عند بناء جيش وطني ليبي، فإنه يجب أن يبنى على عقيدة أن مصر وتونس وتشاد والسودان والنيجر والجزائر أعداء، لأنهم دول فقيرة وتطمع في ثروات البلاد، نعم هم أصدقاء الآن، لكنهم دول فقيرة!
اللواء «خليفة حِفتر» – قائد ما يعرف بالجيش الوطني الليبي

في مطلع أبريل/ نيسان 2019، أعلن اللواء خليفة حفتر في تسجيل صوتي زحفه نحو العاصمة الليبية طرابلس، ليباغت حكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج من محورين جنوبيين، وآخر غربي من مدينة الزاوية التي كانت كمينًا لقواته ومنيت فيها بالهزيمة. لكي نعرف طريق حفتر الصعب الذي استمر لأكثر من ثماني سنوات حتى بلغ للمرة الثانية طرابلس، لكن هذه المرة بشكل عسكري وسلطة سياسية وشرعية إقليمية، وربما دولية.

هل كان طريق حفتر إلى طرابلس معبدًا؟

يأتي هذا التقرير لمحاولة فهم المشهد الليبي، وقد قُسم التقرير إلى جزأين؛ الأول يناقش وضع الدولة الليبية لفهم المشهد السياسي مع ذكر البديات الأولى لحِفتر، وفي الجزء الثاني نطَّلع على وضع إقليم الشرق تاريخيًّا ثم ننطلق لتحركات حِفتر حتى يومنا هذا.


الجغرافيا السياسية والإثنية

لفهم المشهد المنشئ للحرب الأهلية المتصاعدة منذ انهيار نظام القذافي يجب الاطلاع على شكل الوضع الإثني والسياسي للدولة الليبية، والاقتصاد السياسي للأزمة، إضافةً إلى دوافع الدول التي تتدخل في الأزمة الليبية.

ينتشر في ليبيا المكون العضوي الأولي للجماعة (القبيلة)، ويأتي ذلك بسبب هشاشة الدولة وغيابها حتى إبان فترة القذافي. تمتاز ليبيا بالانتماءات الجهوية التي تزكي العملية الصراعية الدائرة في ليبيا، ويجب التعرف على هذه التركيبة لفهم الحالة السياسية للدولة الليبية.

تنقسم ليبيا لثلاثة أقاليم رئيسية؛ طرابلس في الشمال الغربي، وبرقة في الشرق، وفزان في الوسط والجنوب الغربي. تختلف هذه الأقاليم في التركيبة السكانية[1]، حيث يتمتع إقليم طرابلس بكثافة سكانية في حين تقل كلما اتجهنا جنوبًا.

خريطة للأراضي الليبية توضح بعض مدن الساحل الكبرى.

تتداخل الأنساب بين إقليمي طرابلس وفزان، يقطن هذه الأقاليم قبائل الأشراف والورافلة -لهم امتداد في بني غازي بإقليم برقة- ويقطن القذاذفة الذين ينحدر منهم معمر القذافي مدينتي سبها وسرت، وهي القبيلة الأكثر تسليحًا في ليبيا، كما يقطن إقليم فزان قبائل المقارحة الذين ينتمي إليهم عبدالله السنوسي وعبدالسلام جلود أهم رجال القذافي، وهي قبائل مسلحة أيضًا، وفي الجنوب الغربي من إقليم فزان الطوارق الأمازيغ الذين يتداخلون مع النيجر والجزائر بامتداد إثني.

وفي إقليم طرابلس تقطن قبائل ترهونة الموجودة في الجنوب الغربي لطرابلس، وهي تشكل القطاع الرئيس من جيش القذافي، كما تقطن قبيلة ورشمانة في حاضرة طرابلس، وهي أكثر القبائل مدنية في ليبيا، أما في غرب الإقليم فتوجد قبيلة زناتة الأمازيغية التي ينتشر بينها المنهج السلفي المدخلي. ومن المهم الإشارة إلى أن قبائل الغرب هي الأكثر مدنية، وسيطروا على السلطة السياسية في الخمسين عامًا الماضية.

أما في الشرق حيث إقليم برقة فتتواجد قبائل العبيدات التي ينتمي لها عبدالفتاح يونس والبراعصة عصبة وقوة حِفتر الضاربة، وقبائل العواقير والمسامير التي ينتمي إليها المتحدث الرسمي لجيش حِفتر أحمد المسماري، وتتمركز قبيلة الفرجان في بني غازي وأجدابيا وتتواجد أيضًا في سرت، وتلك هي التي ينتمي إليها خليفة حفتر.

في جنوب الإقليم توجد قبائل التبو الأفريقية، وبالرغم من تواجد هذا الإقليم على تاسع خزان احتياطي للنفط في العالم والأكبر في أفريقيا فإن أغلب هذه القبائل لم تكن شريكة في السياسة القذافية، حيث جرى إبعادهم مع الانقلاب على الملك إدريس السنوسي، الذي ينتمي لإقليم الشرق من واحة جغبوب.


خريطة اللاعبين السياسيين والعسكريين

تشكلت الجماعات السياسية والعسكرية في ليبيا بعد ثورة فبراير/ شباط 2011، وكان الهدف الأساسي منها حماية البلاد من هجمات ميليشيات القذافي، ونظرًا لوضع دولة القذافي القائمة على التوزيع القبلي، اتخذت هذه الجماعات أبعادًا جهوية، حملت شعارات الماضي والصراعات القديمة بين القبائل والأقاليم، فنجد صراعًا بين الشرق والغرب.

اتخذت الكتائب والمليشيات أيضًا أبعادًا عقدية دينية، وأغلبها فشل فشلًا ذريعًا في إعادة بناء الدولة، واستعاضوا عن ذلك ببناء أحلاف عسكرية لتصفية الآخر، فالصراع في ليبيا صفري إلى حد بعيد، و يمكن تقسيم اللاعبين السياسيين في ليبيا منذ رحيل نظام القذافي إلى أربعة تيارات رئيسية:

1. الإسلاميين

تشير بعض الإحصائيات إلى أنه في العام 2014 وجدت 1500 جماعة إسلامية مسلحة في ليبيا، يمكن تقسيمها كالتالي:

أ. إسلاميِّ الشرق

وأغلبهم من السلفية الجهادية، كمجلس شورى ثوار بني غازي، ومجلس شورى ثوار درنة، ومجلس شورى ثوار أجدابيا، وكتائب شهداء فبراير، وأنصار الشريعة، وكتائب راف الله السحاتي المقربة من جماعة الإخوان المسلمين، وكان يتولاها شقيق الدكتور علي الصلابي -عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- وتُلاحَظ كثافة الحركات الإسلامية في الشرق، وذلك بسبب اتخاذ جماعة الإخوان المسلمين المصرية من الشرق الليبي مقرًّا لدعوتها بعد فرار أبنائها من مصر عبد الناصر، إذ احتضنتهم الدعوة الصوفية هناك.

ب. إسلاميِّ الغرب

وأغلبهم حركي وإخوان مسلمين؛ يتحالفون مع قوات مصراتة ومنهم قوات فجر ليبيا في مصراتة وصبراتة وغريان وأيضًا كتيبة بشير البقرة، والانتماء الديني هنا جهوي أكثر منه عقديًّا، كما تواجد تنظيم الدولة (داعش) في مدينة صبراتة.

ج. إسلامي الجنوب والوسط

وهم أقرب إلى السلفية المدخلية، ويحملون ضغينة لجميع الحركات الإسلامية.

2. قوات طرابلس

وهي جميع الميليشيات التي تكونت داخل العاصمة ودخلت في تحالفات قوية مع حكومة السراج «الوفاق» لحظة تأسيسها، قامت هذه القوات بتمشيط المدينة من قوات حفتر 2016 بعد استهدافهم مقر البرلمان.

3. قوات مصراتة

وهي قوات مدينة مصراتة شرق العاصمة الليبية، تتحالف مع قوات إسلامية أمثال فجر ليبيا، يتهمها البعض بأنها ذات جذور إسلامية، وهي الكتائب الأقوى شرق العاصمة الليبية، وهي في تحالف «هش» مع حكومة السراج، فبالرغم من مساندتها للتصدي لهجمات حفتر فإنها هاجمت الحكومة العام الماضي (2018).

ازدحم الشرق الليبي بالعديد من الكتائب العسكرية، أسسها رجال منشقون أو متقاعدون عن جيش معمر القذافي؛ منها جيش التحرير بقيادة عبدالفتاح يونس، وتولى فيه حفتر القوات البرية بعد عودته من أمريكا، وكتائب الأوفياء بقيادة عبدرالرازق الناظوري. ستتجمع هذه الكتائب في 2014 فقط لقتال الإسلاميين في عملية أسموها «الكرامة»، وتشكل على إثر ذلك ما يعرف الآن بـ «الجيش الوطني الليبي».


الدولة الهشة والاقتصاد السياسي

يشير دوغلاس نورث إلى أنه في حالة الدول المقيدة كدول هشة – كما في الحالة الليبية – تنعدم القدرة على التمييز بين المؤسسات الاقتصادية والسياسية، كما تفقد الدولة السيطرة على العنف، وتمتلك كل جماعة علاقات اقتصادية من جانب وتمارس عنفًا من جانب آخر في إطار عمليات توزيع الريع والسيطرة والنفوذ، ومن هنا يجب التأكيد أن تفسير الأزمة الليبية من إطار سياسي فحسب يشكل قصورًا شديدًا في فهم الحالة الليبية، إذ تجب دراستها وفهمها من خلال الاقتصاد السياسي.[2]

ليبيا الدولة الهشة

حصلت ليبيا على الترتيب الـ 28 عالميًّا من بين الدول الأكثر هشاشة في العالم.

الترتيب العالمي الضغط الديموجرافي نازحو الداخل المظالم الاجتماعية الهجرة الخارجية التنمية غير المتوازنة العدالة الاجتماعية
28 4.3 7.7 7.5 6 5.3 7.7
شرعية السلطة الخدمات العامة حقوق الإنسان أجهزة الأمن تصدع النخب التدخل الخارجي
9.7 6.4 9.1 9 9.7 9.7

كل مؤشر من 10 نقاط، كلما زاد عدد النقاط كانت الدولة أكثر هشاشة في هذا الجانب.

إن أهم عوامل هشاشة الدولة الليبية تتمثل في:

أولًا: في عدم فعالية النظام السياسي، وفي ظل فشل الدولة في صناعة هوية وطنية واضحة لها وغياب تراكم الخبرات المؤسساتية وتجريف الجهاز الإداري.

ثانيًا: البناء الاجتماعي للدولة «الجهوية» وما نطلق عليها بقرطة التحالفات الجهوية، حيث تصبح جزءًا من طبيعة الدولة نفسها.

ثالثًا الاقتصاد الريعي إذ حصلت ليبيا على المرتبة 55 من 58 دولة في قدرتها على إدارة الموارد، يأتي ذلك في إطار توزيع الموارد والحصص من الخامات الموزعة على الجماعات الجهوية، وليس في إطار تطوير الدولة ورفع كفاءة مؤسساتها. رابعًا ضعف أداء النخبة السياسية وتراجعها. خامسًا عدم قدرة الدولة على احتكار العنف، وذلك بسبب عدم وجود قدرة على تعريفها أو الاتفاق عليها وغياب الإطار الدستوري لها، ففي حال امتلك كل مكوِّن القدرة على ممارسة العنف أدَّى ذلك للتدخل الخارجي.[3]

الاقتصاد السياسي

يمكن فهم الصراع بين الشرق (طبرق) والغرب (طرابلس)، أو بين الجماعات المتناحرة الداخلية من منظور اقتصادي كالتالي:

أولاً: تكاليف عقد الصفقات المدخل لتنامي دور القبيلة والمكون الجهوي نتيجة لعجز الحكومة عن الوفاء بالتزامها بحماية الأفراد وتوفير وضع اقتصادي يتيح لهم العيش أو نمو ثروات بعضهم، وبذلك فهم يلجئون إلى الجماعات الأولية (القبيلة) لتوفير ذلك، وهنا تنهار مفاهيم الدولة لصالح مفاهيم الجهوية والعشائرية.

ثانيًا: التجارة غير الشرعية ودورها في تزكية العنف، كحالة تهريب المنتجات للسوق المصرية، أو بيع النفط الليبي في السوق السوداء بتونس ومالطا. تسعى إذن تلك الجماعات للحفاظ على مصادر تمويلها، كما تتخذ العنف كأداة للربح وتوزيع الريع.

ثالثًا: الدعم الاقتصادي للولاء العشائري، والدخول في أحلاف لتوزيع الريع وحسم التنافس بين الأحلاف الأخرى، كما في حالة حفتر والسراج. فهناك بُعد اقتصادي عشائري حاضر وبقوة.

رابعًا: الزبائنية في الممارسة السياسية وذلك من خلال تغيير الولاءات بين الأحلاف مقابل المصالح الاقتصادية المشتركة.

خامسًا: تراجع الدخل الفردي في مقابل صعود الإثنية السياسية والتربح من خلالها.[4]

التدخل الخارجي

تتمثل القضايا الرئيسية التي تهم الدول الخارجية في:

1. الرغبة في السيطرة على نفط الشرق وهو تاسع احتياطي في العالم.

2. وأد التيارات الإسلامية سواء المسلح منها أو السياسي.

3. القضاء على عمليات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.

1. مصر

تدعم مصر خليفة حفتر لعدة أسباب، أهمها على سبيل المثال: محاربته للجماعات الإسلامية التي تشكل خطرًا أمنيًّا على النظام المصري، واستخدام هذا الدعم كغطاء داخلي لتبرير التدخل العسكري المصري في ليبيا. توافقات مصرية أوروبية لوقف الهجرات إلى أوروبا مقابل شرعية دولية للنظام المصري. تواجد مصر كسمسار لبيع السلاح لحفتر. يوفر حفتر لبعض المنتفعين غطاءً لتهريب بعض البضائع والسلع لمصر[5]. تدعي مصر أحقيتها بواحة جغبوب الغنية بالنفط، وربما تتخذ من تدخلها ذريعة لاستعادة أرضها. وأخيرًا تعمل مصر كوسيط لرغبات دولة الإمارات في المنطقة. [6]2. الجزائر

تدعم الجزائر حكومة السراج، وتقدم لها الخبرات العسكرية وتدرب فرق الشرطة وتساعد في تطوير منظومة السجون لديها. تدعم الجزائر حكومة السراج لعدة مصالح، منها استراتيجية تتعلق بالأمن الجزائري وقدرتها على إبرام التفاهمات في ليبيا. تبدي الجزائر قلقًا حيال تنامي الاهتمام الفرنسي بالنفط الليبي في مقابل تراجع الاهتمام بالنفط الجزائري.

3. الإمارات

تدعم الإمارات حفتر بهدف أساسي وهو منع تكون أي حاضنة للإسلاميين في العالم العربي، وأبسط مثال على ذلك ترحيبها بتحالف حفتر مع السلفيين المداخلة بمدينة الزنتان. يأتي بعد ذلك عدة أسباب، منها الاقتصادي كفتح أسواق جديدة للمنتجات الإماراتية والسيطرة على السوق الليبية، وكذلك السعي لتحقيق أمن أوروبي مقابل مواءمات سياسية واقتصادية مع فرنسا، تُمكنها من بسط نفوذ قوي على شمال أفريقيا، في إطار الطموح الإماراتي الإقليمي والدولي.

4. فرنسا

تدعم حفتر على حساب السراج لعدة أسباب؛ أولًا طموحها للعب دور أساسي في وقف الهجرة إلى أوروبا، ثانيًا طمعها في الحصول على النفط الليبي بدلًا من إيطاليا، وأخيرًا يهمها بيع الأسلحة الفرنسية لليبيا وتحقيق المكاسب من وراء ذلك.

الصين وروسيا كذلك تدعمان حفتر لأسباب مختلفة، حصلت الصين على نفط بقيمة 3.5 مليار دولار العام الماضي من ليبيا حفتر، كما أنها الشريك الاقتصادي الأكبر في التصدير لليبيا،[7] وتؤيد حفتر الصين في إطار استراتيجية الحزام والطريق، كما تؤثر محاولتها لبسط نفوذها على النفط الليبي على نمو الصناعات في أوروبا وإيطاليا تحديدًا، وتؤيد روسيا حفتر من خلال دورها المتعاظم في الشرق الأوسط وحلفها مع محور السعودية الإمارات مصر، كما تعتبر ليبيا سوقًا لبيع السلاح الروسي في المنطقة، وعليه استخدمت روسيا حق الفيتو بمجلس الأمن لمنع اتخاذ أي قرار حيال تحركات حفتر.

على الجانب الآخر تدعم دول أوروبا حكومة السراج –على رأسها إيطاليا صاحبة النفوذ التاريخي في ليبيا – لكنها أشد ضعفًا من بقية الأحلاف المتواجدة في ليبيا، كما أن بعضها مستفيد إلى حد بعيد من تراجع قوة التيارات الإسلامية المسلحة، بالرغم من أن تشكيلات حفتر نفسها تنضوي على بعض القوات ذات الجذور الإسلامية.

بعد هذا الاستعراض للوضع الليبي ننتقل لبدايات خليفة حفتر..


من هنا بدأ خليفة حفتر

ليبيا
ليبيا

ولد حفتر في مصر عام 1943، وهو ابن لأب ليبي من قبيلة الفرجان – تعود أصوله إلى مدينة أجدابيا في الشرق – ولأم مصرية، أتم دراسته في درنة وتخرج في الكلية الحربية عام 1966. قاد مع العقيد معمر القذافي عام 1969 انقلابًا عسكريًّا ضد الملك إدريس السنوسي، وتكفل حفتر بمنطقة الشرق وإقليم برقة.

شارك في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 مع القوات المصرية، وظل أحد أهم رجال القذافي إلى أن أسند إليه قيادة القوات العسكرية الليبية المحتلة لتشاد عام 1986، والتي منيت على يديه بهزيمة مارس/ آذار عام 1987. أُسر حفتر مع عدد من الجنود بعد دخول القوات التشادية إلى القاعدة العسكرية، وفي تقرير لقناة الجزيرة عن حرب وادي الدوم التي خسرتها ليبيا أُشير لوجود شبهة تواطؤ من قبل القذافي وحفتر لتفكيك الجيش الليبي، و يشير عزمي بشارة إلى أن الجيش في ليبيا لم يكن جيشًا وطنيًّا بل ظل يعبر عن مليشيا أمنية تابعة للقذافي بعد هذه الحرب.

وبعيدًا عن هذه التكهنات فقد تسبب حفتر بمغامراته غير المحسوبة في هزيمة الجيش، وتنصل منه القذافي بعد اعتقاله فانضم إلى الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا (المعارضة) التي تكفلت بنقله إلى عدة دول أفريقية ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وعند الإشارة إلى حفتر كونه منشقًّا فإنك بذلك تعتبره معارضًا لنظام القذافي، لكن في الحقيقة لم يكن الرجل كذلك، بل أثبت تقرير الجزيرة – سالف الذكر – تسريبًا لأولاد حفتر بمقابلات مع القذافي في القاهرة وكيل المديح من الطرفين لبعضهما.

عاد حفتر المقرب من أروقة الـ CIA إلى ليبيا عام 2011، ليشغل منصب قائد القوات البرية في جيش التحرير الوطني تحت إمرة عبد الفتاح يونس المُغتال في يوليو/ تموز 2011. قاتل حفتر مليشيا القذافي إلى جانب الجماعات الإسلامية، وعقب اغتيال السفير الأمريكي في ليبيا كرستفر ستيفنز في بني غازي والغضبة الأمريكية ضد مهاجمة سفارتها في سبتمبر/ أيلول 2012، أضحت السياسة الأمريكية أكثر رغبة في وأد الجماعات الإسلامية، لتصبح مهمة حفتر محورية في جمع الأسلحة الليبية التي آلت إلى الجماعات الإسلامية بحكم انهيار نظام القذافي، وهنا تحول موقف حفتر إلى العداء لتلك التيارات.

خلال العام 2013 جرى تلميع صورة الرجل إعلاميًّا، وطُرح اسمه على الساحة بنسج العديد من البطولات حوله، ويظهر ذلك من خلال مشاركاته العديدة على قنوات فضائية ليبية محلية.

بعد عام من إزاحة حكومة الإخوان المسلمين في مصر، انقلب خليفة حفتر في فبراير/ شباط 2014 على المؤتمر الوطني الليبي المنتخب بعد الثورة، وشكل كتائب تحت اسم «الجيش الوطني الليبي» معلنًا الحرب على الجماعات الإسلامية المسلحة؛ الإخوانية منها والجهادية، وناصب أنصار الشريعة المسيطرة على بني غازي العداء، وهو ما أثار شكوكًا حول تلقيه الدعم من مصر والإمارات – تأكدت فيما بعد- وفي مايو/ أيار 2014 أعلن إطلاق «عملية الكرامة» لاسترداد ليبيا كما أخبر، وتحالفت معه بقية القوات المنشقة من نظام القذافي في الشرق. كان أول قصف جوي تقوم به قوات حفتر ضد كتائب شهداء 17 فبراير، وضد جماعة راف الله السحاتي في مدينة بني غازي.

أجريت انتخابات لمجلس النواب في يونيو/ حزيران 2014، مُني الإسلاميون فيها بخسارة وقامت المحكمة العليا باعتباره غير دستوري تعللًا بإحدى المواد التي تتعلق بانتخابه في الإعلان الدستوري. هاجمت العديد من القوى الإسلامية هذا البرلمان فاتخذ قرارًا بالانعقاد في مدينة طبرق في الشرق كونها مكانًا آمنًا بعيدًا عن الصراعات في طرابلس التي كانت تتخطفها صراعات داخلية قوية، وفي مارس/ آذار 2015 اعترف البرلمان بالجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر، نظرًا لاتفاق الغاية بين البرلمان واللواء المتقاعد، وهي محاربة الإسلاميين. وفي غضون أشهر أُطلقت حملة لبسط النفوذ على بني غازي التي يسيطر عليها أنصار الشريعة.

في ديسمبر/ كانون الأول 2015 اتفق مجلس نواب طبرق وحكومة المؤتمر الوطني في الصخيرات بالمغرب على تشكيل حكومة، بدأت مهامها في مارس/ آذار من العام التالي، لها عدة مهمات، أولها بسط الأمن على طرابلس، وكان الخلاف بينها وبين حفتر لعدة أسباب، أهمها الطموح السياسي لقوات الشرق بقيادة حفتر، وتحالف الحكومة مع قواتٍ إسلامية لحماية طرابلس وتأمينها، ناهيك عن الاختلافات حول الملفات الاقتصادية بين الوفاق وحفتر، وأخيرًا دعم مصر والإمارات لحفتر في مقابل دعم الجزائر وعدد من الدول الغربية للسراج.

إلى هنا نكون قد وطأنا للمقال القادم، الذي سنتعرف من خلاله على المحطات والتحركات العسكرية للواء خليفة حفتر منذ 2014، وحتى الهجوم على أبواب طرابلس في أبريل/ نيسان الحالي.

المراجع
  1. [1] شنوف الحياة وآخرون، آثار سقوط نظام القذافي على الاستقرار السياسي في منطقة المغرب العربي، جامعة تبسة 2016.
  2. [2] دوغلاس نورث وآخرون، في ظل العنف السياسة والاقتصاد ومشكلات التنمية، ترجمة كمال المصري، عالم المعرفة فبراير 2016م.
  3. [3] كامل عبدالله، الدائرة المفرغة: تغييب الدولة في ليبيا من معضلة التأسيس إلى نخب الانقسام، ملحق مجلة السياسة الدولية أبريل/نيسان 2017م.
  4. [4] عادل زقاع – سفيان منصوري، الاقتصاد السياسي للأزمة الليبية، سياسات عربية مارس/آذار 2017م.
  5. [5] كشف التقرير الاستقصائي لشبكة أريج عن تصنيع سجائر كيلوبترا خارج مصانع الشرقية للدخان في مصر ليتم تصنيعها في الجبل الأسود واليونان، عبر شركة إماراتية تسمى "ليبرتي إف زيد إي" بالتعاون مع شركة "تشاركية الليبو" للاستيراد عبر ميناء طبرق لتصريفها في السوق المصرية، وتكلف هذه العملية خزينة الدولة المصرية خسائر تقدر بـ 5 مليارات جنيه سنويًّا.
  6. [6] مصطفى جاويش، مصر بعد تيران وصنافير ماذا عن جغبوب؟ المعهد المصري للدراسات 2017م.