منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا يحكم الكثير من الطغاة العالم، وقد تختلف أشكال الطغيان وأساليبه، لكن تبقى الحقيقة الثابتة أن الطغاة هم سبب تخلف الأمم وهم خراب العمران وجالبو الغزاة.

في هذا المقال وما يليه سنبحث في أصل مفهوم السلطة وأشكال الحكم، ومن ثم كيفية ظهور الطغاة، ولماذا تخضع الشعوب للامتثال للطاغية، ثم ننتهي إلى ما يجب على الشعوب كي تقاوم طواغيتها.


حاجة البشرية إلى السلطة

منذ القِدم سعى الإنسان لتكوين مجتمعات يحيى بينها، بتطور التاريخ تحولت تلك المجتمعات البدائية إلى عشائر ثم إلى مجتمعات كبيرة، ثم كانت حاجة الإنسان إلى كيان يلتف حوله، وسلطة يحتكم إليها، فقامت على أساسها الدول.

يقول أرسطو عن تصوره للدولة:

إن الإنسان بطبعه حيوان سياسي يحب الحياة في جماعة سياسية منظمة فهو مدني بطبعه.

يعتبر أرسطو أن الإنسان يميل بطبيعته إلى التنظيم الاجتماعي والعيش في جماعة؛ ولذا كان مفهوم الدولة ناتجًا عن ضرورة تنظيم حياة الجماعة، فنتجت عنها تلك الحاجة لسلطة تحتكم إليها الجماعات في تنظيم الحياة السياسية.

لكن يوجد تأويل آخر لطبيعة الإنسان مخالف للتصور الأرسطي بحسب تصور الفيلسوف الإنجليزي هوبز، حيث يرى الأخير أن الحالة الطبيعية للإنسان هي الفوضى، فالإنسان كائن غير منظم بطبيعته، وحالة الفوضى تلك إنما تُنشئ داخلنا إحساسًا بالرعب من المصير المجهول لحالة الاضطراب والفوضى، فلزم علينا خلق سلطة تنظم المجتمعات لإيجاد تلك الحالة من الاستقرار والنظام والحماية وسماها «الدولة الحارسة». لهذا كانت السلطة ضرورية لإقامة الدولة وتنظيم شئونها، فيمكن اعتبارها عماد الدولة.

ولما كانت السلطة تلك القوانين التي تنظم الجماعات للخروج من حالة الفوضى إلى النظام، فقد تحور اللفظ فيما بعد ليشتمل على ممارسات استبدادية لنجد المقولة الشهيرة للورد أكتون:

السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة.

لكن في الحقيقة ليست كل سلطة مفسدة، فالسلطة في صورتها الأولية ليست مدعاة للفساد، فالصورة الطبيعية هي أن تصبح السلطة متمثلة في الدولة؛ بمعنى أن سلطة الدولة هي سلطة عليا فوق الجميع، بما فيها الطبقة الحاكمة، فإن تلك الحالة تضمن عدم الخروج على سيادة الدولة حتى ممن يمثلونها وهم الحكام.

وتلك الحالة إنما يتوجب أن تحدد حدود السلطة بقدر ضرورتها حتى لا تتحول لنوع من الطغيان، فالحق الذي يكتسبه الحاكم في توجيه الآخرين هو حق مكفول له بحكم اعتباره الشخص الممثل لسلطة الدولة، وذلك في إطار تحدده السياسة الخاصة بالدولة.


الحاكم المقدس (الحكم الثيوقراطي)

يقول العلامة عبد الرحمن الكواكبي:

وهو الوجة الآخر للسلطة، حيث يتحول الحاكم إلى الممثل الأوحد للسلطة فيحتكرها، فتصبح سيادة الدولة هي سيادة الحاكم. وليس هذا فحسب، بل يبدأ الحاكم في ترسيخ تلك الفكرة في أذهان العامة، بأنه ذو طبيعة تعلو على طبيعتهم، فألصق الحاكم بنفسه صفة الإله في الحضارات القديمة (المصرية، اليونانية، البابلية، والفارسية)، وقد رسخت تلك الفكرة في أذهان شعوبها فألصقوا بالحاكم صفة الإله صراحة.

أما في يومنا هذا فقد أُلبست الفكرة مظهرًا أكثر واقعية وهي الحاكم الراشد والقائد الأوحد والزعيم المخلص، فلا يحق لأحد الخروج على الحاكم ومعارضته؛ فكلمته هي الأصح وحكمه هو الأصلح، وكذا يتولد لدى الشعوب تلك الأفكار العميقة عن علو مكانة الحاكم عن طبيعتهم البشرية. فيصبح الشعب هو من يعطي الحق للحاكم باحتكار السلطة في شخصه، فيصبح زوال الحاكم مؤذنًا بزوال السلطة ومن ثم الدولة.

وهذا تحديدًا ما تتبعه الأنظمة المستبدة لجعل صورة الدولة في شخص الحاكم حتى يترسخ في أذهان العامة أن انتظام الدولة واستقرارها يتمثل في إبقاء الحاكم على كرسيه، فيبدأ الحاكم بممارسة سلطته المطلقة. وقد كان هذا الوضع القائم في العصور الأوروبية الوسطى، لكنه لم يكن ليستمر مع بداية مرحلة التنوير وكفاح الشعب والفلاسفة لتغيير تلك الأفكار، وأصبح المستقر الآن أن السلطة تنفصل عن الممارسين لها.

ولا يزال هذا الوضع قائمًا في الكثير من الدول لا سيما دولنا العربية، فأصبحت نتائج تَمثل السلطة في شخص الحاكم انقسام الأفراد إلى طبقتين؛ حكام ومحكومين. تعد الفئة الأولى (الحكام) ذات إرادة حرة تحدد نفسها بنفسها غير خاضعة لتقيد، والفئة الأخرى (المحكومين) والتي تخضع للحكام وتتقيد وتتحدد وفقًا لمشيئتهم.


أشكال الحكم

قسم أرسطو أشكال الحكم إلى ثلاثة أنظمة تبدأ بأحد تلك الأشكال المتبعة في الحكم، لكن تطرأ عليها بعض التغيرات لتتحول من منظومة حكم صالحة إلى أخرى تشبهها في الشكل لكن بتطبيق فاسد.

النظام الملكي

وفيه يكون الحاكم فردًا واحدًا يحكم وفقًا للقانون ويتوجب عليه مراعاة الصالح العام ويسمى الملك، وقد يحدث أن تتورث السلطة من الآباء إلى الأبناء. وتعتبر الأسرة الحاكمة نظامًا دستوريًا يعتمد على إرضاء الشعب، ولكن تغيرت تلك الصورة في العديد من الأنظمة الملكية فأصبحت السيادة لشخص الملك على جميع الشعب وفي جميع الأمور، فأصبح ذا سلطة شاملة لا يحق للشعب انتزاعه من كرسيه ولا الاعتراض على حكمه فتصبح سلطته على طول عمره (وتلك إنما هي صورة منحرفة من النظام الملكي القديم).

النظام الأرستقراطي

وتكون السلطة في يد طبقة قليلة متميزة في العديد من الأوجه كالثراء والعلم والتحضر عن بقية الشعب، فتكون لها السلطة والغلبة وتحتكم أيضًا للقانون وتعمل لصالح الدولة، فإذا استأثرت تلك الطبقة نفسها واستغلت السلطة لتلبية مصالحها الشخصية أصبحت منظومة فاسدة أطلق عليها أرسطو اسم (الأوليجاركي).

النظام الدستوري

وهو النظام الحالي لأكثر الدول وهو أن تكون السلطة للأغلبية من الشعب الذين يفوضون أحدًا بالانتخاب يمثل سلطة الدولة، لكن قد يحدث وتصبح الأغلبية لتك المجموعة من الشعب الفقيرة أو الغوغائية فتصبح السلطة بيد من لا يرحم، فتتحول الدولة إلى طبقة دنيا تسلط سياطها على من هم أعلى منهم وسمى أرسطو هذا النظام بالحكم (الديماغوغي)، وهذا عادة ما يحدث بعد أن تثور الطبقة الكادحة على النظام الحاكم ثم يصعد شخص منها إلى الحكم ومن ثم يبدأ طور آخر من الطغيان.


تعددت الممارسات والطغيان واحد

ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ لنفسه صفة قدسية يشارك بها الله أو تعطيه مقامًا ذا علاقة بالله.[1]

كان يُطلق قديمًا الطاغية مرادفًا للفظ الحاكم أو الملك فقط، كانت تستخدم في العصور اليونانية القديمة للمديح إلى أن فرق أفلاطون وأرسطو في القرن الرابع بين لفظ الحاكم والطاغية؛ فأصبح الطاغية يُطلق على الحاكم الفاسد والظالم أما الطغيان كماهية فهو الإسراف في الظلم والجبروت. ويحدد عالم الاجتماع جون لوك صفته باعتباره ممارسة فاسدة للحكم في كتابه الحكم المدني، فيقول:

إذا كان اغتصاب السلطة هو ممارسة إنسان لسلطة ليست من حقه، فإن الطغيان هو ممارسة سلطة لا تستند إلى أي حق، ويستحيل أن تكون حقًا لامرئ ما، والطغيان يقوم على استخدام إنسان ما السلطة التي وقعت إليه من أجل مصلحته الخاصة لا من أجل الخير للمحكومين، وتتجسد السلطة المطلقة حينما يجعل الحاكم (الطاغية) إرادته قاعدة السلوك عوضًا عن القانون، وعندما تتجه أوامره وأفعاله نحو إرضاء طموحه وإشباع مطامعه عوضًا عن المحافظة على مكتسبات شعبه.[2]

والطغيان لا يطلق على ممارسة فاسدة للحكم بعينها، إنما هو مجمع لتلك الممارسات الفاسدة لأنظمة الحكم، فأصبح الطغيان تلك الصورة النهائية التي تُسيِّر الشعوب التي يُمارِس عليها الحاكِم صور الطغيان، وتتعدد تلك الصور بمسمياتها وأشكالها وطرق ممارستها ولكنها تجتمع جميعها تحت عباءة الطغيان.

وتلك الصور إنما عُرفت بعدة مصطلحات: الديكتاتورية، الاستبداد، والشمولية (التوتاليتارية). وتختلف ربما في شكلها الخارجي، لكنها تشترك في تلك الصفة التي تجعل من الأمم خُدامًا لحكامهم وتخلق من المجتمع قطيعًا متشابهًا يسوقهم عصبة ظالمة بإرادتهم أو بغير إرادتهم.[3]

1. الديكتاتور،وهو الشخص الذي يتولى جميع السلطات في (حالة الاستثناء) كالحروب أو الأزمات البالغة الشدة للدولة، بحيث تخول إليه جميع المهام ويعطل القانون ويفرض سيطرته على جميع شئون البلاد، فلا يعتبر لدستور ولا لإرادة الشعب ويجب على الجميع الخضوع لأوامره. وكانت تلك إنما حالة استثنائية لإدارة الأزمات لا تزيد عن ستة أشهر أو سنة، لكن في العصر الحالي تحوّل مصطلح الديكتاتور إلى ذلك الحاكم الذي يستفرد بالحكم ثم يعمل فقط وفقًا لإرادته، غير خاضع لقانون أو دستور فيفرض حكمه بالقوة.

2. الاستبداد،يطلق لفظ المستبد (طبقًا لتصور أرسطو) على تلك الأنظمة التي تعامل الرعايا كمعاملة السيد للعبيد، باعتبار أن للحاكم التزامًا أخلاقيًا بوجوب الطاعة من المحكومين، وغالبًا ما تتكون تلك الحالة نتيجة ثقافات في بعض الشعوب، كما في الشرق الآسيوي قديمًا كان الاستبداد نظامًا شائعًا بحيث كان للحاكم حق الطاعة المطلق بإرادة الشعب، فيتحكم المستبد في مصير الشعوب ويتغلغل في شتى جوانب حياتهم فيصبحون كقطيع من الأغنام لا يملكون من أمرهم شيئًا.

وللاستبداد صور شتى وأساليب عدة بعضها تتقبله بعض الشعوب ويطلقون عليه: المستبد المستنير أو العادل، ولكن في النهاية كل ممارسة تقمع الشعوب وتهمشهم وتعطي السلطة للحاكم بالتصرف المطلق في شتى شئون البلاد هي ممارسة مستبدة كغيرها من الممارسات؛ تؤدي إلى خراب العمران وسوء المآل.

3. الشمولية (التوتاليتارية)، وهو أسوأ نظام للحكم، وقد أطلق حديثًا على نوع من السلطة ظهرت في أوئل القرن العشرين كتصنيف للفاشية والنازية والستالينية والناصرية فيما بعد. اعتمدت هذه السياسة نتيجة أفكار متحورة عن مفهوم السلطة الجامعة حيث الكل للواحد والواحد للكل، أو هذا ما يبدو ظاهريًا بينما في الحقيقة هو نظام يعمل على قولبة المجتمع في قالب واحد تحت مظلة الزعيم الأوحد (فالكل هنا يقصد به هذا الحاكم الذي يجمع كل السلطات بيده)، فهو مصدر السلطة وهو ممثل الإرادة الشعبية وهو في العادة ما يكون ذا كاريزما خاصة، إذ ينصهر في الشعب فيشعرهم أنهم مصدر إلهامه وقوته، وهو بذلك يستحوذ على الطاعة التامة للشعب ثم تكون له السيطرة الكاملة على جميع السلطات في الدولة ووسائل الإعلام.

مما يثير الدهشة في الأنظمة الشمولية أنها تظهر بالمظهر الديموقراطي بل ويتحدث الحاكم (الزعيم القائد كما يطلق عليه في ظل هذا النظام) عن الوحدة الوطنية والهدف الواحد والأمة الواحدة، فالشرعية الواحدة التي يستند إليها الحاكم هي قبول المحكوم بحكم الحاكم، ولا يحتكم هذا القبول إلى استفتاء شرعي وإنما إلى (الاستفتاء التهليلي)؛ ومن هنا يكتسب الحاكم (الزعيم المُلهم) الحق المطلق في اعتباره ممثل إرادة الشعب.

وهنا يتم التلاعب بالشعوب باسم الشعب والأمة، ثم تستخدم العواطف واللعب باسم الوطنية لتخدير الشعوب عن أي طغيان يُظهره الحاكم، وقد أطلق عليه جون ستيورات «طغيان الجماهير»، فلا رأي ولا معارضة ولا تنظيمات يمكن أن تُوجد بخلاف هذا الكيان الغالب الكلي، وتصبح اللافتات والشعارات الكبرى والخطابات الحماسية الفارغة هي ما يضفي على القائد الأوحد شرعيته للحكم والتفرد به وبسط مناخ الطغيان على جميع مناحي الدولة.

وهكذا يؤسس الطغاة سياستهم الخاصة لبسط طغيانهم على الشعوب ليسيطروا على العقول ويستبدوا بالنفوس، فبماذا يستعين الطغاة ليورثوا الذل والخضوع في نفوس الشعوب؟ هذا ما سنفرد له مقالاً آخر قادمًا إن شاء الله.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبي.
  2. الحكم المدني، جون لوك
  3. الطاغية، دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي، د. إمام عبد الفتاح.