب، فرفض دمج الإسلام في السياسة، ولم يستدع عقيدة الجهاد المسلح لتثوير الجماهير وتعبئتها ضد الانتداب البريطاني والغزو الصهيوني، لسببين:
- السبب الأول، أن هذا الجيل بحكم تكوينه العقدي رأى أن الحركة الصهيونية عدوه الرئيسي لا بريطانيا. كانوا بطبيعة الحال يعارضون «وعد بلفور»، لكنهم لم يعتبروا الوعد جزءاً جوهرياً في سياسة بريطانيا في فلسطين، بل إحدى سماتها «العرضية» غير الموفقة. فهم رأوا أن بريطانيا «صديق» يمكن أن تمنح فلسطين الاستقلال، إذا ما أقنعوها بأن سياستها ظالمة وخطأ، فحاولوا ذلك من خلال المفاوضات والأساليب الدبلوماسية والقانونية.
- السبب الثاني، الذي حال دون استدعاء النخبة الرسمية لعقيدة الجهاد، هو تأثرها بفكرة القومية العربية التي نمت وتطورت في الشام على أساس علماني، إذ ربط بعض مثقفي القومية بالخطأ بين الدولة العثمانية والجامعة الإسلامية. [1]
استغلت بريطانيا النخبة الرسمية العلمانية الفلسطينية والعربية، واشترت الوقت بدفعهم إلى مفاوضات ثم إلى مزيد من المفاوضات. ولكي تبدو في مظهر من يُرضي العرب واليهود الصهاينة معاً، فقد أقنعت الطرفين بضرورة تحقيق تدفق عادل لليهود الصهاينة على فلسطين، حتى لا يتجاوز القدر الذي تستطيع البلاد استيعابه، فجعل الصهاينة يقولون إن فلسطين تتسع لاستيعاب عشرات ومئات الألوف من المهاجرين، وجعل العرب يعارضونهم في ذلك، ونصّبت بريطانيا نفسها حكماً بين الطرفين. [2]
وإلى قبيل قرار تقسيم فلسطين في نوفمبر/تشرين الثاني 1947، كان ساسة العرب العلمانيون غارقين في أوهامهم، فيقول «محمد حسين هيكل» في الجزء الثالث من مذكراته، مُوضحاً موقف الأنظمة العربية آنذاك، وكان رئيس الوفد المصري بالأمم المتحدة، فيقول:
ظلّت النخبة الفلسطينية تتبع أسلوب المفاوضات والدبلوماسية، حتى جاء إلى فلسطين من سوريا «الشيخ عز الدين القسّام»، فغيّر مجرى حياتها، إذ استدعي عقيدة الجهاد المسلح لمجابهة التحدي الغربي.
القسّام من مواليد سوريا باللاذقية، درس في الأزهر، وتتلمذ على يد الإمام محمد عبده. بين عامي 1918 و1920 اشترك في ثورة سوريا ضد الاحتلال الفرنسي. حكمت عليه محكمة فرنسية بالإعدام، فغادر بلاده إلى فلسطين عام 1921، فاستقر في حيفا، إماماً لمسجد «الاستقلال».
آمن القسّام أن تحرير فلسطين لا يأتي على أيدي «الأفندية» ممّن شبّوا في مدارس الغرب، فاتخذوا المفاوضات طريقاً ومنهاجاً. تحرير فلسطين سيكون على سواعد الفقراء والفلاحين والعمال. الفلاحون الذين تُباع أراضيهم قسراً، والعمال الذين تسد الصهيونية أبواب العمل في وجوههم. يُحدد القسام طريق الخلاص:
اشتهرت خطب القسّام في مسجد الاستقلال بالحماسة الإسلامية، شاحناً إياها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحض على الجهاد بالنفس والمال. انتقد النخبة الرسمية إنفاقها الأموال على تشييد المباني وترميم المسجد الأقصى، ورأى الأجدى إنفاقها على تسليح الجماهير.
في عام 1925؛ أنشأ القسام جمعية سرّية «إخوان القسّام»، أخطر منظمة سرية، وأعظم حركة جهاد عرفها تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، يُطلق عليها «المنظمة الجهادية»، شعارها:
في عام 1928؛ انتخب رئيساً لفرع جميعة الشبان المسلمين في حيفا، وكان انتسابه لها تغطية لأعماله السرية وإعداده للثورة، أضاف إلى هذا الغطاء عمله مأذوناً شرعياً منذ عام 1929، مما مكّنه من أن يجوب البلاد، مُخاطباً الفلاحين في القرى، والمصلين في مسجد «الاستقلال» بحيفا.
في عام 1928 انتقلت جمعية «إخوان القسّام» السرية إلى مرحلة التسلح. وجاءت ثورة البُراق في أغسطس/آب 1929، لتُعزِّز الاتجاه العسكري للجمعية، فنفّذت عدداً من العمليات العسكرية ضد أهداف بريطانية وصهيونية. وفي عام 1935، بلغ أعضاء إخوان القسّام 200 مجاهد منتظم، يشرفون على 800 من الأنصار. ألف مجاهد هم عدة القسّام للجهاد.
في العام ذاته، 1935، وبينما الساسة الفلسطينيون يكشفون عن مواقفهم المتساهلة، ويرفضون حتى إعلان ذكرى وعد بلفور إضراباً عاماً، رأى القسّام أن الوقت قد حان لإعلان الجهاد وإشعال ثورة مسلحة ضد البريطانيين والصهيونيين. باع الشيخ المجاهد بيته في حيفا، وباع إخوانه حلي زوجاتهم، ومن المال اشتروا الرصاص والبنادق، وطافوا القرى يدعون للجهاد.
النهاية المجيدة جاءت فجر 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1935، قوة كبيرة من الإنجليز تعدادها 400 جندي حاصرت القسّام و10 من إخوانه في أحد الأحراش، رفض الاستسلام، طلب الشهادة، ونالها بعد قتال مجيد دام ست ساعات. دماء القسّام غيّرت مجري نهر الحركة الوطنية الفلسطينية، من الدعاية إلى العمل، ومن القلم إلى القلم والمسدس.
بعد استشهاده بخمسة أشهر اشتعلت الثورة الفلسطينية الكبرى، ثورة استمرت 3 سنوات. وتشكّلت جماعات على طريقة حرب العصابات، سيطرت على مساحات من فلسطين، يقودها أتباع لعز الدين القسّام، يطلقون على نضالهم اسم الجهاد. [4]
كان القسّام نقلة نوعية في طريق معالجة قضية فلسطين، وجاءت حركته مخالفة لنهج النخبة الرسمية. القسّام يعتمد على الجهاد والقتال المسلح، والنخبة الرسمية تُعوِّل على المفاوضات والدبلوماسية. القسّام يُجاهد ضد بريطانيا والصهيونية، فيما النخبة الرسمية تتودد إلى بريطانيا. القسّام يعتمد على سواعد الجماهير من العمال والفلاحين والشباب، فيما النخبة الرسمية بحكم تكوينها الطبقي تخشى الجماهير. وهكذا، جرت معالجة قضية فلسطين بمسارين: المفاوضة والمقاومة.
قد تكون المفاوضة فعّالة، بشرط أن يكون صاحب الحق قوياً، يجلس على طاولة المفاوضات ويستند إلى مقاومة شعبية، وتأييد إقليمي وإنساني عالمي، لا أن تجري بين طرف يملك العتاد الحربي والعسكري، وطرف لا يملك شيئاً من أدوات القوة.
إذا جرت المفاوضة بين قوي وضعيف، فإنها تستهدف في المقاوم الأول أن يعترف الضعيف بشرعية المحتل الغازي، ثم أن يتحوّل هذا الطرف الضعيف إلى تابع يحل محل الغازي في القيام بوظائف حفظ الأمن والنظام، أي التجسس على المقاومين واعتقالهم، وحماية مصالح الغازي وتجارته. وقد أثبت التاريخ مراراً وتكراراً إخفاق أسلوب التفاوض المجرد من القوة، فلم يؤد –ولو لمرة واحدة– إلى تحقيق الاستقلال.
- ردولف بيترز، الإسلام والاستعمار: عقيدة الجهاد في التاريخ الحديث، دار شهدي بالتعاون مع المعهد الهولندي للآثار المصرية والبحوث العربية، القاهرة، ص 120، 121.
- محمد حسين هيكل، مذكرات في السياسية المصرية، ح 3، الطبعة الثانية، دار المعارف، ص 14.
- هيكل، ج 3، ص 25.
- للمزيد عن حركة القسام انظر: عبد الوهاب الكيالي، تاريخ فلسطين الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1990، الطبعة العاشرة، ص 250-254. صبحي ياسين، الثورة العربية الكبرى في فلسطين 1936-1939، طبعة 1961، ص 19 – 36.