بينما يعيش العالم حالة من الارتباك بين شقي الرحى، إذ تضرب العالم جائحة عالمية (كوفيد-19) من جانب، ويخشى العالم أزمة اقتصادية تؤثر على اقتصادات العالم من ناحية أخرى، تظهر بعض الدعاوى على ألسنة المتضررين من إجراءات الحجر الصحي المتَّبعة في أغلب دول العالم جرَّاء الجائحة، ولعل أشهر تلك الادعاءات محاولة الاستخفاف بخطورة جائحة كوفيد-19 ومقارنة أعداد الوفيات المتوقعة من الوباء بتلك التي تخلِّفها الإنفلونزا الموسمية، للحث على تطبيع المرض وإزالة الإجراءات.

بطلان الزعم من النظرة الإحصائية

منذ أيام، نشر الطبيب جيرمي صامويل فاوست مقالًا في دورية جاما العلمية، يتناول فيه ما أسماه بـ «خطورة المقارنة بين كوفيد-19 والإنفلونزا الموسمية». ويشرح فاوست أن هذه المقارنة خاطئة من كافة الأوجه. فبدايةً، ترجع الأرقام المتداولة عن أعداد وفيات الإنفلونزا الموسمية إلى تقديرات مركز التحكم في الأمراض الأمريكي، وعلى عكس التسجيل المباشر للحالات والوفيات الناتجة عن كوفيد-19، تقوم تقديرات الإنفلونزا على نماذج رياضية نظرية لا تعكس الواقع الفعلي. وإن سلَّمنا بالأرقام المبنية على نماذج رياضية يظل كوفيد-19 أخطر، إذ مثّل عدد الوفيات منه في الولايات المتحدة حتى 18 مايو  2020 نحو 90 ألف وفاة، بينما في أقصى تقديرات مركز التحكم في الأمراض تتراوح وفيات الإنفلونزا بين 23 ألف إلى 61 ألفًا بين عامي 2013-2014 وعامي 2018-2019.

يصرّح فاوست للموقع الطبي الشهير ميدسكيب قائلًا: «يقول بعض المسئولين الحكوميين وغيرهم أن الأعداد مشابهة لأعداد الإنفلونزا، ويستخدمون المقارنات لدعم تلك الحجة. لكن إقامة تلك المقارنات خطير للغاية. إن كوفيد-19 أخطر من الإنفلونزا كثيرًا».

يرى فاوست أن المقارنة الواقعية بين كوفيد-19 والإنفلونزا، تصحُّ في حالة أعداد الوفيات الأسبوعية من المرضين؛ إذ سجَّل مركز التحكم في الأمراض الأمريكي وفيات من كوفيد-19 في الأسبوع المنتهي بيوم 21 إبريل 2020 بـ 15455 حالة وفاة، بينما في أسابيع الذروة من الإنفلونزا بين أعوام 2013-2014 إلى 2019-2020 تراوحت وفياتها بين 351 (في الأسبوع 11 من 2016) و1626 (في الأسبوع الثالث من 2018).

تقترح تلك الإحصائيات أن وفيات كوفيد-19 في الأسبوع المنتهي في 21 إبريل 2020 تزيد عن وفيات الإنفلونزا في ذروتها بنحو 9.5 إلى 44.1 ضعفًا خلال 7 مواسم سابقة من الإنفلونزا في الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من الطبيعة المميتة لكوفيد-19، لكن التخوف الحقيقي منه يكمن في طبيعته الوبائية، أي سرعة انتقال الفيروس من شخص لآخر، ويستطيع فيروس كورونا المستجد الانتقال إلى شخصين أو 3 أشخاص، بينما لا تنتقل الإنفلونزا الموسمية إلا إلى 1.3 شخص. ومن معالم الخطورة الأخرى، تأتي فترة حضانة الفيروس في المقدمة؛ إذ إن فترة حضانة كوفيد-19 قد تمتد إلى متوسط 14 يومًا دون ظهور الأعراض، ما يطيل فترة انتقال الفيروس إلى الأصحاء، على عكس الإنفلونزا التي تصل فترة حضانتها إلى يومين فقط.

تنذر كل تلك البيانات بانهيار النظام الصحي لعدم استيعابه للحالات إذا لم تطبِّق الحكومات الإجراءات الوقائية ولم يلتزم الأفراد بالتباعد الاجتماعي، ويؤدي انهيار النظام الصحي إلى وفيات بكوفيد-19، ولكنه يعني أيضًا عدم قدرة النظام على إغاثة الحالات الحرجة بالأمراض الأخرى، ولذلك خطورته الأخرى.

التفكير الحسابي وإهدار قيمة الحياة

أما عن الادعاءات الإحصائية، فقد ثبت بطلانها بالإحصاءات أيضًا، ولكن منذ متى وأصبحت الحياة البشرية رقمًا في خضم ترسانة من الإحصاءات؟ متى فقدت الحياة البشرية قداستها لتصير حبرًا على ورق أو رقمًا على موقع إلكتروني؟

تدل تلك النظرة على طبيعة التفكير السائد في عصر الحداثة. تُعتبر الحداثة من وجهة النظر السوسيولوجية فترة ترتبط بالرأسمالية كما يرى ماركس، وبالتقدم الصناعي كما يرى إميل دوركايم، وبالعقلانية كما يرى المنظّر الاجتماعي ماكس فيبر. وعلى أي حال، ثمة مجموعة من المواقف والأفكار المرتبطة بصورة وثيقة بالحداثة. ترجع تلك الأفكار إلى عصر التنوير الأوروبي الممتد بين القرنين السابع والتاسع عشر.

يبدأ التنوير بارتقاء الإنسان من صبيانيته التي فرضها على نفسه. تشير الصبيانية إلى عجز الإنسان عن استخدام فهمه الخاص دون إرشاد من الآخر. لا ترجع تلك الصبيانية إلى قصور في عقل المرء ولكن في الافتقار إلى الشجاعة اللازمة لاستخدام العقل دون إرشاد الآخر. [فلتتحل بالشجاعة للمعرفة واستخدام فهمك الخاص] ذلك هو شعار التنوير.
إيمانويل كانط، ما التنوير.

كان وعد التنوير والحداثة إذن بتخليص الإنسان من القيود والتقاليد التي كبَّلته في العصور قبل الحداثية، ولم يكن خفيًا أن ترتبط تلك المزاعم بالوعد بحرية الإنسان وتعظيم سعادته. وجاءت الأخلاقيات النفعية التي نظَّر لها الفيلسوف الإنجليزي «جيرمي بنثام» مُعبِّرة عن ذلك. إذ ترى تلك الأخلاقيات أن أخلاقية الفعل ترتبط بنتيجته، إذا كانت تلك النتيجة تؤدي إلى نفع العدد الأكبر من الناس، يكون الفعل حسنًا، وإذا لم يكن الفعل كذلك، يكون مستهجنًا.

وعلى هذا تكون كل الأفعال وسيلة لتحقيق شيء آخر، وغالبًا يكون النفع الأكبر. تمثّل تلك النظرية ما وصفه المنظِّر الاجتماعي ماكس فيبر بـ العقل الأداتي. يفصل فيبر بين نوعين من التفكير العقلاني، الذي ربط نشوء الحداثة به. يسمى النوع الأول بـ العقل الأداتي؛ ويعني التفكير في الوسائل، فإذا سألت شخصًا ما لماذا يمارس الفعل [س]، سيقول إنه يمارسه من أجل الحصول على [ص]. أما النوع الثاني فيسمى بـ العقل القيمي، ويعني أن الفرد يمارس فعلًا ما لأنه يمثل قيمة بذاته، أو لأن الفعل غاية له، فإذا سألته لماذا تتمسك بنسق معين من الأخلاق أو لماذا تحترم غيرك من الناس، سيجيب أن هذا يمثل قيمة له، ولا يرغب منه بالحصول على شيء آخر.

اللا عقل الأداتي: عقلانية حسابية أم ضياع للقيم؟

لعل النقد الأعنف للعقل الأداتي ظهر على يد مفكري مدرسة فرانكفورت ونظريتهم النقدية. نشأت مدرسة فرانكفورت والنظرية النقدية في محاولة الإجابة على سؤال: لماذا لم تتحقق مزاعم التنوير في حرية الإنسان وخلاصه؟ لماذا تخلّف الإنسان إلى الهمجية بدلًا من تقدمه؟ فقد نشأت تلك المدرسة في ظل الحرب العالمية الثانية والهولوكوست، وقد أودت الحرب العالمية الثانية بحياة ملايين من البشر، وظهر في تلك الفترة حكومات شمولية مثل النظام النازي في ألمانيا.

كتب مفكرا مدرسة فرانكفورت «ماكس هوركهايمر» و«ثيودور أدورنو» كتابهما الشهير «جدل التنوير: شذرات فلسفية» لمحاولة طرح هذا التساؤل والتفكير فيه، مستهلين الكتاب بالفقرة التالية:

ابتغى التنوير، بالمعنى الأوسع، تحرير الإنسان من الخوف، ووضعه في مكانة السيد. ولكن الأرض المتنورة تعج بالكوارث.

تنطوي دعوة التنوير إلى العلم والابتعاد عن التقاليد، برغبة ظاهرة في تحرير الإنسان الأوروبي من القيود الدينية الكنسية التي كبَّلته في العصور الوسطى وخوفه المطرد من قوى الطبيعة ومحاولة فهمها والسيطرة عليها بالعلم، على نزعة إقصائية في مضمونها. إذ يستبعد التنوير أي فكر غير خاضع للحسابات الرياضية «العلمية»؛ باعتباره فكرًا يدفع على التخلف إلى تلك العصور الغابرة من جديد.

يكتب هوركهايمر وأدورنو: «يرى التنوير أن أي شيء لا يخضع إلى قواعد الحساب والنفع ينبغي النظر إليه بريبة وحذر». كما أن «مصلحة الجماعة» التي تدعيها الفلسفة النفعية تُهدر في وسط تلك الدعاوى. فبالنسبة إلى الماركسية، ثمة صراع بين الطبقات ومصالح فئوية واستغلال للبروليتاريا، كما يستطرد المفكران في جدل التنوير: «يُحكم المجتمع البورجوازي بالمعادلات. إنه يجعل الأمور غير المتشابهة في صورة مقارنة، باختزالها إلى كميات مجرَّدة. يعتبر التنوير أي شيء لا يمكن اختزاله إلى أعداد مجرد وهم».

يرى ماكس هوركهايمر في كتابه «نقد العقل الأداتي» أن العقل الأداتي يرتبط بالتفكير الصوري والوضعية المنطقية. إذ يدعي التنوير –كما يرى هوركهايمر- أن العقل الأداتي والتفكير الصوري يؤديان إلى جعل الطبيعة قابلة للحساب، وبالتالي التمكن من الاستفادة منها والهيمنة عليها. فإن أي شيء لا يمكن حسابه يخرج من إطار التفكير العلمي الذي حبَّذه التنوير، وفي تلك الأجواء يفكر الناس بالوسائل ويتناسون التفكير بشأن الغايات، ويخلق التنوير على إثر ذلك صورة مشوهة عن العالم لا تناسب إلا إياه. تنتهي تلك الصورة بالتنوير إلى معارضة ذاته بالوقوع في حالة من اللا عقلانية من خلال تأكيده الشديد على العقل الأداتي، ورفضه كافة القيم الأخرى بدعوى أنها غير علمية.

فبينما تخطئ المقارنات بين كوفيد-19 والإنفلونزا الموسمية، من الناحية الإحصائية قبل أي شيء آخر، فإنها تُعبِّر بوضوح عن حالة العقل السائد في ظل الرأسمالية والحداثة. يسعى العقل الأداتي إلى النفع، ولكن النفع يظل مفهومًا مبهمًا وغير محدد المعالم، وترتدي المصالح الفئوية قناع المصلحة العامة.

يرى العقل الأداتي حيثيات أطروحته منطقية وعقلانية، فإذا كان كوفيد-19 يشبه الإنفلونزا فـ لما الرهبة؟ ولكنه يغفل بذلك قيمة الحياة البشرية الواحدة، التي يسعى الطب –المُنتَج الأبرز للحداثة- إلى الحفاظ عليها. وبهذا تتناسى الحداثة بتمسُّكها بالعقل الأداتي غرض التنوير الأصلي، وتنحدر إلى اللا عقلانية واللا إنسانية وإهدار القيم. لا ينبغي علينا المفاضلة في الحياة والموت، أو الاختيار بين الأزمات الاقتصادية أو الجائحة العالمية، فمثل تلك الأزمات والأوبئة إنما تحث الذكاء البشري على ابتكار حلول جديدة تقي الإنسان من الوقوع في الاختيار بين الاختيارين في المقام الأول.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.