الجو قاتم يا نجيب، وعلينا أن نشق طريقنا بأيدينا وإلا ضعنا.

قائل هذه الكلمات هو الطبيب الجرّاح «علي باشا إبراهيم» ناصحًا د. نجيب باشا محفوظ، ويبدو أنه قد استجاب لنصيحته، فألقى على عاتقه مسئولية تغيير الأوضاع الطبية المزرية في مصر، ليصبح بجدارة رائد علم النساء والتوليد.

نشأة نجيب باشا

استمر مخاض الأم ثلاثة أيام بلياليها، فقد كانت تضع مولودها الثامن وقد جاوز عمرها الخامسة والأربعين، ليخرج الجنين أخيرًا لكن بلا صوت أو صراخ، وقبضتاه مرتخيتان، لتظن القابلة ومن معها أنه قد فارق الحياة، فوضعوه بصينية قرب النافذة ولم يقطعوا حبله السري، ليلحظ أحدهم وجود دبيب حياة به وتنفس خافت، فعملوا على إنعاش قلبه حتى استرد حياته، لكنه بقي أشهرًا يعاني أمراضًا عديدة جرّاء تركه قرب النافذة شتاء وقد ظن به الموت. كان ذلك المولود المتعسرة ولادته هو نجيب محفوظ، في اليوم الخامس من شهر يناير/كانون الثاني عام 1882.

نشأ محفوظ مُحِّبًا للعلم والقراءة، وقد ساعده على ذلك شغف أبيه بالمعرفة، فقد كان يملك مكتبة كبيرة، وكان كثير الاطلاع على المجلات الثقافية، ويطلب من ابنه نجيب أن يقرأ له إصحاحًا من الكتاب المقدس كل ليلة. التحق نجيب بالابتدائية وقد أظهر تفوقًا ملحوظًا ونباهةً مُلفتة للنظر، حتى التحق بعدها بمدرسة الطب عن جدارة.

تغيّر حال نجيب من حال إلى حال بوفاة والده، وأرّقت مضجعه أيام ضنك قد لفّت حياته، وتعرّض لضوائق مادية عديدة، وأزمات عصيبة، لكنه استطاع أن يُكمل المسيرة بفضل إيمانه وشغفه بالعلم. فالتحق بمدرسة طب «القصر العيني» عام 1898، وكان الطب آنذاك في مصر علمًا مُتدهورًا، وكانت سمعة الطبيب المصري سيئة للغاية.

حين أُنشئت مدرسة الطب عام 1825، كان هناك مشكلة مستعصية على الحل، فالمحاضرون كلهم أجانب، والطلبة كانوا من أبناء الأزهر ولا يُتقنون اللغات الأجنبية، فكانوا يلجؤون إلى الترجمة، فتتُرجَم المادة من الفرنسية إلى الإيطالية، وينقلها مسئولو الترجمة إلى اللغة العربية.

وقد أُرسل من هؤلاء الطلبة بعثات علمية إلى فرنسا، فأُنشئ بذلك أول جيل من الأطباء المصريين، الذين عادوا إلى التعليم في مصر، لكن بمرور السنين أخذ الطب في الانحدار، فالجيل الأول من النوابغ كان بعضهم قد قضى نحبه والبعض الآخر أُحيل إلى التقاعد، ومع توقف البعثات العلمية وعدم مواكبة الأجيال الجديدة للتطورات العلمية، لعدم إتقانهم للغة العلم وقتها، فُقدت الثقة بالطبيب المصري وقدراته الطبية، وقد أخذ نجيب باشا على عاتقه كسب ثقة الجمهور من جديد.

دخل نجيب مستشفى «القصر العيني» وهو طالب بالفرقة الثالثة. راعه ما قد وجد، فالمرضى عديدون والأطباء قليلون والحال الطبية متأخرة تمامًا. بدأ حياة شاقة ولكنها كانت مُحبَبة إلى نفسه، وقد أظهر تفوقًا ولفت نظر مدرسيه وأبلى بلاءً حسنًا.

نجيب باشا ووباء الكوليرا

وبينما كان نجيب يجتاز عامه الأخيرة بمدرسة الطب، ضرب وباء الكوليرا مصر عام 1902، ولم يكن عدد الأطباء ليسع تفاقم الوباء وعدد المرضى، فتم الاستعانة بطلبة كلية الطب ليساهموا في المقاومة.

حصدت الكوليرا بهذا العام أرواح آلاف من الحجيج، وقد اُحتجز المصريون العائدون من الحج في حجر صحي، وكان من بينهم عمدة بلد صغيرة قرب أسيوط، ولم يفطن هو أو مسئولو الحجر أن العشر صفائح المملوءة بماء زمزم والتي جاء بها تحوي الوباء، فعاد بها إلى قريته ووزع منها على أقاربه وأحبابه، وصب منها الناس في الآبار الرئيسية تبركًا بها، وما هي إلا أيام والقرية رزحت تحت وطأة المرض والموت.

فُرض على القرية سياج من العسكر لمنع دخول أو خروج أحد منها، وحُشد الأطباء وطلبة مدرسة الطب من كل حدب وصوب، ولم يُفرِّق الوباء بين طبيب ومريض، فكان يحصد أرواح المُعالِجين وينتج عن ذلك عجز في عددهم، فتطوع نجيب ليحل محل طبيب قد تُوفي إثر المرض، وألح في طلبه، وكان موضع عجب بين أقرانه، فكيف يسعى إنسان إلى حتفه؟ لكنه أصرّ حتى قُبل.

وأبلى بلاءً حسنًا رغم ما كان يتعرض له من انتقادات واستهزاء من قِبل زملائه وذلك لصغر سنه، وقد وسمته هذا الفترة وسمة ظلت مستمرة معه، إذ كان أشقر البشرة لكن ما تعرّض له هناك أدى إلى تسلخ بشرته واهترائها جرّاء حرارة الشمس هناك، فاستحال اللون من الشقرة إلى السمرة.

نجيب باشا وطب النساء

لم يكن هناك طب للنساء في مصر، فالعائلات المصريات كانت لا تُبيح لنفسها إرسال نسائهم للمستشفيات لإجراء عمليات ولادة على أيد أطباء وطلبة من الشبان. وقد باءت كل محاولات الأطباء ومدرسة «القصر العيني» بالفشل، فكان الأطباء يُخصِّصون غرفة لأمراض النساء والولادة، فلا تدخلها مريضة واحدة، فيضطرون لغلقها.

وحدث ذات يوم أن دعا أحد الأطباء نجيب ليحضر معه حالة عسر ولادة، كانت المرأة ترقد على سرير وقد باءت المحاولات في استخراج الجنين بالفشل، ولمّا رأت المرأة نجيب أسرّت له أنها تستبشر بوجهه خيرًا، وبدأت محاولات إخراج الجنين واستمرت ساعات دون خروجه. إلى أن خرج جسد الجنين دون رأسه، ثم انفصل الجسد عن الرأس جرّاء المحاولات والشد، وقد استقر الطبيب على إرسالها إلى مستشفى حكومي.

ولمّا سأل نجيب عن المرأة في اليوم التالي، أخبره الطبيب أنها قد ماتت والرأس محشورة داخلها، فلم يذق نجيب طعامًا ولا نومًا، وبقي فَزِعًا ضَجِرًا، وقد أخذ على عاتقه عهدًا بدراسة طب النساء والتوليد.

ورغم ما نصحه به أطباء القصر العيني وتنبؤهم بفشل قسم أمراض النساء الذي ينوي ترميمه، إلا أنه أصر على القيام بمهمته هذه، على أن يعمل بها من الساعة الثامنة للتاسعة، ثم يعود لعمله كطبيب تخدير بعد التاسعة.

وبالفعل تحقق مُراد نجيب، فما مر شهران إلا والحجرة تكتظ بالمريضات، حتى أنه اضطر للتخلي عن وظيفته الأساسية كطبيب تخدير وأفنى وقته بين كتب طب النساء وبين الممارسات العملية، حتى حظي بمكانة علمية مرموقة وخبرة عملية كبيرة، وقد ازدادت وأُثريت مكانته بسفره بعد ذلك إلى أوروبا.

واستمر نجيب باشا على حاله، مُنقِذًا حيوات نساء كُثر وأطفالهن، حتى أنه كان يلتقي بهم بعد ولادتهم المتعسرة بسنوات طويلة وقد صاروا رجالًا أصحّاء، فلا تفي كلمات شكرهم حقه ودوره العظيم.

تُوفي د. نجيب عن عمر جاوز التسعين، عام 1972، بعد أن أرسى قواعد طب النساء في مصر، واستحق عن جدارة لقب رائده.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.