حبُّ الوطن طبع في الناس: وقد قال «عمّر الله البلدان بحبّ الأوطان» ، وقال ابن الزّبير: «ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم»، ولولا ما منّ الله به على كلّ جيل منهم من الترغيب في كل ما تحت أيديهم، وتزيين كلّ ما اشتملت عليه قدرتهم، وكان ذلك مفوّضا إلى العقول، وإلى اختيارات النّفوس؛ ما سكن أهل الغياض والأدغال في الغمق واللّثق، ولما سكنوا مع البعوض والهمج، ولما سكن سكّان القلاع في قلل الجبال، ولما أقام أصحاب البراري مع الذّئاب والأفاعي وحيث من عزّ بزّ، ولا أقام أهل الأطراف في المخاوف والتّغرير، ولما رضي أهل الغيران وبطون الأودية بتلك المساكن، و لالتمس الجميع السّكنى في الواسطة، وفي بيضة العرب، وفي دار الأمن والمنعة.

وكذلك كانت تكون أحوالهم في اختيار المكاسب والصناعات وفي اختيار الأسماء والشّهوات. ولاختاروا الخطير على الحقير، والكبير على الصغير.


من الرسائل السياسيّة للجاحظ

في الجزء الأول من مقالي عن أمر التغريبة السوريّة تحدثت عن المنفى والتهجير، وتحدثت عن النزوح والهجرة والمهجر أو المهاجر في الحالة السوريّة، وعن الفارق الموجع بين مهجر قريب ومهجر بعيد، وتحدثت عن أزمنة النزوح والهجرة؛ تحت مهجر سوريّ قديم، استعرت من دراسة الباروت لوصف موجاته الثلاثة، ومهجر سوريّ جديد أضفته كموجة رابعة؛ وقسمته إلى أزمنة بالنسبة لبداية اندلاع الثورة السوريّة، وذلك بعد تعيين المُهجرِّين المباشرين وغير المباشرين ووسائلهم، وأشرت أيضا من بعيد إلى معان وجدانيّة متداخلة للمنفى والوطن واللغة.

ظلت إيران وروسيا تأكدان على أهميّة سوريا «الإستراتيجيّة» لهما وعلى أهمية موقع الأسد من هذه الإستراتيجيّة بكل صراحة ووقاحة

وفي هذا الجزء نتابع بأسلوبٍ يتغيّا أساسا وضع قضية الهجرة والتهجير في موقعها الصحيح من القضيّة السوريّة المركزيّة -وهي حقّ امتلاك السوريّ لحريته على أرضه.

حيث أقول إنّ الهجرة والتهجير هي عرض التنازع على أرض سوريا بوصفها بالغة الأهميّة لقوى كبرى وصغرى لها موقع في النظام الدوليّ الذي قام بنيانه على نتائج حروب صراعات تاريخيّة، ولا أعني بالمرّة وجود «مؤامرة مباشرة» لتفريغ سوريا على هذا النحو، ولكن أحاول بيان مركزيّة القضيّة السوريّة في العقول السياسيّة الإستراتيجيّة لهذه القوى، وكيف وهي تسعى لتحقيق مصالحها بلا رحمة، تساهم في تَذْكِيَةِ الصراع وعقابيله من مذابح وتهجير وتدمير.

ثمّ سأشير إلى الأسباب الذاتيّة للهجرة، وإلى أنّ للهجرة أساسا أسباب لا علاقة لها بالحرب.وأشير إلى أنّ معالجة مسألة التهجير لها علاقة مباشرة بمعالجة الواقع الميدانيّ في سوريا، أي هي فرع عليها، أمّا مسألة الهجرة والمهجر فليس لها دوما هذا الارتباط مع الحرب ونتيجتها.


(4)

ظلت إيران وروسيا تأكدان على أهميّة سوريا «الإستراتيجيّة» لهما وعلى أهمية موقع الأسد من هذه الإستراتيجيّة بكل صراحة ووقاحة، وعلى الأرض فإنّ التدخل الأجنبي الصارخ كان إيرانيّا روسيًا، وهما دولتان معتمدتان في المنظومة الدوليّة ولإحداهما حقّ الفيتو والعضويّة الدائمة في مجلس الأمن، وللأخرى جولات مفاوضات مع هذا المجتمع الدوليّ استمرت خلال الحرب السوريّة وتتوجت بتوقيع اتفاق لوزان.

وأمّا من ظلّ يتحدث عن مخاوفه لكن دون الجهر الرسميّ غالبا فهو الكيان الاستعماري الأهم في المنطقة، حيث ظل الكتاب اليهود يبدون قلقهم من أيّ وضع جديد في سوريا بوصفه خطرا على إسرائيلهم -حتى حالة الفوضى المطلقة- ما يعني أنّ أي وضع خال من نظام الأسد بقيادة بشار أو غيره هو وضع غير مناسب وغير مقبول لإسرائيل ككيان.

وهذا يضاف إلى قلق مزمن في الذهنية اليهوديّة وهو القلق من وجودهم وسط «بحر من العرب»، وليس المقصود العدد على أي حال بل قيام أيّة دولة عربية _لا سيما في الطوق_ مستقرة وقوية سواء كانت ديمقراطية أو سلطانيّة أو ما لا أعرف. وقيام دولة تركية قوية ومستقرة غير مقبول أيضا، وذلك عطفا على نتائج الحرب التي قام عليها النظام الدولي الحاليّ، ونشأ منها الشرق الأوسط، ولا شك أنّ لذلك _خطر صعود تركية قويّة_ مفاعيل قويّة في تحريك سياسات القوى الكبرى، وتداخلات معقدة مع أطراف الفضاء المحيط بها من إيران إلى روسيا إلى البلقان فالاتحاد الأوروبي بقيادة الجمهوريّة الألمانيّة.

لقد مثل صعود حزب العدالة والتنميّة الإسلاميّ الخلفية مع صعود تركيا السريع والبارز في عهده موقظا لصراعات راهنة قديمة جذورها، وما يعنيني كي لا أذهب بعيدا، هو أن سياسة الاحتواء لتركيا في حلف الناتو والاتحاد الاوربي والتي تدفع لها الولايات المتحدة الامريكية بقوّة ظلت محدودة الأثر بسبب القلق الأوربيّ والألمانيّ خصوصا من الانعكاسات الثقافيّة والاقتصاديّة لصعود بلد مسلم على دول الاتحاد، وهاجس الانعكاسات الأمنية ذات الثقل التاريخيّ على دول البلقان وغربي البلقان خصوصا، وكذا على اليونان وقبرص.

هذه معناه بالضبط أنّه يمكن القبول بتركيا قويّة محتواة في مجالها، لكن لا يمكن مطلقا القبول بها ولها نفوذٌ في سوريا، والرفض يأتي من أطراف متعددة، و كلها لها مشلكة قديمة مع الجمهوريّة التركيّة، وهي إسرائيل وإيران -تركيا سنيّة- وروسيا ودول الاتحاد الأوربيّ.

ولقد استمرّت القيادة التركيّة تطالب وتضغط من أجل تقديم دعم ملموس لـ «الشعب السوريّ» متمثلا في حظر طيران أو منظقة آمنة، وكان يبدو ولا زال أنّ يدها مغلولة، وهنا ليس الحديث عن تقديم هبة تركيّة وإنّما عن نظرتها لأمنها القوميّ.

وبالمقابل فإنّ الأطراف الظاهرة والخفيّة التي كانت تعارض الطروحات والخطوات التركيّة ترى في تفكك سوريا وأزمة الهجرة ورقة ضغط لضرب الاستقرار في تركيا الصاعدة، وعبر ورقتيّ المسألة الكرديّة وعلمانيّة الدولة من جهة، وتحديد النمو الاقتصاديّ الذي هو سرّ نجاح حزب العدالة والتنميّة وازدهار الدولة التركيّة القوميّة ومنعة مجتمعها من جهة أخرى؛ وهذا الأخير لا ينفصل عن الأول؛ كما أنّا ندرك بأنّ الهجرات بين دول المشرق تحمل معها أعباء سياسيّة تاريخيّة، وليس فقط اقتصاديّة اجتماعيّة كالتي إلى الدول البعيدة، وهذا ما يدركه جيدا صانع السياسة الغربيّ.

لا تسامح في مسألة نفوذ تركيّ في سوريا إذن؛ لا سيما من الدولة العبريّة وهاجسها معروف، ومن الجمهوريّة الإيرانيّة التي ترى نفسها حققت نجاحا تاريخيّا بحيازتها سوريا ولبنان كمواني على البحر المتوسط ونفوذها في دول عربيّة الذي خلق أزمات ظاهرة من المملكة المغربيّة إلى السودان إلى اليمن وعمان والكويت والبحرين خاصرة المملكة السعوديّة؛ وهذا النفوذ هو ملء فراغِ فشلِ أنظمةِ الحكم العربيّة تجاه القضايا الكبرى للعرب، وملء فراغ انسحاب محسوب لقوى استعماريّة معروفة واعتمادها على الوكلاء والحلفاء، ومن روسيا التي تعتبر سوريا مجرد ميناء طرطوس على الساحل الدافئ.

ويذهب كتاب أتراك محسوبون على العدالة والتنميّة بعيدا في تفسير الاضطرابات التي ضربت تركيا مؤخرا وبالتزامن مع تفكك سوريا، حيث يتهمون القوى الكبرى بوضع تركيا تحت ظرف يهدف إلى بلقنتها، وتشير كتاباتهم إلى دور خطير للجمهوريّة الألمانيّة التي لها حلفاء ولوبيات ضغط سياسيّة واقتصاديّة قديمة داخل أروقة الدولة التركيّة وفي الأحزاب لا سيما الكرديّة أو العلمانيّة الفاقعة، ويتهمون ألمانيا كواجهة للدول الغربيّة بالسعيّ إلى فرض ما يشبه هيمنتها على البلقان.

من قمّة غرب البلقان أعلن المستشار النمساويّ حادثة الشاحنة الحزينة، ومع موجة هجرة كبيرة في فصول الصيف اشتعل الإعلام العالميّ بحديث الهجرة عبر بحر إيجة والبلقان؛ والذي يبدو أنّ من يستطيع منعه أمنيّا هم الترك الذين لا يفعلون، و يصرح أردوغان باستمرار أنّ أزمة اللاجئين «اختبار لإنسانيّة أوربا» التي غرقت مع آلان كردي في المتوسط، وهو الطفل الذي انتقاه البحر من «كوباني» فألقاه الموج جسدا على الساحل التركيّ في حركة كثيفة المعنى، وتضغط القيادة التركيّة باتجاه حزمة إجراءات متكاملة لمعالجة الوضع السوريّ، وهذا ما بينّتُ كيف ترفضه قوى عديدة.

هكذا يبدو لنا أنّ سوريا تتحول إلى مسألة جيو_أمنيّة تتنازعها صراعات قديمة وحديثة، تحدُّ من إنقاذ شعبها من آلة عسكريّة ضخمة وحشيّة لا يصنعها الأسد ولا يستطيع. وهكذا تتقاطع إذن وتتوازى مصالح وسياسات وهواجس قوى إقليميّة ودوليّة على جسد الفرد السوريّ وتتلاقى على تفكيك سوريا أرضا ومجتمعا، وما لا نذهب به إلى أقصى حدّ، نذهب به إلى حدّ فوق مستوى الشكّ، فلقد أسفر الأقوام.


(5)

وليس داءُ أمر الهجرة بمنحسم، ولم يخلُ قرنٌ من موجة هجرة أو موجتين، وإنّ موجات الهجرة في قرننا مدفوعة عموما بتفاوت مستوى المعيشة بين شمال وجنوب، تفاوتٍ أسبابه كامنة في سياسات استعماريّة واقتصاديّة جائرة تتورط بها دول الشمال والغرب وهم نواة المنظومة الدوليّة.

وليس هو في الحالة السوريّة بمنحسم سريعا، لا الهجرة ولا التهجير، وأرى أنّ موجات الهجرة الجماعيّة وما دون الجماعيّة ستستمر إلى حين، وأنّ انكسار أولى حلقاتها يكون فقط بهزيمة الثورات المضادة التي تقودها قوى السلطة القديمة التي تستقبل في أروقة الدول الغربيّة، كما تشنها جماعات متطرفة معادية للمجتمع ذات خطابات مريضة ومتعالية على الأمّة، إلّا أنّ هذا الانكسار لن يكون حكما فور الانتصار طالما استمرت ظروف صراعات هي ارتدادات لهذه الهزيمة وتفكك علاقات السلطة القائمة.

وفي ضوء ذلك أرى أنّ هذا الداء المزمن الذي قامت على مسبباته الثورات تفاقم بعد ردّة الثورات المضادة وليس مع انطلاق موجة الثورات الأولى؛ وفي الحالة السوريّة ورغم تصاعد القمع وجنوحه بسرعة إلى قتل جماعي عقابي بهدف الترحيل والذي مارسه نظام الأسد باكرا، إلّا أنّه لم تحدث موجات نزوح وهجرة باكرة طالما تأمنّ للناس مقومات الصمود.

لكن مع اختلال موازين القوى وتدمير أحياء ومدن بسلاح الجوّ وما ترتب على ذلك من انعدام مقومات البقاء وليس الصمود فحسب تصاعد النزوح خلال العام الثالث للثورة 2013، لا سيما مع تقدم قوّات نظام الأسد بعد تدخل حلف إيران ممثلا في حزب الله اللبنانيّ وملشيات شيعيّة عراقية، وأكثر ما ظهر ذلك في ريف دمشق متضمنا القلمون، وهي منطقة حاضنة للثورة وذات كثافة سكانيّة.

وفي مناطق أخرى لعب القصف المدمر بالبراميل الدور الأبرز منا في حلب ودرعا، واستمر النزوح إلى بلدان الجوار تركيا ولبنان والأردن مع أمل العودة ومحاولة تأسيس عمل سياسيّ وإغاثيّ ومحاولة الناس للاستقرار المؤقت.

أمّا الهجرة فتصاعدت في السنة الخامسة للثورة والحرب مدفوعة بتطاول أمد الحرب مع انعدام الأفق لعموم الناس، ونفاد المدخرات المعدة للانتظار القصير مع تفشي البطالة القاتلة في الداخل والخارج، وعجز، أو عدم رغبة، دول الجوار عن توفير الدعم اللازم للصمود، والأهم عدم تقديم دعم للعمل السياسيّ العسكريّ في الداخل يصبر الناس ويغذي أملهم، مع فشل السوريين لأسباب مختلفة ليس هنا محل ذكرها في إدارة شأنهم السياسيّ العسكريّ كفريق.

فكانت الهجرة انزياحا في النزوح، أي النزوح إلى مناطق أبعد، وهي الدول التي يهاجر إليها المهاجر بدون مبرر الحرب عادة؛ وهذا أمر يدركه الأوربيون الساسة والكتاب، أقصد الفرق بين النزوح والهجرة ودوافعهما، لكن ما يحدد طريقة الاستجابة هو موقع البلد الجيوسياسيّ، واعتباراته الداخليّة السياسيّة والاقتصاديّة، وهنا نلحظ الفرق بين بريطانيا وألمانيا، حيث أنّ الأولى لديها خطط لنقل النازحين من مخيماتهم أو دعمهم فيها، بينما الثانية تستقبلهم على أراضيها.

وإذ يبالغ فريق في نفي الأسباب الإنسانيّة الدافعة لتحركات أحزاب وحكومات وجمعيات مطلق النفيّ، يبالغ فريق آخر بمدح هذه الدول إلى حدِّ اعتبارها جمعيات خيريّة، وإنكار حاجة هذه الدول للمهاجرين الشباب، وتجريم من يشير من قريب أو بعيد إلى تواطؤ حكوماتها في مناهضة قضيّة السوريين الجوهريّة وفقا للخطوط والتقاطعات التي فصلتها أعلاه.

والصواب وهو الوسط أنّ مزيجا من هذه الدوافع هو ما يحرك هذه الدول، مع ضرورة التفريق بين سياسات الحكومات في الدول المركزيّة في النظام الدوليّ التي تستهدف القضايا الجوهريّة للعرب، وتصرفات أحزاب الخضر والجمعيات الأهليّة وحتى البرلمانات والتي تعالج الآثار الجانبيّة لهذه السياسات القديمة الظالمة؛ وهذا له علاقة بطبيعة الدولة الغربيّة الحديثة.

وغالبا ما تصدر هذه التقييمات والخطابات عن خلل معرفيّ في مقاربة القضايا والمواقف المختلفة في واقع متشاجر حيّ، والأهم عن علّة في نظام المعرفة وعن أزمة هويّة ثنائيّة القطب؛ بين خطاب متشنج يضع الأعداء الفاعلين والأعداء المفترضين والمحايدين وحتى الأصدقاء المخالفين في سلّة واحدة، وخطاب يعبر عن حالة انهزام نفسيّ، خطابٍ تمجيديٍّ ممجوج حتى غربيا، وهو يعبر عن الوجه الآخر للعلة الهوياتيّة، وهو يظهر انسحاق الفرد التام أمام الآخر مطلقا.

وفي الحالتين لا يعود هناك تمييز بين سياسات دول كبرى بأحزابها المنتخبة والتي تعادي كلاميّا وفعليّا القضايا المركزيّة للإنسان العربيّ المتمثلة في حقّه بإدارة شأن نفسه على أرضه كيف يشاء ويختار، وبين توجهات أحزاب وتجمعات أهليّة أو دول ملحقة بالحضارة الغربيّة أو المنظومة الدوليّة ليس لها سياسات كبرى ذات طابع استعماريّ، والتي قد تُعنى صادرةً عن موقف أخلاقيّ في عرفها بمعالجة الأضرار الهامشيّة والعقابيل دون الأسباب والمسببات كما أسلفنا.

ولا شكّ أنّ التقييم العام والموقف المبدأيّ تجاه أيّ طرف يجب أن يبنى على موقفه من القضيّة الأساسيّة، والتي هي هنا دعم حقّ السوريّ على أرضه، والدفاع عنه ضد المجزرة التي تحدث أساسا على أرضه؛ أي قبل أن ينزح أو يهاجر؛ والحدّ الأدنى هو عدم دعم قاتله أو عدم منع وسائل الدفاع عنه كما هو جار.

ولكن يبدو لنا أنّنا نعيش أزمّة هوياتيّة وحربًا وجوديّة تكون فيها الخطابات والأصوات المهيمنة والآراء المتداولة هي الآراء الطرفيّة التي لا تعبر عن الحقيقة ولا تفضي إلى حلول، التي يكمن أولّها في تحقيق قدر من التآلف على حل قضيّة السوريّين الأساسيّة على أرض وطنهم، وهذا هو أول إيقاف النزوح وأول العودة؛ وهذا ما لن يتم ضمن الظرف الحاليّ إلّا أن يتوافق السوريّون من مناصري الثورة، ويتأمنّ لهم دعم فاعل يكسر شيئا من خلل موازين القوى على الأرض، ويساعد الناس على البقاء والصمود، على هذه الأرض الوسط المنذورة للنهايات.


(6)

ليس داء أمر الهجرة بمنحسم، ولم يخل قرن من موجة هجرة أو موجتين، وليس هو في الحالة السورية بمنحسم سريعا

وليس الخيار الفرديّ في أمر الهجرة _دون النزوح القسريّ أو شبه القسريّ_ بقليل الاعتبار، وحتى ما يبدو لنا أحيانا بأنّه مبررٌ بوصفه جماعيّا؛ قد يكون في حقيقته خيارات حشد من الأفراد؛ إلّا أنّ هذا الاعتبار ليس قويّا أيضا ونحن في السنة الخامسة للحرب السوريّة التي إن لم نقل عنها أنّها _دوما وفي كلّ مكان من هذه الأرض_ تستهدف الاقتلاع؛ فإنّها حكما ليس أقلّ من حرب قاسية متوحشة عمياء.

وضع المواقف والناس في سلة واحدة يزيد من حدة التكفير والتخوين، ويفاقم من حال التشرذم والتفرق والتنازع، في الداخل وفي الخارج وفيما بينهما

وأعني أنّه لا يمكننا التحقق من كونه خيارا وذاتيّا عند كلّ نازح أو مهاجر طالما تتوفر بين يدينا ظروف في كلّ وقت بالغة القسوة، وقولا واحدا يبدو لنا بناءً على ذلك بأنّ التعميم التقريعيّ الوعظيّ جائر ولا معنى له؛ حيث سيراه أغلب الناس مزاودةً على آلامهم وسيرفضونه ابتداءً لا سيما إذا حمل بين طياته الإدانة والتخوين لجماعة بشريّة كبيرة ضحت بكلّ شيء من وجهة نظرها هي ومن واقع ملموس يمكننا التحقق منه وقد سردنا آنفا خطوطه وتقاطعاته؛ فكيف إذا صرّح!.

إلّا أنّنا حين التحدث عن الخيار الفرديّ لنعني به الاختيار بين إمكانيتين متساويتيّ الاحتمال أو متقاربتين، والفرديّ بمعنى الأنانيّ والشحيح؛ فسنقترب أكثر من الزمرة التي هي عدوّ التغيير أساسا ونصير الطاغية ابتداء، والتي هاجرت في زمن مبكر كما أسلفنا؛ وهذه ليست قليلة كحشد أفراد أو تجمعات من مجموع المهاجرين، وهي مدانة لأنّها كانت ترى في الطاغية صمام أمان من حيث هو يمارس فعل الاقتلاع في حق أفراد وجماعات من مواطنيها.

كما أنّا قد نقترب من فئة لا تحب الطاغية ولا تكرهه أو قد تكرهه، ولكنّها تخاف أي تغيير و تعاديه فقط لأنّه يضر بمصالحها الشخصيّة الضيقة، وهذه فئة منها من نافق للثورة ومنها من نافق للنظام على قدر المصلحة وبحسب الوقت والموضع، وهي فئة رأت في الثورة فرصة للابتزاز على طرفين وهاجرت من هنا وهناك بعد أن أثرت أو قبل؛ وهاتان الفئتان خارج التاريخ أساسا قبل أن تخرجا من الجفرافيا وبعد ذلك _حتى لو انتصر الطاغية وبقي في التاريخ إلى حين كملعون فلا قيمة لهما_؛ فلا يصلحان كمعيار للحكم ولا كجهة للمخاطبة.

وسيبقى تحت زمرة الخيار الفرديّ فئة تحبّ الثورة لكنها لا تفعل لها شيئا كثيرا؛ إلّا أنّها حكما لا تستوفي شروط التعريف كاملة حيث تكون مغلوبة على أمرها إلّا أنّها لا تضحي، وهي ليست بالشحيحة البخيلة لكنّها ليست بالمقدامة، وقطعا هي ليست من الخيانة في شيء.

من كلّ هذا يتضح كيف أنّ الخطابات العامة في حال الظلم ظالمة ومنفرّة، وهي مظنّة التخوين والتكفير، وهي أيضا ليست مثمرة بالمرّة، لأنّ الظروف الموضوعيّة حاضرة وصادقة، أو هكذا يراها المخاطَب من موقعه. ومرّة أخرى لم يخرج السوريّ لكنّه غالبا أُخرج من دياره ومن حلمه يومَ اقتلع منهما وهو في ذروة الأمل بصباح جديد، ونحن هنا إزاء حالة دفاع ضدّ اختزالات عديمة الشعور والأخلاق يُعبر عنها بصيغ اتهامات تشبه تلك التي اتهمّت الفلسطينيّ من قبل ببيع أرضه وتفضيل المنفى البارد؛ فهل نتذكر هنا مئات آلاف القتلى ومثلهم من المعتقلين ومثلهم من الجرحى المعوقين ومثلهم من الصامدين حتى اليوم على أعتاب قضيّة هذا الشعب.

لماذا أرى هذه الاعتبارات، الخطوط والتقاطعات؛ ضروريّ استحضارها حال معالجة قضيّة الثورة السوريّة التي مبدأها الذي يجب أن لا ننساه هزيمة الطغيان وتحرير الانسان، وهي بهذا المعنى اليوم مسألة الميدان والانتصار، ومسألة العودة والعمران؟.

ذلك لأنّ وضع المواقف والناس في سلّة واحدة يزيد من حدّة التكفير والتخوين، ويفاقم من حال التشرذم والتفرق والتنازع، في الداخل وفي الخارج وفيما بينهما، ولا يبنى عليه أيّ عمل سياسيّ اعتصاميّ؛ حيث يغيب خطاب ناضج يحاول تقليل الأعداء قدر الإمكان، وتوسيع دائرة التأثير ما أمكن، إذ أنّ قضيّة الثورة السوريّة تميل بشكل واضح للإزمان _كما أسلفنا_؛ وعليه تكون قضايا الحرب والهجرة والنزوح واللجوء، مرتبطة بمسألة الهويّة وموقع الأمّة من التاريخ والجغرافيا، ومرتبطة بتخلّق جديد لكلّ ذلك، وليست قضايا تعالج بالتناوش والتنازع، على الأقل ممّن يفترض بهم أنّهم طليعة التغيير، ولنا في السيرة الفلسطينيّة مثالا وعبرة.