حبُّ الوطن طبع في الناس: وقد قال «عمّر الله البلدان بحبّ الأوطان» ، وقال ابن الزّبير: «ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم».

ولولا ما منّ الله به على كلّ جيل منهم من الترغيب في كل ما تحت أيديهم، وتزيين كلّ ما اشتملت عليه قدرتهم، وكان ذلك مفوّضا إلى العقول، وإلى اختيارات النّفوس؛ ما سكن أهل الغياض والأدغال في الغمق واللّثق، ولما سكنوا مع البعوض والهمج، ولما سكن سكّان القلاع في قلل الجبال، ولما أقام أصحاب البراري مع الذّئاب والأفاعي وحيث من عزّ بزّ، ولا أقام أهل الأطراف في المخاوف والتّغرير، ولما رضي أهل الغيران وبطون الأودية بتلك المساكن، ولالتمس الجميع السّكنى في الواسطة، وفي بيضة العرب، وفي دار الأمن والمنعة.

وكذلك كانت تكون أحوالهم في اختيار المكاسب والصناعات وفي اختيار الأسماء والشّهوات. ولاختاروا الخطير على الحقير، والكبير على الصغير.


من الرسائل السياسيّة للجاحظ

(1)

تحيل مفردات كالمهجر أو المنفى أو التهجير القسريّ أو النقل والنفيّ أو الهجرة الاضطراريّة إلى معانٍ متداخلة قانونيّا وسياسيّا وحتى أدبيّا؛ فلكلمة المهجر مدلول محدّد مثلاً في تاريخ الإقليم السوريّ إذ يشير إلى المواطن التي هاجر إليها اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون وبعض العرب الآخرين في القارة الأمريكية شمالها وجنوبها ووسطها، وقد يجمعونها فيسمونها (المهاجر)[1]، وله ارتباط حميمٌ بالأدب العربيّ فيما سميّ بمدرسة المهجر.

أمّا التهجير القسريّ في عرف القانون الدوليّ فهو «ممارسة تنفذها حكومات أو قوى شبه عسكرية أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية بهدف إخلاء أراضٍ معينة وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلاً عنها»، وعليه يعطف النقل القسريّ وهو الذي يتمّ داخل الأراضي المعترف بها تابعة لدولة ما أو جماعة بشريّة ما، والنفيّ القسريّ إلى خارج هذه الأرض؛ ويبدو لنا أنّ النفي يتعلق هنا بإفراد تعيين المستهدف.

أدت أوزار الحرب فى سوريا من قتل وفقر إلى هجرة اضطرارية لمجموعات كبيرة بصرف النظر عن الأسباب المختلفة للحالات المعزولة علاوة على التهجير القسري

أمّا النزوح الإراديّ الإضطراريّ فهو «انتقال أو هجرة» جماعةٍ ما بسبب نشوب حربٍ أو نزاع بين قوتيّن أو في حال الكوارث. والمنفى يشير إلى اسم مكان من نفَى وهو مكان إقامة المطرود من بلاده، مكانُ النَّفْي، وهو أيضا يحيل إلى شعورٍ بغربة عن المحيط بصرف النظر عن مكان الإقامة؛ أي هو مكان شعوريّ «كأنّ الوطن منفى».

وفي القرآن الكريم جعل الخروج من الديار كقتل النفس في المصيبة (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً).

وفيما إذا كان نظام الأسد أو بقيّة الأطراف لا سيما تنظيم الدولة الإسلاميّة ووحدات حماية الشعب الكرديّة قد مارسوا جُرما واحدا أو أكثر من هذه الجرائم عن سبق إصرار وترصدّ هو أمرٌ صار بحكم المبتوت به فيما يتعلق بالنظام والتنظيم؛ إذ اتبع نظام الأسد سياسات تهجير موصوفة؛ من مثل القصف السجاديّ على أحياء ومدن حلب ودير الزور وحمص والغوطة الشرقيّة.

وكذلك المجازر بالأسلحة البيضاء والبنادق في حالات الإعدام الجماعيّ الميدانيّ، وأيضا فرض التجويع الجماعيّ الذي اتُبع في حمص وغوطة دمشق؛ وهذه سياسات بدت ممنهجة ومقصودة بهدف التهجير لا سيما في حمص بوصفها مدينة لها حساسيّة في الوضع السوريّ.

ومن جهته مارس تنظيم الدولة ممارسات تهدف إلى طرد «غير مسلمين» من أراضٍ سيطر عليها، وغير المسلمين هذه تشمل المرتديّن في عرفه، كما أنّ قهره للناس بعد تكفيرهم في حملات «وشرد بهم من خلفهم» وأضرابها، أو من خلال فرض منهجه بقوة قطع الرؤوس وصلب الأجساد قد فاقم من نسبة الشباب المهاجر على نحو خاص. وكما أنّه صار من المتواتر تناقل الروايات والشهادات عن ممارسة التهجير من قبل جهات كرديّة «وحدات حماية الشعب» باستهداف قرى عربيّة في الجزيرة الفراتيّة وحول «كانتون عين العرب».

هذا كلّه يضاف إلى حالات النفي العينيّ أو التهجير الذي يستهدف جهات محددّة عبر مضايقات واعتقالات وتهديدات متكررة، وهنا الحديث عن النفي أو حمل فئات أو أفراد على الهجرة من أراضٍ تقع تحت سلطة النظام وذلك لدوافع سياسيّة.

ومن نافلة القول أنّ المحصلّة هي أنّ أوزار الحرب من قتل وفقر وبطالة سببت «هجرة اضطراريّة» لمجموعات كبيرة بصرف النظر عن الأسباب المختلفة للحالات المعزولة، عِلاوة على التهجير القسريّ الذي مارسته أطراف متعددة في الحرب السوريّة على رأسها نظام الأسد، وكان المستهدف الأكبر من كلّ ذلك هم العرب السنّة، أو كانوا المتضرر الأكبر كذلك.

حركة النزوح في حالة الحرب السوريّة هي الحركة الأكبر ما بعد الحرب العالميّة الثانية. وبالنسبة لأرقام النازحين خارج البلاد فإنّ السوريين على رأس القائمة في العقدين الأخيرين حيث فاق العدد عدد نازحي حروب أفغانستان.

والمنفى في الحالة السوريّة في كلّ حالاته ليس اختياريّا تماما وليس إجباريّاً دوماً، فالتدميريّة الشاملة الوحشيّة غير المعهودة التي طبقّها نظام الأسد وداعموه جعلت من العسير بقاء تجمعات مدنيّة كبيرة أو متوسطة أو ذات كثافة على أرض الوطن، وسبّب ذلك بدوره انعدام الأرزاق والمعايش وتفشي الموت وأقرانه كالحرمان والمرض والفقد والضياع.

وكذلك عمل النظام بنجاح على استهداف أيّ مؤسسة للعمل السياسيّ أو الخدميّ ممّا جعل من الصعب تطور مؤسسّات كبيرة أو متوسطة للثورة في الداخل. هذا وفوقه منظومة معقدة من العوامل والعلل جعلت من المنفى واقعاً قسريّاً مرّاً؛ غير أنّه من الغريب أن يكون تنازع الفصائل المناهضة للنظام هو العامل الثاني بعده، كما أراه أنا على الأقل.

إنّ الحرب هنا لا تعني بالضرورة نهاية الثورة، ولا يعني استخدام مفردة الحرب التسليم بهذا، بل الحرب هي أداة الدفاع عن وجود الجماعة البشريّة التي كانت قد انتفضت لتحصيل حقوقها الأوليّة بمعاير الزمن الراهن؛ فتعرضّت لحملة قمع فإبادة، وهي أداة قوى التغيير لتفكيك الوضع القائم، وليس من ثورة في العصر الحديث إلّا وآلت إلى حرب أو اختلطت بحرب.

كما أنّ الحرب في حالة الردّ على الثورة السوريّة هي حرب إقليميّة تقع على مساحة الأرض السوريّة ويشارك بها بشكل مباشر دولتان «روسيا وإيران» ونظاما حكم «حكومة الأسد وحكومة بغداد» ومنظمات شبيهة بالدول «حزب الله» و«تنظيم الدولة الإسلاميّة» وملشيات شيعيّة مرتزقة.

والحرب بهذا الوصف المركب في حالتنا حرب وجود يشعر معها المحارب أنّه يواجه قوى عديدة متآمرة، وهي بهذا المعنى تبدو طويلة الأمد وقاسية تحمل أوزارها جماعة بشريّة محاصرة إلّا بحبل من الله وحبل من الناس؛ ولذا الحرب هنا تؤول شكلاً من أشكال الوجود الاجتماعيّ.

من هذا المعترك الدامي تتحدث اليوم تقديرات الأمم المتحدّة عن زهاء 4 مليون نازح إلى خارج الوطن ونحوا من سبعة ملايين نازح داخل أرض هذا الوطن.

وما لا تحصيه الأرقام ربّما في الحالة السوريّة هو المنفى الشعوريّ و هذا ما يتناقله السوريّون المقيمون قسراً تحت سلطتيّ نظام الأسد وتنظيم البغداديّ من الرافضين لتخييرهم بين هذا وهذا، وما لا يتم إدراكه هو الوطن «الذي يُحمل في الحقيبة» وفي الكاميرا والجهاز الإلكترونيّ وفي الوجدان ويعذِّب.

لم يخرج السوريّ لكنّه أُخرج غالباً، ونحن هنا إزاء حالة دفاع ضدّ اختزالات عديمة الشعور والأخلاق يُعبر عنها بصيغ اتهامات تشبه تلك التي اتهمّت الفلسطينيّ من قبل ببيع أرضه وتفضيل المنفى البارد؛ فهل نتذكر هنا مئات آلاف القتلى ومثلهم من المعتقلين ومثلهم من المعوقين على أعتاب قضيّة هذا الشعب.

ويمكن تصنيف هؤلاء إلى الذين أُخرجوا من ديارهم أو خرجوا مضطرين إلى مَن أُخرجوا أو خرجوا «هاجروا» من أراضٍ تحت سلطة النظام بسبب وطأة تردّي الأوضاع المعيشية والأمنيّة، أو جيل الشباب المطلوبين للخدمة العسكريّة في ملشيات النظام والعاطل عن العمل والدراسة، أو بسبب الملاحقات الأمنيّة التعسفيّة والاعتقالات، أو أولئك الذين تركوا البلاد مبكراً لتضرر شرط واحد أو شرطين من شروط حياتهم.

ولا جرم أنّ تحت هذا الصنف نسبةً من داعمي الثورة وناشطيها الذين لم يعتقلهم النظام ولم يعدْ بإمكانهم التحرك _كما أنّ من بين المهاجرين من هنا نازحين سابقين من مدن حاضنة للثورة تدمرت مساكنهم، وثمّة نازحون بعد كلّ معركة متاخمة للمدن الكبرى التي يسيطر عليها النظام إلى هذه المدن_؛ لكنّ الغالبية من هذا الصنف ليست من الثورة في شيء، إن لم يكونوا أضدادها.

وقد تزايدت أعداد المهاجرين من هنا مع الوقت بسبب تفاقم سوء الاوضاع، ويصعب تقدير نسبتهم إلى مجموع المهاجرين أو النازحين، إلّا انّها تزداد و تشكل نزيفا في الطبقة الوسطى وأصحاب المهن والحرف، ويُقدر أنّ نسبة كبيرة من رؤوس الأموال هاجرت مبكرّاً مع أصحابها، ويصعب حصر العوامل والأسباب في هذا السياق علماً أنّ التجمعات السكانيّة الأكبر في سوريا لا زالت تحت حكم الأسد، إلّا أنّي أرى فيما ذكرت شيئاً وافياً ما خلا الأسباب المعزولة.

أمّا الصنف الثاني فهم الذين هجرتهم الآلة العسكريّة القاتلة الشاملة للنظام وحلفه من مناطق الثورة _لا سيما المدن ذات التجمعات الأكبر كثافة_.

ويمكن تقسيم النزوح من حواضن الثورة إلى ثلاثة أزمنة؛ في الزمن الأول ناشطون وغير ناشطين نزحوا من المناطق الأسوء من حيث استهدافها بالسلاح الثقيل والتي تعتبر مغلقة إلى حدّ ما مثل درعا وريف دمشق وحمص وريفها وربّما تحرك هؤلاء في سوريا وربّما غادروها بعد فترة تنقل.

أو ناشطون وغير ناشطين هاجروا أو تركوا مناطق للثورة إلى خارج البلد أو إلى المدن الكبرى التي تحت سلطة الأسد، وربّما منهم من هاجر في مرحلة الاضطرابات أي قبل الاستهداف بالسلاح الثقيل كتجنب للملاحقة الأمنيّة وشبح الاعتقال والمجازر بالسلاح الأبيض والخفيف التي عمد النظام إلى تصويرها ونشرها عبر قنوات معينة لبث الرعب وتفريق المظاهرات وردع المحتجين وتقليص الحاضنة.

أو قد يكون للالتحاق بعمل أو دراسة أو لعدم قناعة بالثورة أو حتى لمعاداتها، ولا شكّ أنّ هنا هجرة «عودة» «الأقليات» إلى حواضنها البعيدة أو مراكزها القريبة.

أمّا الزمن الثاني فرافق امتداد عنف النظام الثقيل الدامي المتمادي إلى مناطق أوسع مقروناً بتدهورٍ متسارع في ظروف الحياة لا سيّما الأساسية كالغذاء والدواء و الأمان مع بداية سياسة الحصار والتجويع وهذا شمل حلب وريفها ودير الزور وريف إدلب بالإضافة للمناطق السابقة، و هنا نتحدث عن نزوح أكثر منه هجرة ولا سيما مع تقهقر الجيش الحرّ من مناطق تمدد إليها وتقلص مساحة المظاهرات مع انحسار الأمل بحسم سريع.

أمّا الزمن الثالث فهو من نتيجة عجز فصائل الثورة المسلّحة عن إدارة المناطق نتيجة سطوة سلاح الجوّ ومنع القوى الدولية اللاعبة في المنطقة الثورة وأنصارها الضعفاء من حيازة أسلحة تحقق قدراً من التوازن العسكريّ العادل، وكذا نتيجةً لتصاعد خلافاتها النظريّة العقيمة والتي تفاقمت بعد صعود تنظيم الدولة الإسلامية من انشقاقٍ عن تنظيم القاعدة، وكذا تراكم اخطاءها التنظيميّة القاتلة؛ ودفعت هذه الإخفاقات والنزاعات إلى نزوح غير قليلٍ من ريف إدلب وحلب أريافها والرقة وأريافها ودير الزور وأريافها,

وهذا الزمن مهمّ على نحو خاص لو أدركنا أنّه ما قبل سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية كان ثمّة مجال حيوي يمتد من البوكمال شرقاً على حدود العراق حتى باب الهوى شمال غرب سوريا على حدود تركيا، وهذا المنطقة شكلّت مناطق استقبال لعشرات الاف النازحين، وكذلك ظهرا ومساحةً واسعةً لتحرك الناشطين والمسلحين وتمويل ودعم المشروعات المختلفة وإمكانيةً لتأسيس مناطق إدارة محليّة تشكل نواة لعملٍ سياسيّ.

وجدير بالذكر أنّ مثل هذه النزاعات بين الفصائل المسلحة العاملة للثورة أو بينها و بين تنظيم الدولة الإسلامية قد دفع إلى هجرة مقاتلين وناشطين على نحو أكثر ممّا فعله قصف النظام الشامل؛ فبعد احتدام معارك تنظيم الدولة التي راح ضحيتها زهاء 4000 في الصدامات الاولى ثمّ تفوقه العسكري التنظيمي أمسى آلاف الذين حملوا السلاح في مدنِ تركيا و الأردن و لبنان و مخيماتها و من ثمّ أوربا. ملايين النازحين أمسوا مجرد أرقام لا وزن سياسياً لهم؛ تتوزع على المخيمات في دول الجوار أو تستقر نسبياً في المدن أو تعبر نسبةٌ منها نحو بلاد مهجر بعيدة.

(2)

ما المهجر إذن؟ وما الوطن؟ وما سوريا؟ ومن هو السوريّ؟ أربع اسئلة تدور أجوبتها في حقل اللغة الضيّق ومساحة العمر المتناقصة وتجثم على وجدان كلّ سوريّ؛ سوريٍّ بالتعريف الأول الذي طرحته أيّامُ الربيع من عام 2011 م. ولسنا هنا في وضعٍ يسمح لنا تقصيّ الفروق بين مهجر عربيٍّ وآخر غير عربيّ، ولا لتلمسّ ألم الجرح الفاصل بين مهجر اختياريّ فارهٍ لمن هو عدوّ التغيير أصلاً ممّن يبحث عن تحسين إحدى شروط حياته الفاخرة، وبين مهجَر اجباريٍّ لمن يبحث عن إنقاذ آخر شروطها الحيويّة.

الأسباب الاقتصادية هي المهيمنة على تشكل المهجر السوري، ما عدا في حالتي السبيعينيات والثمانينيات والوضع الراهن حيث شكل الصراع السياسي السبب الأول

أمّا ما بين مَهجرٍ قريب وآخر بعيد فثمّة فرقٌ لا يتوقف على اللغة بالنسبة لمن يميّز بين النزوح بوصفه انتقالاً أو هرباً من مكان الكارثة أو الحرب أو الوباء إلى أولِّ مكانٍ آمن مجاور بسبب هذه الكارثة أو الحرب أو الوباء تحديداً لا بسبب أسبابها أو عقابيلها الاقتصاديّة الاجتماعية، وبين الهجرة التي قد تكون عللها سبباً للحرب أساساً وهي علل سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة فاقمتها الحرب؛ لا يتوقف على اللغة إذن بل يتجاوزها.

فالثاوي قرب الوطن منتظراً يحمل ثواؤه إمكانيّةً كبيرة للعودة وللتفاعل مع قضيّته التي خرج بسببها وهذا ما جعل محمود درويش يلعن حين زيارته غزّة مدن الصفيح والمخيمات بوصفها الشرط الوحيد لضمان حقّ العودة، أمّا المهاجر بعد النزوح أو مخافة النزوح والمنتقل إلى مَهجرٍ بعيد فمهجره مظنّة الديمومة واللاعودة والخروج من المعادلة السياسيّة للقضيّة رغم اللبوث الوجدانيّ في تفاصيلها.

واللغةُ وطنٌ يسكنه الانسان والطفولة متواشجةٌ كمرحلة عمريّة مع المكان الذي صار إبّانها وطناً؛ فذريّة المهاجر إلى أرضِ لغةٍ أخرى، يخرجون من الوطن تماماً إنْ خرجوا من اللغة تماماً؛ وهذا خطرٌ كبيرُ الاحتمال حالَ اللجوء إلى مجتمعاتِ دولٍ أقوى. والذاكرة وطن أيضاً أو دون الوطن.

صرنا إذن إلى المهجر بوصفه مكاناً قد تشكّل مع الأسف، مكاناً لا حدود له فهو متبدل مترحّل، وبوصفه واقعا اجتماعيّا سياسيّا قائما، وبوصفه خالقا لحالة سياسيّة وفكريّة سيسيولوجيّةً متمايزة. أمّا القدم والجدّة فهما نعتان نسبيّان نريد هنا لنربطهنا بربيع عام 2011 ، فما قبله قديم و ما بعده جديد.

و إذ قسم الباحث الدكتور محمد جمال باروت [2] في دراسة له عن المغتربين السوريّين إلى ثلاث مراحل هجرة؛ وحيث يبدو لنا أنّ بلاد الشام أرضٌ لا يمكث عليها الناس ولا الغزاة إلّا قليلاً؛ فإنّنا قد نضيف هنا هذه المرحلة الجديدة الوخيمة من التهجير القسريّ والهجرة الاضطراريّة والتي رافقت الحرب وساهمت في تضخم المنفى/المغترَب في الحالة السوريّة شعوريّا ولغويّا ومكانيّاً واجتماعيّا وسياسيّا؛ ولقد طال هذا المُعقدُّ تعريفَ سوريا والسوريّ في وجدان الناس خالقاً أزمة هويّة حادّة على أرضيّةٍ مزمنة من العلّة الهوياتيّة المتعلقة بالعرب والمسلمين عموما وبالمشرق خصوصا وبسوريا التاريخيّة أكثر وأكثر؛

  • الموجة الأولى: هي الحقبة العثمانيّة 1880 – 1914، كجزء من موجة الهجرة الدوليّة الثالثة، وهاجر فيها ربع السكان يومئذ شكلوا أساس ما يعرف ب «المهجر السوريّ»، نحو أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية على وجه الخصوص، هذه الموجة الكبيرة من الهجرة سببها ضعف الاقتصاد والإقطاع المحلي والمجاعة التي ضربت البلاد خلال الحرب العالمية الأولى، فضلاً عن عوامل سياسية وثقافية؛ ولم تتراجع بشكل كبير حتى اختفت بحلول العام 1922 مع استقرار الانتداب الفرنسي في البلاد.
  • الموجة الثانية: بدأت في الستينيّات السبعينات، وكان لأحداث الثمانينات دور في تسريع الهجرة نحو الخارج لاسيّما بعد صدور قانون يعاقب المنتمي للإخوان المسلمين بالإعدام؛ شكل نمو الاقتصاد الخليجي جاذبًا للعمال السوريين لاسيّما الجامعيين وبدرجة أقل ليبيا والجزائر؛ ومجمل النسبة هي هجرة سوري من بين مائة سوري.
  • الموجة الثالثة: من موجات الهجرة الكبرى توجهت إلى لبنان والأردن بعد توقيع اتفاق الطائف وإعادة الإعمار وازدهار السوق العقارية في كلٍّ من الأردن ولبنان. وهكذا فإن الموجتين الأخيرتين من الهجرة حسب باروت، كانت «قريبة» جغرافيًا، نحو الخليج للجامعيين ولبنان للعمالة الفقيرة.
  • الموجة الرابعة: التي نستدركها هنا وهي موجة مأساويّة من التهجير القسريّ الممنهج ومن الهجرة الاضطراريّة ومن النفيّ العيني والجماعيّ بدأت بعيد اندلاع الثورة آذار 2011.

ولا جرم أنّ عرضنا للموجات لا يعني أنّها كلّها كانت حالة نفي وتهجير؛ وإنّما أردنا لنشير كيف تشكّل المهجر السوري عموماً، فالأسباب الاقتصاديّة هي المهيمنة ما عدا في حالتي السبيعينيّات والثمانينيات «المهجر القديم» والوضع الراهن إذ يتشكّل ما نسميّة هنا «المهجر الجديد» حيث شكّلَ الصراع السياسيّ السبب الأول والرئيس.

ويشار هنا إلى أنّ المهجر المتشكل من الموجة الأولى شبه مقطوع الصلة مع الوطن الأم ولا علاقة له بمبحثنا. و هنا لا يعنينا بالضبط المهجر والذين هاجروا أشعروا بحالة المنفى أم لا، إنّما يعنينا المهجر والذين تمّ تهجيرهم بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، على نحوٍ إفراديّ أو على نحوٍ جماعيّ؛ إذ أنّ علاقة المنفيّ بالوطن مكنونة في هذه المفردة.

(3)

حركة النزوح في حالة الحرب السورية هي الحركة الأكبر ما بعد الحرب العالمية الثانية وبالنسبة لأرقام النازحين خارج البلاد فإنهم على رأس القائمة

وعلى هذه الأرض أمّ البدايات المنذورة للنهايات يكون لكلّ حدث وحادث معان وتفسيرات وتداعيات متواشجة مع القصص الكبرى، ولا يبدولنا أنّ هذا التواشج ذاتيٌّ أو خياليٌّ فحسب، وإنّما ثمّة تسللٌ للأحداث يغذي هذا بالبراهين.

ويأخذ فريق من كلّ طرف هذه القصة إلى أقصاها، فيكون كلّ خروج توراتيّ، وكلّ هجرة نبوية، وكلّ حرب على هذه الأرض منذرة بأحداث النهاية؛ وهذا ما يكون لها تعبيرات في السياسة والحرب وحتى في التكتيكات لا تخطؤها العين، ولست في صدد تبيان هذا الجانب وتفنيده.

لكنّ ذهاب بعضهم بهذه الرواية إلى منتهاها لا ينفيّ مطلقاً وجود سياسات كبرى متصلة ببعضها ومرتبطة بدوافع لها علاقة بهذه الرويات كعقائد أو كحوامل نظريّة ضروريّة لتمرير سياسات استعمار أو لها علاقة بأحداث كان العامل الدينيّ مثلاً حاضراً بقوّة فيها _ ولا يكون عادة أيّ عامل متمايزا أو فريدا في تأسيس المواقف في الواقع الذي الدوافع فيه شديدة التواشج_.

هنا أتحدث عمّا يثار حول كونيّة الحرب على أرض سوريا اليوم وبالتالي كونيّة مشروع التهجير «إفراغ الأرض» المفترض حدوثه؛ وإذ يجب أن لا ننسى بداية أنّ عصب سياسات المنظومة الدوليّة إزاء الشرق الأوسط هو وجود كيان استعماري مستحدث لروايته الكبرى جانب دينيّ قديم مغفل أمام ما يطفح عليها من جشع استعماري ماديّ قلّ نظيره.

للهجرة أسبابا هي عينها أسباب الثورات العربية وعدم الاستقرار المزمن وهي أسباب سياسية اجتماعية اقتصادية لها علاقة مباشرة بطبيعة الأنظمة الحاكمة

وأنّ هذه المنظومة تأسست على مراحل عدّة منذ الحرب العالميّة الأولى مروراً بالحرب العالميّة الثانيّة والحرب الباردة وحروب العرب مع كيان دولة اسرائيل الناشئ.

وهذا التأسس قائم إذن على نتائج هذه الحروب التي أولاها كانت نتيجتها هزيمة «خلافة» كانت تشكل مرجعيّة ما لعموم العرب والمسلمين؛ وتقاسم إرث هذه الامبراطوريّة بين قوى استعماريّة، وتقسيم المنطقة إلى كيانات قلقة حُكمت مباشرة من قبل هذه الدول ثمّ تركتها لتنوب عنها أنظمة سياسيّة رثّة وفاسدة ومستتبعة، يتم إدارتها على ركيزة إثارة الحزازات الاثنيّة والطائفيّة بين مكونات أقاليم مضطربة النشأة والتكوين أصلا.

لا شكّ أنّ مجتمعات هذه الدول مريضة، ولا شكّ أيضاً أنّها تخضع مع مرضها لقمع واستبداد أنظمة حكم مقبولة شرعيّاً في هذه المنظومة و مدعومة بتدخلات مباشرة وغير مباشرة، ولا شكّ أنّ هذه المجتمعات مستهدفة بعد تفقيرها وتجهيلها بغرض تزييف وعيها إزاء قضاياها الجوهريّة الوجوديّة.

وفي هذا السياق يمكنني القول بأنّ للهجرة أسباباً هي عينها أسباب الثورات العربية وأسباب عدم الاستقرار المزمن، و هي أسباب سياسيّة اجتماعيّة اقتصاديّة لها علاقة مباشرة بطبيعة الأنظمة الحاكمة التي لم تعد انظمة دكتاتوريّة شموليّة بالمرّة، بل صارت مجرّد تجمع لرجال الطوائف و المال حول سلطة مدعومة بقوة سلاح ملشيات مرتزقة أو طائفيّة.

و هذا التشخيص ينسحب على «دول عربيّة عديدة» و إن كان بطرق و شدات مختلفة، لكنّه في سوريا واضح ووخيم الأثر، و يضاف له بعد أن ذكرّت بموقع سوريا الجيوسياسيّ و بموقعها من روايات القصص الكبرى بنسخها المختلفة؛ يضاف له طبيعة النظام السوريّ كحالة متميزة إلا أنها تشبه لبنان و العراق إلى حدّ ما.

إنّ وجود مثل النظام السوريّ بوصفه نظاماً طوائفيّاً يحكمه آل الأسد، و تستفيد منه و تدعمه قوى مختلفة لها أسهم في المنظومة الدوليّة من دول كبرى إلى دول متوسطة في المنطقة مثل إيران؛ إنّ مجرد وجوده يمثل سبباً للهجرة وعاملاً كامناً للتهجير.

ليبقى عمل هذا النظام على نسج علاقات فساد ضمن المجتمع السوريّ، وأكثر من ذلك عمل على إحداث تغييرات ديمغرافيّة تمثلت في نقل العلويين إلى المدن الكبرى ومحيطها ولا سيما دمشق، وهذا النقل كان مقصوداً مخططاً في حالات انشاء قرى الأسد ومساكن الأسد ومدن الضباط وضواحيهم _سكانها علويون أساساً_ ، أو كان نتيجة سياسات وممارسات اقتصاديّة واجتماعيّة فاسدة تسببت في تفقير فهجرة مجموعات ومناطق يسعى النظام لاحقا لتوجيهها بما يخدم استقراره كنظام.

والنفوذ الإيراني الشيعيّ الحامل والمتفاقم ولا سيما بعد تولي تولي بشار الأسد الحكم، كانت أدواته الأساسيّة نشر التشيع والفساد الاقتصاديّ وفي فترة متأخرة من حكم بشار الفساد الأخلاقيّ بمعناه الواسع لضرب البنى المتماسكة للمجتمع السوريّ وعدم السماح لأيّ تشكل حقيقي لوعيّ ناضج متماسك للذات بصرف النظر عن مجال الانتماء وطنياً كان أم قوميا أم إسلاميّا.

والنتيجة أنّ المجتمع السوريّ كغيره يوم انتفض، إنّما انتفض على اسباب هجرته وعوامل ومرتكزات تهجيره المتمثلة في تحالف أقليّات سياسيّة وفكريّة وإثنيّة وطائفيّة تديره السلطة _التي رأسها هنا آل الأسد_ وهي تغذى من قوى إقليميّة ودوليّة بهدف منع أيّ حالة استقرار بصرف النظر عن مرتكزها، وما حدث بعد فترة الثورة الأولى التي انتعشت فيها الآمال بالقضاء على هذه الأسباب كان له دور الكاشف والمفاقم حيث بدأت سياسات التهجير والفرز والنقل والتفريغ والإبادة تشتد وهي تسفر عن نفسها بسبب خوف النظام الحاكم والقوى الداعمة له من خسارة موقعها.

المراجع
  1. أوراق مهجريّة، الدكتور عبد الرحمن الأشتر، حلب 12/6/1422هـ الموافق لـ 1/9/2001م.
  2. محمد جمال باروت، الهجرة الخارجية السورية: تطورها، موجاتها وحجمها عواملها وآثارها الاقتصادية، بحث في إطار بحوث تقدير حالة الهجرة الذي تعده منظمة الهجرة الدوليّة بالتعاون مع حكومة الجمهوريّة العربيّة السوريّة, 2008.