أنا هاستشهد اليوم. حافظوا على الوطن بعدي. أوصيكم يا شباب ما حد يترك البارودة
مؤسس مجموعة «عرين الأسود» – إبراهيم النابلسي

صباح يوم 6 سبتمبر/ أيلول 2021، شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية حدثًا أمنيًا ضخمًا: ستة أسرى بعضهم يواجه أحكامًا بالمؤبد ينجحون في الهروب من سجن جلبوع عبر ما سماه الفلسطينيون «نفق الحرية».

بحلول الساعات الأولى من فجر يوم 11 من نفس الشهر، كانت سلطات الاحتلال قد أعادت أسر الفارين الستة، لكن الحادث كان كافيًا للإعلان عن ميلاد ما يمكن تسميته «الجيل الجديد من المقاومة الفلسطينية».

أعلنت الفصائل «يوم غضب» لتندلع مظاهرات واشتباكات متقطعة مع سلطات الاحتلال في أنحاء متفرقة في أنحاء الضفة المحتلة.

سجن التنسيق الأمني

منذ انتفاضة 1987، توصلت العقلية الأمنية الإسرائيلية إلى استنتاج رئيسي مفاده أن استمرار قواعد اللعبة على الأرض من منطلق «قوات احتلال في مواجهة الشعب» ستكون بمثابة حرب استنزاف مفتوحة. لذلك، سعت في اتفاق أوسلو إلى نقل مهمة «الصدام» المباشر مع الفلسطينيين إلى السلطة الفلسطينية نفسها، بنقل صلاحيات الإدارة المدنية الإسرائيلية إلى الإدارات التابعة للسلطة من جهة، والانسحاب العسكري والشرطي من التجمعات الأكثر اكتظاظًا في المدن والبلدات والمخيمات، وتسلميها لأجهزة الأمن الفلسطينية، على أن يلتزم الأمن الفلسطيني بالحفاظ على أمن المستوطنين وجيش الاحتلال، ضمن ما سماه الاتفاق «مسؤولية السلطة عن اتخاذ الإجراءات المناسبة ضد الإرهابيين من خلال التعاون أمنيًا مع إسرائيل»، فيما تطور تدريجيًا، خصوصًا بعد سيطرة حماس على إدارة قطاع غزة، إلى ما سماه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الراحل صائب عريقات بـ«استثمار الوقت والجهد، وحتى قتل أبناء الشعب الفلسطيني، لحفظ النظام وحكم القانون».

ومع تصاعد التوتر بين السلطة نفسها وإسرائيل، تصاعد التنسيق الأمني، رغم تراجع قوات الاحتلال عن التزاماتها الواردة بالاتفاقية، بكل الأشكال الممكنة، وبينها اقتحام المناطق التي يفترض أنها سلمتها للأمن الفلسطيني، بما كان كفيلًا بعرقلة أي ظهور علني لحركات المقاومة المسلحة المنظمة على اختلاف ألوان رايتها في مدن الضفة الغربية، بعدما تكلفت السلطة بتبادل المعلومات مع الاحتلال حول أي بوادر لظهور شكل من أشكال المقاومة، على أن تتكفل سياسة «جز العشب» الإسرائيلية عبر القيام بعمليات عسكرية متكررة ومتتالية لاجتثاث ما لا تقوى عليها أجهزة الأمن الفلسطينية.

«كتيبة جنين»: بوادر الجيل الجديد

منذ الشهور الأخيرة في 2021، تشهد الضفة الغربية إحدى أعنف سلاسل ضربات المقاومة منذ سنوات؛ فبينما صعد الاحتلال غاراته، قابلتها التنظيمات الفلسطينية المسلحة بنشاط أعلى، وإن كانت هذه المرة بأساليب جديدة.

كان الإعلان الأول عن تحرك بهذه المواصفات في سبتمبر/ أيلول 2021، خلال عملية «نفق الحرية» نفسها، التي بدأ معها تفاعل شعبي عام في مدن الضفة المحتلة، كان أحد أشكاله ميلاد «كتيبة جنين»، التابعة لسرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، التي أبدت استعدادها لاحتضان الأسرى الفارين في مخيم جنين، ومعها تبدأ عمليات إرباك باتجاه الحواجز العسكرية الإسرائيلية، عبر عمليات إطلاق نار مكثف، بالتزامن مع إشعال إطارات السيارات.

بحلول منتصف الشهر، أعلن شباب المقاومة عما سموه «غرفة العمليات المشتركة» في محاولة لاستلهام أسلوب الغرفة التي تحمل نفس الاسم في قطاع غزة، لتتولى الغرفة الضفاوية إعلان الاستنفار العام، والاستعداد للتعامل المسلح مع أي محاولة اقتحام إسرائيلية.

ربما كانت جنين مؤهلة لتلك المهمة؛ بالنظر لتاريخها الطويل في توتير قيادة الاحتلال. لكن نابلس التحقت بالطريق سريعًا.

التوتر في نابلس لا يتوقف أبدًا؛ إذ تملك نقطة اشتعال فريدة. لا يتوقف زحف المستوطنين في حماية جنود الاحتلال، لزيارة قبر يوسف، شرق المدينة، الذي يزعم اليهود أهميته الدينية لهم، بينما يدافع الفلسطينيون عن أهميته الدينية والرمزية التاريخية.

في وسط هذه الظروف، كانت حركات المقاومة التقليدية، من كتائب القسام التابعة لحماس، وصولًا إلى كتائب شهداء الأقصى الفتحاوية، مرورًا بجناح الجهاد الإسلامي المقاوم، سرايا القدس، في ظروف لا تحسد عليها. فبينما تعقدت الأمور منذ الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني، الذي سرع التنسيق الأمني بين السلطة وسلطات الاحتلال، مثل ظهور لواء مقاومة فلسطيني مسلح جري تشكيله حديثًا باسم «عرين الأسود» حدثًا خاصًا في نابلس.

«عرين الأسود»: ظروف التشكل

في أغسطس/ آب 2022، أعلن تنظيم مسلح جديد عن نفسه في مدينة نابلس القديمة. حمل اسم «عرين الأسود»، وارتبط تاريخ ظهوره باستشهاد إبراهيم النابلسي «أبو فتحي» القائد العسكري البارز في كتائب شهداء الأقصى.

كان النابلسي قد لعب دورًا رئيسيًا في عديد العمليات العسكرية التي طالت جيش الاحتلال والمستوطنين المقتحمين لقبر يوسف، التي أسفرت في إحداها عن إصابة 4 مستوطنين وقائد لواء السامرة في جيش الاحتلال روعي تسافاج، حتى ألحق بقائمة أكثر المطلوبين، لتبدأ سلطات الاحتلال مطاردته، وتحاول اغتياله عدة مرات، استشهد خلالها رفاقه لكنه نجا.

في النهاية، اقتحمت قوة خاصة من وحدة اليمام، حارة الحبلة بالبلدة القديمة في نابلس، مساء 9 أغسطس/ آب، وسط اشتباكات عنيفة، بعدما قالت يديعوت أحرونوت العبرية إن معلومات استخباراتية وصلت عن دخوله إلى منزل عائلته، ليبدأ حصار المنزل، ثم قصفه بقذيفة صاروخية، ليلفظ القيادي المقاوم، صاحب الأرواح التسعة، أنفاسه الأخيرة.

قبيل استشهاده، وثق أبو فتحي وصيته: «ما حد يترك البارودة.. في شرف عرضكم».

في الساعات التالية، بدأت جماعة «عرين الأسود» في الظهور، لتشارك بانتظام في اشتباكات مسلحة مع قوات الأمن الإسرائيلية وإطلاق النار على أهداف عسكرية ومدنية إسرائيلية في الضفة الغربية، فبعد شهر فقط من عملية الاحتلال، أعلنت المجموعة مسؤوليتها عن إصابة مستوطن إسرائيلي في عملية إطلاق نار بالقرب من بلدة حوارة، من سيارة مسرعة تمكنت من الفرار من مكان الحادث بسلام.

منذ ذلك الحين، أعلنت مجموعة «عرين الأسود» مسؤوليتها عن عدة عمليات إطلاق نار وهجمات على قوات الاحتلال في منطقة نابلس والضفة الغربية، حتى تحولت إلى معضلة لقوات الأمن الإسرائيلية وقوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، بحسب صحيفة هاآرتس العبرية.

وبينما لا يبدو أن «عرين الأسود» لها أي علاقات رسمية مع الفصائل القائمة، فإنه يُعتقد أنها نشأت من «كتيبة نابلس» وهي مجموعة «مظلة» محلية، أسسها النابلسي نفسه، لتكون عابرة للتنظيمات، إذ ضمت مقاومين من سرايا القدس وشهداء الأقصى والقسام، ويتوقع مراقبون أن «عرين الأسود» لا تزال تستفيد من التنسيق والتعاون مع هذه المجموعات. لكن، يبدو أن عديدًا من أعضاء التنظيم لديهم روابط عائلية مع كوادر فتح، وحتى أفراد قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، الذين يفترض أنهم يتولون مهمة تطبيق التنسيق الأمني.

ووفقًا لمصادر عبرية، شارك في تأسيس «عرين الأسود» كل من أدهم الشيشاني ومحمد الدخيل وأشرف مبسلات، وكانوا جميعًا دون سن الخامسة والعشرين، واستشهدوا تباعًا على يد قوات الاحتلال. وفي الوقت الحالي ، يُقال إن أحد كبار قادة المجموعة هو مصعب اشتية الذي اعتقلته قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في سبتمبر/ أيلول 2022، ضمن عمليات التنسيق الأمني.

رغم ذلك، ظهر كوادر التنظيم، يرتدون ملابس سوداء كاملة، ملثمين بالكامل، ملوحين ببنادقهم، في شوارع وأزقة مدينة نابلس القديمة في الضفة الغربية المحتلة لأول مرة كمجموعة منظمة في 2 سبتمبر/ أيلول، بحضور مئات الأشخاص، لتأبين عدد من مقاتليهم الذين استشهدوا خلال غارة إسرائيلية على نابلس، معلنين عن أنفسهم كـ«ظاهرة مقاومة مستمرة، تستمد قوتها من وحدتها على الأرض، ومن جذور الثورة».

مشتركات جيل المقاومة الجديد

وفق دراسة نشرتها مجلة شؤون فلسطينية، يمكن اعتبار «كتيبة جنين» وتنظيم «عرين الأسود» عنوانًا عامًا للشكل الجديد من المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، التي يديرها بالأساس شبان في العشرينيات، غالبيتهم لم يعوا مرحلة انتفاضة الأقصى عام 2000، التي كانت آخر تجربة مسلحة واسعة في المنطقة.

المميز في هذه الظاهرة، أن تجميع الشبان هذه المرة ربما يكون وليد الصدفة؛ إذ يتشكلون بالأساس من المسلحين الذين اعتادوا إطلاق النار في الهواء في استقبال الأسرى المحررين ومواكب الشهداء، لتولد الفكرة المبسطة: جنود الاحتلال أولى بتلك الرصاصات، خصوصًا خلال عمليات الاقتحام المتكررة للبلدات الفلسطينية، بشعار أبسط: «لن يدخل المستوطنون أو جنود الاحتلال المدينة دون اشتباك».

لهذه الطبيعة، كان منطقيًا ألا يسعى الشبان للتخفي كما اعتادت الحركات المسلحة الفلسطينية التقليدية العمل في الضفة الغربية؛ فطبيعة عملهم تستوجب المجاهرة؛ تشجيعًا لغيرهم على السير في نفس الطريق. عوضًا عن ذلك، يتحصنون بين أهاليهم في عمق المدن، على استعداد كامل للمواجهة والاشتباك، وحتى الاستشهاد إن لزم الأمر.

وبينما ينتمي كوادر التنظيمات الجديدة لتنظيمات قائمة بالفعل بشكل معلن، فإن الشبان كانوا حريصين على العمل جماعيًا تحت سقف التنظيم الجديد، تحت شعارات فصائلهم الأصلية، لكن بشكل مستقل عنها، بدرجة مخاطبة الفصائل كوحدة واحدة، بغض النظر عن الانتماء التنظيمي. ولضمان عدم تدخل تلك الفصائل، لجأ الشبان للتمويل والتسليح الذاتيين، كي لا يضطروا لانتظار القرار السياسي أو الميداني من أي جهة، إلا قيادة التنظيمات الوليدة.

المحلل السياسي محمد ضراغمة يصف «عرين الأسود» تحديدًا بظاهرة لم يسبق لها مثيل في الضفة الغربية فبينما بقيت التنظيمات المسلحة منفصلة خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، فإن الشبان الفلسطينيين هذه المرة يتفوقون على الاختلافات التقليدية بين الفصائل السياسية، وينخرطون في القتال المسلح جنبًا إلى جنب.

وبهذا المنطق، فإن التحرك يبدو محاطًا بكثير من التجريب؛ لا خبرة، ولا توجيه، ولا تدريب، ولا قيادة، ولا استراتيجية، أو كما يقول جمال الزبيدي، عم الأسير زكريا الزبيدي، إن الشبان «يجربون العمل العسكري» وإنهم فقدوا أطرافًا وأصيبوا بجراح نتيجة قلة الخبرة العسكرية.

تغيير الواقع بالقوة؟

 بحسب دراسة «شؤون فلسطينية»، يعيد الشبان توليد مصطلح «التوريط الواعي» الذي أطلقته حركة فتح بعد 1967؛ باعتبار أن التدرج في المقاومة، ولو دون امتلاك الظروف المطلوبة، سيؤدي إلى قرار من الجهات الأكبر للحاق بالميدان؛ باعتبار أن المشكلة الأساسية ليست الجاهزية بل القرار.

في تلك الحالة، تصبح الفصائل القائمة مضطرة على الأقل لتوفير «الظهير»، بينما تصبح أجهزة الأمن الفلسطينية مضطرة للاختيار، ما بين الاستمرار في تطبيق التنسيق الأمني مع الاحتلال، أو تأمين أفراد عائلاتهم الذين يواجهون الاحتلال، وسط أجواء اعترف مسؤول فلسطيني بأنها وضعت السلطة أمام خيارين: إما تغيير الأمور واستعادة ثقة الشارع، أو فقدان قبضتها على المناطق التي تسيطر عليها.

طريق أنا أسير فيها وهذا حلمي وحلم كل الشعب الفلسطيني إلى تحرير فلسطين
إبراهيم النابلسي