الموت شيء مرعب ليس في حدّ ذاته، ولكن بما يتركه للأحياء من بقايا حياة الراحلين.
محمد المخزنجي، أوتار الماء.

بصوتٍ عال ينادون عدّة مرات: «هل يسمعنا أحد؟ هل من أحد هنا؟».

من فوق أنقاض وألواح خرسانية، وبقايا ما كان يوماً ما منزلاً، تملؤه الحياة بصوت أصحابه، تصدح أصوات رجال الإنقاذ مُناديةً بتلك العبارات، بين الشقوق والفراغات التي صنعها الهدم علّهم يجدون صدى غير صوتهم. ينتظرون أي ردٍ بـ «نعم نحن هنا»، أو أنين أو حتى صوت مواء أو نباح، أو أي صوت يبشّر بوجود كائن ما زال حياً.

لكن تلك الأصوات المُنادية في أغلب الأحيان وقت الكوارث الطبيعية -والحروب أيضاً- لا تجد سوى الصمت، صمت لا يود هؤلاء المنقذون أن يسمعوه. نعم، يمكن للصمت أن يُسمع وأن يُؤلِم أيضاً، يمكن للصمت أن يكون أكثر قسوة من ضجيج حديث بين مجموعة أفراد، أو زحمة سير، أو صوت آلات هندسية تعمل في تشييد مبنى.

نحن نعتبر الصمت، في حياتنا العامة/ السريعة، هو الأداة التي تُنقذها في كثيرٍ من المواقف، فنلجأ للصمت والسكون والسكوت إذا رغبنا في أخذ استراحة من زحمة الحياة. نغلق غرفتنا ونسكن، لا نفكر في شيء، لا تتردد أفكار داخلية في عقولنا، لا تحدثنا نفسنا بأي شيء. فقط صمتٌ تام.

نلجأ للصمت في بعض الأحيان عندما نتشاجر مع شخصٍ قريب منّا، حتى نتفادى الكثير من المشاكل والردود العنيفة، وما يمكن أن تؤول له الأمور وتسوء.

الصمت ليس دائماً جميلاً

يلجأ البعض منّا أيضاً للصمت الذي نعرفه بـ «الصمت العقابي»، وهو رفض التواصل مع الطرف الآخر، وهو نوع من الإساءة العاطفية له أسبابه وطرق التعامل معه-والتي ليست موضع حديثي هنا.

الصمت الأكثر قسوة، هو أنك لا تجد رداً في وقتٍ وظرفٍ تموت شوقاً لسماع ولو أنين يُطمئنك. عندما ينعدم الصوت من حولك أو من شخص كنت دائم التواصل معه. مع أخ، صديق، حبيب، أب وأم وغيرهم. الصمت الأكثر قسوة هو صمت الموت، عندما تكون أمام مشهد يفقد فيه الكائن الحي و«الشيء» حياته. نعم، حتى الأشياء بكل أنواعها وموادها المُصنّعة منها تموت وتُفقَد ويُحزَن عليها، حالها كحال المخلوقات الحيّة.

لن أنسى ذلك المشهد الذي رأيناه جميعاً عبر الشاشات لهدم برج الجلاء الموجود فيه مكاتب صحفية في غزة عام 2021 من قبل قوات الاحتلال. لن أنسى ما شعرت به آنذاك ما حييت. تفاصيل ما حدث كانت للمُشاهد والموجود هناك أشبه بطعنات تُغرس في جسدٍ حي قبل الإجهاز عليه.

طعنة أولى عندما تلقّى مالك البرج بلاغاً بإخلاء المبنى قبل قصفه بالطائرات دون قبول أي وسطاء وتدخلات لمنع ذلك. طعنة عندما أبلغ المالك جميع من في المبنى بالإسراع في الإخلاء. طعنة للمُشاهد عندما تجوّلت كاميرات الصحفيين في المبنى أثناء الإخلاء ونقلت الصورة كما هي أثناء ترك مكاتبهم وحمل ما استطاعوا من معدات وممتلكات ضرورية. ثم الطعنة الأخيرة للجميع، عندما أتى المشهد من بعيدٍ لقصف المبنى الذي يقف وسط عدّة مبانٍ وكأنه يقف وحيداً.

رغم أنه مبنى من حجر لكن مشهد قصفه وسقوطه أشبه بمشهد إعدام. حتى المباني الحجرية يمكن أن تُعدَم وتموت، وتموت معها الكثير من الحكايات. لم أتخيل أن تُذرف دموعي من أجل مبنى من حجر ذلك اليوم. عندما بدأ المبنى بالتشقق وتسقط أجزاء منه، وتستمر الطائرات بتوجيه الضربات له. بدأت النوافذ الزجاجية وأجهزة التكييف تتهاوى وتسقط، ما هي إلا ثوان حتى تحوّل كل شيء إلى ركام. ثم لم يعد هناك مبنى!

مثل صمت تيتانيك

صَمَت الضجيج الذي كان هناك، ضجيج الرجال حول البرج في الأسفل وهم ينظمون عملية الإخلاء السريعة خلال العشر دقائق التي سمحت لهم قوات الاحتلال بالحصول عليها. صَمَت الضجيج الذي صنعه من كان في المبنى وهم ينزلون مسرعين عبر السلالم مرددين عبارات الأسى والحسرة، وينادون على بعضهم للتأكد من أن الجميع خرج. صَمَت ضجيج الأحلام ونشاط المكاتب والشقق التي جمعتهم ببعضهم في عدّة ثوانٍ. ذلك المشهد ذكرني تماماً بمشهد إخلاء وغرق سفينة تيتانيك، كما شاهدناه سينمائياً.

ضجيج وحالات استنفار وأوامر إخلاء وتجهيز قوارب نجاة، عمليات إخلاء وإجلاء سريعة من السفينة العملاقة قبل غرقها. ضجيج سقوط الصواري، انشقاق السفينة نصفين، هول المشهد الذي شاهدناه وهي ترتفع في المحيط، ثم لحظات غرقها واختفائها في قاع المحيط. أمّا في برج الجلاء، فسقط المبنى في هيئة ركام فوق بعضه متبعثراً في مكان تشييده. ثم عمّ الصمت المكان. صَمت تيتانيك يُخبر بأن الأرواح التي كانت هنا صعدت للسماء، وصَمتٌ في غزة يخبر بانتهاء عملية هدم المبنى وتفرق الناس الذين كانوا هنا إلى أماكن أخرى.

زلزال تركيا والمغرب

عندما وقع زلزال تركيا في فبراير/ شباط من العام الجاري، كنت مستيقظة لساعة متأخرة من الليل أتصفح تطبيق «تيك توك» وما يحتويه من محتوى ترفيهي ومقاطع مضحكة، وكما نقول «التريند النهاردة إيه؟!». وبسبب وجود حسابات وكالات وقنوات إخبارية أتابعها في هذا التطبيق، استطاعت الأخبار أن تتسلل إلى الصفحة الرئيسية والظهور أمامي، لأجد أن هناك هزة أرضية عنيفة في تركيا امتد أثرها إلى مدن سورية.

الألم النفسي والانزعاج الذي يغمرني عند وقوع كوارث طبيعية لا يمكن وصفه لأنه ببساطة لا أحد مُلام هنا. القوى الطبيعية تقوم بعملها، تاريخ الأرض شاهدٌ على ذلك. فأسفل القشرة الأرضية نار موقدة، وطبقة من الصخور الذائبة تتحرك بدرجات حرارة مهولة ساهمت في تشكيل الأرض لما هي عليه الآن عبر ملايين السنين.

نستطيع فقط أن نُلقي باللّوم على من شيّد المباني السكنية والأبراج في تلك المناطق الخطرة جيولوجياً، دون مراعاة أية معايير سلامة صارمة. وفي بعض الأحيان لا يسعفنا الظرف حينها لفعل ذلك.

اقرأ أيضاً: كيف تحدث الزلازل؟ وما هي المناطق الأكثر عرضة لها؟

أكثر ما رصدته وقت زلزال تركيا خاصة، هو مناداة فِرق الإنقاذ على منْ يمكن أن يكون أسفل الركام. مشهد تقشعر له الأبدان ويُؤلِم القلوب عندما تستمع لأصوات رجال فرق الإنقاذ مُتّحدة تنادي بصوتٍ عالٍ: 1، 2، 3. هل يسمعنا أحد؟ صمت تام. أجهزة تنصّت حسّاسة تستشعر أي رد محتمل، ثم لا نجد سوى الصمت. صمت رجال الإنقاذ وصمت المكان الذي يخبرنا أنه لا أحد هنا! أثناء متابعة ذلك وجدتني أقول لنفسي مباشرة: يا الله. «زي صمت تيتانيك».

تكرّر ذلك المشهد في بعض عمليات الإنقاذ في زلزال المغرب أيضاً، وبالفعل هو صمت مثل صمت تيتانيك. الصمت الذي آلم قلوبنا وذرفت أعيننا دموعاً بسببه، عندما نزلت بنا الكاميرا في مشهدٍ على سطح المحيط وسط ضجيج وصراخ الناس ومحاولات النجاة ولو على حساب حياة آخرين. بدأ الصمت يعم المكان شيئاً فشيئاً، ثم عاد قارب الإنقاذ الفارغ وسط الجثث المتجمدة، يتفحّصها رجل ويُبعدها من أمام القارب وينادي رجل آخر: «هل يسمعنا أحد؟ هل من أحد هنا؟» ثم لا أحد هنا.

بعد تلك الأحداث والملاحظات والشعور، أصبح للصمت معانٍ وغرابة أخرى تشكلت لديّ عنه، لم يعد الصمت هو السكون والهدوء والراحة النفسية. لم يعد الصمت في حرم الجمال جمال، بل هو شيء ما يروي حكاية ما، ويُؤلِّم من دون صوت.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.