منذ أكثر من ألفين وأربعمئة عام، كانت هناك محاكمة ضخمة في أثينا، ساحةٌ كبيرةٌ تجلس فيها الجموع، عددهم خمسمائة فرد، يحملون الجنسية الأثينية وجميعهم ذكور أحرار، لأنهم فقط الذين لهم حق التصويت، الجموع تشمل كل طبقات المجتمع. يقف عجوز يناهز السبعين عامًا يخاطبهم ويدافع عن نفسه أمام اتهاماتٍ تنحصر في إفساد عقول الشباب والهرطقة (هذا الخطاب الشهير الذي نقله عنه أفلاطون في مقدمة الدفاع). المحاكمات آنذاك كانت تسير وفقًا لعملية التصويت سواء لصالح المتهم أو ضده، يقوم كلٌ من المدعِي والمدَعَى عليه بطرح الاتهام والدفاع بشكلٍ تتابعي أمام الجموع. قام الشيخ المفوه بخطابٍ يُسْقِط كل الاتهامات، مستفيضًا في التساؤلات والتحليل عن سبب نبذ الصفوة من المجتمع له.

تقرر الأغلبية أن سقراط الشيخ الماجن مذنب، ثم يبدأ النقاش حول نوع الحكم الذي يجب أن يُطبق عليه، يخبرهم بأن كل ما فعله هو فحص نفسه والآخرين باحثًا عن الحقيقة، قائلاً جملته الشهيرة:

إن حياةً بلا فحص ليست حياة جديرة بإنسان.

صدر الحكم النهائي بإعدامه، تقبله سقراط بشجاعة دون أية محاولات للهروب.

انهزم أحد أقدم الفلاسفة، بكل قدراته الكلامية ودلائله على برهنة الأفكار وتقصي أصولها وحقائقها، أمام المجتمع بكل طبقاته، لقد انهزم أمام الأغلبية.

التغيير

إن آليات التغيير، إذا كانت حقيقية، عادةً تبدأ بالداخل؛ أما إذا كان التغيير ظاهريًا، أو نابعًا من تأثيرات خارجية، سواء كانت تراكمية أو لحظية، فغالبًا يكون مجرد ظاهرة أو صيحة أيديولوجية يستغلها من يملك القوة أو النفوذ.

إن التغيير الذي يحدث في المجتمعات المهزومة أغلبه سلبي ظاهري، نابع من تفاعلات داخلية لدى قلة من الأفراد ومحكوم بعوامل الخوف وغرائز البقاء، وثورات «الربيع العربي» خير دليل على ذلك.

وإذا افترضنا أن الرغبة الداخلية للارتقاء أدت إلى انفصال (أقلية ما)، ثم تحول هذا الانفصال إلى خروج ومقاومة، وانفجرت إلى فعل ثوري من أجل «حذف» النظام الفاشي المستبد، فهل هذه الرؤية تُعد صحيحة أو كاملة؟ هذا النوع من الرؤى يُقلّب موازين القوى ويذبذب المجتمع تحت العديد من الشتات (مرة أخرى)، ولكنه لا ينتصر أو يحقق التغيير الحقيقي، بل يغوص أكثر بين طيات الهزائم.

إذا كانت الثورة هي حرثٌ لإنبات سنابل الحق والرخاء، فيجب أن ندرك طبيعة الأرض التي سنحرثها، وإلا ذهب الفعل هباء. إننا ننسى دائمًا أننا من النظام، الأنظمة الفاشية منّا ونحن منها، مهما رفضنا هذه الحقيقة. إننا لسنا أبطالًا، وإن من يزرع الأشجار وسط الرمال بعيد كل البعد عن البطولة.

إن المنظور الفردي، الذي يفتقر بشكل كامل إلى الإدراك الذاتي أو حقيقة الكيان الذي ينتمي إليه (سواء كان هذا الكيان هو النفس أو المجتمع)، سيندمج في وهمين: وهم البطولة، ثم وهم الضحية (بعد الهزيمة الأولى). ونحن قطعًا لسنا ضحايا كما نظن، لذا فاحتمالات الهزيمة غالبة عبر تاريخ البشرية، بسبب تعقيدات مسارات التغيير وندرة حدوثها، وبسبب الكثير من العوامل المؤثرة على عملية الارتقاء (الانتصار)، الخارجية والداخلية.

الهروب

أحد دلائل الهزيمة في المجتمعات المقموعة هي الهروب، والمقصد من هذا الهروب لا يتعلق بهجرة المجتمع أو البلد، وإنما هو هروب أيديولوجي يتضخم ويتناسب تمامًا مع العوالم الرقمية التي نعيشها الآن.

إن العزلة تجتاح المجتمعات المهزومة، فتنشأ فقاعات اجتماعية مختلفة داخلها، وكل فقاعة تطفو في عالمها الخاص. هذه الفقاعات التي تزيد من تفكك المجتمع وفقدان الهوية. في مصر مثلًا، نجد بعض العوالم (الفقاعات) الموازية على وسائل التواصل الاجتماعي التي تعرض مشاكل وترفيهيات (ذات ثقافة تختلف عن واقع المجتمع) للطبقات البرجوازية (أو ما يشبهها الآن)، وما يعلوها بالطبع.

وفي عالمٍ آخر، نرى مثلًا بعض أغاني المهرجانات التي جذبت فئات أكبر من المجتمع في فقاعة أخرى، ويمكن أيضًا إسقاط الأمر على الصراع السياسي الذي حدث بعد الثورة، وظهور صدام الفقاعات بشكل أكثر وضوحًا آنذاك. لقد رأينا من يدّعون الليبرالية، ورأينا من يدّعون الإسلامية، ورأينا من يقفون بينهما بأشكالٍ مختلفة. الأمر إذن بدأ بشكلٍ تراكمي ويزداد الآن بعنف مع تطور وسائل التواصل وتغير مصادر المعرفة وانتشارها وازدياد الطغيان، ولم يعد الأمر مرهونًا بالطبقية بشكلها التقليدي، فالعوالم كلها مخلوطة.

الطبقية الآن مرتبطة بعوامل أخرى (إلى جانب المال)، كأسلوب الحياة وتبني الأيديولوجيات والأفكار الجذابة للفرد، فيجتمع من يشاركون هذه الأفكار والمفاهيم وسلوكيات الحياة في فقاعتهم الصغيرة. ورغم كل هذه العزلة والصدامات الهزلية التي حدثت (وما زالت تحدث)، إلا أن كل الفئات تتفق على منظورٍ واحد: النجاة.

فكرة النجاة تتحول إلى رغبة في قدوم المُنقذ؛ لأن المجتمع (والفرد) فاقد الثقة في نفسه وفي قدرته الحقيقية على التغيير، فتنشأ رغبة سهلة في انتظار المُنقذ، الذي سيأتي لينقذ المجتمع من ظلماته. ولعل هذه الرغبة تجتاح العالم بأسره، فالانهزامية شعور كائن في نفوس البشرية بأشكالها المختلفة. الجميع هنا مهزوم والمُنقذ هو من سيخفف حمل الحياة. قد يكون هذا المُنقذ في رداء ديني أو فني أو متمثل في أحلام ورغبات فردية.

ومن هنا نشأت فكرة الأساطير وانطلاق المنقذ نحو رحلته الروحانية التي ستفتح له آفاقًا وتمده بقدرات خارقة. هذه الأساطير التي نجدها بشكل مطور في أفلام مارفل وأبطالها الخارقين، هي نسختنا للإله الذي يُحاسِب -بسرعة وبشكلٍ قاطع ومحدد- الأشرار الذين يسببون المعاناة للبشر الطيب على هذه الأرض الجميلة.

جوزيف كامبل، أحد أشهر الباحثين في مقارنة الأديان والأساطير، يناقش فكرة بناء الأساطير على أنها دوافع وأحلام جماعية نابعة من البواطن السيكولوجية التي يطبقها فرويد ويونغ على الفرد. يختم كامبل كتابه «البطل ذو الألف وجه» بأن العالم العصري يعتمد كليًا على الفردية والأنانية. ويستطرد بأن الاتصال الجمعي مفقود في ظل هذه الكيانات المادية المتشعبة التي نعيشها الآن.

منظور السينما والأدب عن هزيمة النظام

في بداياتها، تحدثت السينما كثيرًا عن الانتصار على الأنظمة بكل أشكالها، سواء كانت أنظمة شمولية كما في فيلم ميتروبوليس (1927) للمخرج العبقري فريتز لانج، أو أنظمة سياسية ديكتاتورية كفيلم الديكتاتور العظيم (1940) لـتشارلي شابلن، وبالطبع كانت هذه الانتصارات تحدث داخل قاعات العرض فقط. كان صناع السينما آنذاك يحاولون تصوير القيم الأخلاقية بشكل مثالي وبث روح الأمل في النفوس، وكان الفن يتبنى المنظور الأخلاقي بشكل تقليدي.

إلا أنه مع تطور الفن عمومًا والسينما بشكلٍ خاص، بدأت الواقعية تتوغل في الأعمال، وبدأت مفاهيم الخير والشر بشكلها المتباين تندمج بتعقيداتها في المنطقة الرمادية، وبالتالي أصبح الانتصار على النظام دربًا من الخيال، ينهدم تدريجيًا بعد أعوامٍ مطولة من رسم حواجز وردية (بنتها شركات إنتاجية كـ ديزني مثلًا) صدمت العديد من الأجيال بعد ذلك.

نجد منظور الهزيمة بشكلها التدريجي (بدايةً من الإدراك الداخلي لخلل النظام، ثم الخروج، ثم مواجهة النظام) في ثلاثية المصفوفة (1999-2003) الشهيرة إخراج الإخوة واتشاوسكي. في الجزء الأول من الثلاثية، نجد نيو الشاب يعيش حياةً مزدوجة، ففي الصباح يعمل موظفًا صغيرًا في مؤسسة ضخمة ويذهب إلى عمله الروتيني كأي مواطن شريف؛ أما في المساء فيعمل كقرصان رقمي (Hacker) لصالح نفسه ويتقاضى أجورًا عالية.

يتمرد نيو بشكل ناعم على الروتين والنظام، بشكل جعله يعيش هذه الحياة المزدوجة لأنه كان يشعر، بشكلٍ ما، بخللٍ ما في النظام، يتمرد هذا التمرد الخفي الذي يضمن له النجاة من الشرطة والسلطة. إلا أن حياته المستقرة سرعان ما تضطرب بقدوم مجموعة من الناس يستدرجونه عن طريق الشبكة الرقمية ويحاولون إقناعه بأن العالم الذي نعيش فيه ما هو إلا مصفوفة رقمية يحرسها «العملاء»، الذين يمنعون أي بشر «حقيقي» من دخول أو خروج المصفوفة.

يستطرد الفيلم بتوضيح الفرق بين العالم الحقيقي والعالم الوهمي (الذي خلقته الآلات لتتغذى على الخلايا الكهربائية داخل عقول البشر)، ويتوغل في تفاصيل فلسفية عن كينونة الوجود وعمّا إذا كانت الحياة مجرد أفكار نابعة من عقلنا تجاه ما حولنا، فلسفة تتوافق بشكل كبير مع ديكارت. ثم تبدأ أزمة الهوية المتضخمة التي تجتاح البطل، بعد مطاردة العملاء له، حتى يقع في لحظة الاختيار الشهيرة بين الاستمرار في العالم الوهمي (المصفوفة) الجميل، ليكون «بطارية» للآلات، أو العيش في الحياة الواقعية المملة. ينتهي الفيلم بالمرحلة الأولى من التغيير، ألا وهو الرؤية ثم الإدراك والخروج، ليكون نيو هو «المنقذ» المُتوقع لقيادة البشر من سيطرة الآلات.

الجزآن، الثاني والثالث، يناقشان مقاومة النظام، فنرى تعقيدات أكبر من مجرد معضلة فلسفية وفردية، وتدخل شخصيات كثيرة ذات تأثيرات أقوى على قيام منظومة «المصفوفة»، فنرى من يساهمون في بناء المصفوفة وحمايتها ونجد من يستفيدون منها. وعلى الجانب الآخر، نرى المجتمع «الحقيقي» وتعددية جماعات المقاومة والاختلافات السياسية بينهم. تنتهي الثلاثية بهزيمة البطل (بالطبع)، وندرك ألا أحد حر، فالبشر داخل المصفوفة يعيشون وهمًا في مقابل خلايا تغذي كهرباء الآلات، والبشر «الأحرار» مجرد جزء من المقاومة المتروكة، بشكلٍ مقصود، لتنشيط دفاعات النظام.

نرى الهروب من ضغط المجتمع ومن الهزيمة المزمنة التي يعيشها المواطن العادي في فيلم خرج ولم يعد (1984) لـمحمد خان. يبدأ الفيلم باستيقاظ عطية الموظف المصري البسيط على صوت المدينة الصاخب، ونرى الكاميرا تحلق بين عناصر الهزيمة كالصنبور القديم والشروخ المتفشية في البناية التي يسكنها، مع صوت أسمهان في الخلفية بأغنيتها الشهيرة «يا حبيبي تعال الحقني» مؤكدة أحداث الفيلم بعد ذلك، التي تصف عجز عطية أمام كل الأنظمة البيروقراطية ومحاولاته للزواج من خطيبته، فيقرر السفر إلى الريف من أجل بيع أرضٍ صغيرة يملكها لكي يستطيع أن يوفر سبل العيش ويحل مشاكله، إلا أنه يتعلق بحياة الريف البعيدة عن كل الضغوط والطغيان المدني ويستمر في الاندماج تدريجيًا حتى ينفصل عن واقعه القديم ناسيًا كل ما كان.

الفيلم لم يقترح حلولًا لإصلاح النظام وتغييره، ولكنه ركز على جانب الانفصال عنه من أجل النجاة، حتى لو كان هذا البعد مؤقتًا.

وبالطبع هناك أعمال شهيرة تصف الأنظمة الشمولية العنيفة التي تطغى على المجتمع كـ 1984 لـجورج أورويل وـفهرنهايت 451 لـراي برادبوري، هذه الروايات التي حاول أبطالها مقاومة النظام (المجتمع) فانهزموا. ففي 1984، يتحرر البطل داخليًا من النظام ثم يبدأ العيش بحياةٍ مزدوجة من أجل النجاة، إلا أنه سيسجن ويعذب، وكان من الممكن أن يموت، إلا أن الموت في تلك الحالة نهاية متفائلة رفضها الكاتب. موت البطل كان سيُعَد انتصارًا على النظام، وحدثًا كائنًا لترسيخ حقيقة الفكرة، وصرخةً واضحة تحرر الخائفين من أسوأ الاحتمالات. أدرك أورويل أن الموت أملًا يفتح الكثير من الاحتمالات أمام سبل التغيير، ولهذا أبقى بطله حيًا، بل حرره من سجون النظام بعد أن تحول إلى مواطن شريف مطيعًا للشمولية؛ أما برادبوري فكان أكثر تفاؤلًا حيث أتاح لبطله منفذًا للهروب، تاركًا نهاية مفتوحة لقصته بها الكثير من احتمالات النجاة.

دعوة للتشاؤم!

عزيزي القارئ: هذا المقال لا يدعو إلى التشاؤم، ولكنه يوضح معضلة حقيقية خاضتها البشرية على مدار العصور. إن الوجود هدفه المقاومة؛ لأن هذا ما يتوافق مع العملية «الحيوية» للأشياء، فالنبات يشق الأرض ويقاوم أوزان التراب لكي ينمو، والحيوانات إمّا تعاني من أجل صيد فرائسها أو تعاني من أجل الخلاص من صائديها. وإن خلايا الجسد تقاوم العجز حتى تهلك كما يقاوم البشر من أجل النجاة، تلك النجاة التي لا ينبغي أن تقتصر على نجاة النبات والحيوان، بل هي سلامة الفكر والروح من الابتذال.

فالحرية هي مقاومة المسار المضمحل للطغيان، ومحاولات الاستكشاف هي مقاومة «السهل» من العيش في ظلمات الجهل. إن الموت هو الحقيقة الجامعة لكل الأشياء، ولهذا فمحاولات الحياة تكمن في الارتقاء الجمعي والفردي معًا، ولهذا نجد أفرادًا يهزمون أنظمةً بعد موتهم، كسقراط الذي أثّرت تعاليمه في تشكيل علوم الفلسفة وتوضيح رؤيتنا للعالم حتى الآن. بَقيَ سقراط واختفى قاتلوه بين النسيان.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.