يقول الأثر الذي نعرفه جميعًا إن درء المفاسد، مُقَدَّمٌ على جلب المنافع. لا يكاد يخلو دواء يعرفه الإنسان من وجود آثارٍ جانبية. ولهذا السبب فإن الأبحاث العلمية على العقاقير الجديدة، تنفق سنواتٍ عديدة في اختبارات السلامة والأمان بمختلف أنواعه، قبل تجارب الفعالية، والمقارنة مع العقاقير سابقة الوجود. فإذا مالت كفة الفوائد والاستخدامات، بضريبة قليلة الخطورة من الآثار الجانبية، يمكن التخلص من معظمها بالالتزام ببعض التعليمات، وباتباع إرشادات الأطباء، فإن الدواء يلقى القبول، ولا يلبث أن يكون على أرفف الصيدليات حول العالم خلال أعوام.

على أرض الواقع، لا تقتصر مشاكل الأدوية على ما للدواء نفسه من مضاعفات تظهر بالاستخدام، إذ إن سوء الاستخدام يرفع خطورة المشكلة أضعافًا مضاعفة. وفي دولةٍ كمصر، تعاني من فوضى تامة في بيع وشراء الدواء، ورقابة شبه منعدمة الفاعلية، يمكن لأي أحد أن يشترى ما يريد من كميات دواءٍ ما، ما امتلك سعره، ولو لم يكن معه روشتة طبيب مختص، ما دام يعرف هذا الصيدلاني أو ذاك، بل حتى لو لم يكن يعرفه.

في البلدان ذات المنظومة الصحية الجيدة، كالولايات المتحدة الأمريكية مثلًا، يحظر تداول الغالبية العظمى من الأدوية والعقافير الطبية إلا بروشتة طبيب معتمدة، موضَّحٌ بها مدة الجرعة، لتُعطى الكمية المطلوبة فحسب. يستثنى من هذا عدد محدود من الأدوية، شبه منعدمة الخطورة، والتي يمكن صرفها دون روشتة طبية Over the counter meds، كالمسكنات البسيطة، وفوارات الحموضة، وبعض الأدوية الموضعية … إلخ.

تمثِّلُ المقدمة السابقة مدخلًا ضروريًّا لموضوعنا الحالي، فعبر بضعة أسئلة وأجوبة سنضع النقاط على الحروف في كل ما يتعلق به.


لماذا نتحدث عن الليرولين؟

«الليرولين» هو اسم تجاري لدواء، من إنتاج شركة الحكمة لصناعات الدواء، يحتوي على المادة الفعالة «بريجابالين pregaballin». تقارير عديدة تحدثت عن مبيعاتٍ متصاعدة لهذا العقار، دفعت به بجدارة إلى قائمة الأكثر مبيعًا في مصر في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2019م، بمبيعاتٍ تجاوزت 3 ملايين علبة دواء، فتعدَّت قيمتها أكثر من 300 مليون جنيه مصري، وهو ما يمثل حوالي 1% من إجمالي مبيعات سوق الدواء المصري. إلى هنا يبدو الكلام عاديًّا، ما الغريب في أن يتصدَّر هذا الدواء أو ذاك قوائم الأعلى أو الأقل مبيعًا؟

تخيَّل معي عزيزي القارئ أن دواءً ذا استخداماتٍ طبية خاصة كالصرع، والآلام المزمنة المقاومة للبدائل الأخرى، يستحوذ اسمٌ تجاري واحد فقط منه على 1% من السوق (المادة الفعالة تحقق أكثر من هذا كثيرًا) بشكلٍ تصاعدي مفاجئ، هذا يعني أحد أمرين لا ثالثَ لهما. إما أن مصر حدث بها طفرة في الصرع وفي الآلام المزمنة، وهذا من الصعوبة بمكان؛ لأنها ليست أمراضًا وبائية معدية. أو – وهذا هو الأرجح – أنه ظهر له استخداماتٌ أخرى، سواء كانت صحيحة أو غير ذلك.

جدَّدت تلك القفزة السوقية لإحدى العلامات التجارية لمادة «البريجابالين» جدلًا تصاعدَ في الشهور والسنوات الأخيرة حول تلك المادة الفعالة، ومدى خطورتها المحتملة كمادةٍ إدمانية جديدة، سهلة التداول، ورخيصة الثمن، قد تجدد كارثة الترامادول، والذي دفع غلاء سعره مؤخرًا، والتضييق النسبي على تداوله، الكثيرينَ إلى البحث عن بدائل، حتى لو لم تكن بدائل حقيقية له، وعلى أساس شائعات غير دقيقة.

اقرأ أيضًا: الترامادول .. كل ما تود معرفته عن المسكن سيئ السمعة


ما هي استخدامات «البريجابالين» الطبية؟

دواء «البريجابالين» بالأساس يتبع مجموعة أدوية الصرع، ومضادات التشنجات، خاصةً لدى الأطفال، ولأنواعٍ محددة من الصرع لدى الكبار، وفقًا للاستشارة الطبية من طبيب أمراض عصبية مختص.

أما الاستخدام الأكثر شعبية الآن له، فهو لعلاج الألم المزمن، كالذي ينجم عن التهاب وتلف الأعصاب الطرفية لدى مرضى السكري، وبعض الإصابات القطعية، وما بعد الإصابة بفيروس الهيربيس زوستر. ورغم أن آلية عمل العقار في تلك الوظيفة ما تزال غير معلومة على وجه الدقة، فإنه يبطئ ويقلل نبضات الألم المنبعثة من الأعصاب الطرفية التالفة.

كما يستخدم أيضًا لتخفيف نوبات الألم، لدى مرضى آلام وتيبُّس العضلات fibromyalgia. ويستخدمه بعض الأطباء كمضاد للقلق النفسي، لكن يعتبر هذا من أقل استخداماته وضوحًا.

وينبغي أن نؤكد هنا أنه ليس دواءً مسكنًا كالبروفين والديكلوفين … إلخ، والتي تسمى قواهر الألم pain killers، والتي تقلل الألم خلال دقائق أو ساعات، إنما هو دواء طويل المدى، يحتاج إلى أسابيع ليصل إلى قمة تأثيره، وهو يعمل على تخفيف نوبات الألم على المدى الطويل، عن طريق التعديل في وظائف الأعصاب. ولحسن الحظ فإن «البريجابالين» لا يسبب تضرر الكلى والمعدة كما تفعل معظم المسكنات.

اقرأ أيضًا: المسكنات تؤلم، وتقتل أيضًا

اقرأ أيضًا: المسكنات والكلى .. قصة مؤلمة حزينة

اقرأ أيضًا: دراسة جديدة صادمة .. المسكنات تزيد فرصة حدوث جلطات القلب


ما هي أهم الآثار الجانبية لليرولين؟

عندما يستخدم «البريجابالين» بجرعات طبية محددة، فإن آثاره الجانبية تكون في العموم محدودة، ومن أشهرها الشعور بالدوخة والغثيان، وزيادة طفيفة في الوزن، والصداع، وجفاف الفم، والإمساك. لكن عند بعض المرضى قد يكون الشعور بالدوخة والدوار شديدًا، ومصحوبًا بفقدان التركيز، وفي تلك الحالة لا بد من امتناع المريض عن القيام بالأعمال التي تحتاج إلى تركيزٍ كبير، كقيادة السيارة مثلًا، لحين تحسن الأعراض.

ومن أخطر الآثار الجانبية – على ندرتها الشديدة – الحساسية المفرطة، والتي قد تصل إلى حد تورم الحنجرة، وضيق التنفس الشديد، وهبوط الدورة الدموية … إلخ. ويحتاج هذا إلى تدخل طبي عاجل، بالأدرينالين والكورتيزون الوريدي، والمحاليل الوريدية لتحسين الدورة الدموية، وكذلك بالدعم التنفسي إن لزم الأمر.

وعقار «البريجابالين» له العديد من التفاعلات الدوائية مع العشرات من العقاقير، منها مضادات اكتئاب، وأدوية للضغط، ومسكنات قوية … إلخ. وقد يسبب تعاطي تلك الأدوية في وجوده آثارًا جانبية متنوعة، ولذا يجب إخبار الطبيب جيدًا بالتاريخ الدوائي للمريض، ليتسنى له تجنب كل هذا.


هل يسبب «الليرولين» الإصابة بالاكتئاب؟

نوَّهت هيئة الدواء والغذاء الأمريكية بأن هذا العقار قد يسبب حدوث الاكتئاب، أو تطوره وصولًا إلى أخطر مضاعفاته، وهي ظهور الأفكار والنوازع الانتحارية. لحسن الحظ فإن احتمالية حدوث هذا قليلة، حيث تبلغ 1 إلى 500. وفي حالات أخرى – باحتماليةٍ أقل – قد يسبب تفاقم الأعراض النفسية الإيجابية كنوبات الهوس، والميول العدوانية، والاضطراب.

ولذا يُنصَح المريض باستشارة الطبيب فورًا، عند حدوث تقلباتٍ نفسية شديدة، أو ظهور أفكار انتحارية، أو اضطراباتٍ في النوم والطعام، أو القلق الشديد، أو نوبات الهلع … إلخ.


هل يسبب تعاطي «بريجابالين» الإدمان كالترامادول؟

المؤكد حتى الآن، وفق آخر نتائج الأبحاث العلمية الطبية، أن البريجابالين يسبب ما يسمى «التعود»، والذي يُعتبَر نوعًا أخف من الإدمان. لكن قد يصل البعض مع الاستخدام الطويل إلى مرحلة الإدمان، كما تذكر إحدى إجابات الأسئلة الشائعة حول العقار على موقع الخدمة الطبية الوطنية البريطانية.

ما يؤكد نظرية القائلين بقابلية الوصول إلى مرحلة الإدمان، أن التوقف المفاجئ عن تعاطي جرعاتٍ كبيرة من هذا العقار، خاصة بعد الاستخدام الطويل، يسبب أعراضًا انسحابية لدى بعض المرضى، من أشهرها الأرق، والتوتر النفسي، والنزوع للعدوانية، والاكتئاب، والذي قد يصل في بعض الحالات إلى ظهور بعض الأفكار الانتحارية. أضف إلى ما سبق بعض الأعراض الجسمانية كالتعرق الزائد، وتسارع ضربات القلب، والميل للقيء، والإمساك.


شائعات حول «البريجابالين»

لأن ثقافتنا الصحية والطبية – للأسف الشديد – يحتل فيها رأي المجربين، وخواطر غير المتخصصين، مساحةً مخيفة في تضخمها، فإن تعاطي الكثير من الأدوية لا يُبنى على أي أرض صلبة. من أهم أسباب تفاقم ظاهرة سوء استخدام «البريجابالين» شائعات من قبيل أنه مسكن شديد القوة للآلام.

كذلك يشيع أنه يصلح بديلًا للترامادول في قوة تسكين الآلام، وفي رفع الحالة المزاجية، وكذلك في تحسين بعض مشكلات الأداء الجنسي مثل سرعة القذف. وعزَّز من هذا التصور الخاطئ، نجاحه في تخفيف الآلام الطرفية التي تحدث كجزء من أعراض الانسحاب نتيجة التوقف المفاجئ عن تعاطي الترامادول. بوضوح تام، لا يوجد استخدام طبي مصرح به للبريجابالين يتعلق بالأداء الجنسي، وهو ليس مسكنًا مباشرًا للآلام كما أوضحنا سابقًا، وطريقة عمله تختلف كثيرًا عن تأثير الترامادول على الجهاز العصبي المركزي، ونواقله الكيميائية. ورغم تسجيل حدوث بعض نوبات ارتفاع المزاج euphoria مع الجرعات الكبيرة من «البريجابالين»، فإنه لا يعني أنه يماثل قوة الترامادول، أو غيره من المخدرات المسببة لذلك.


الخلاصة

لا مفر من السيطرة الحقيقية على فوضى مبيعات الدواء في مصر، والتي تهدد بتحول الكثير من الأدوية، حتى محدودة الخطورة منها، إلى مصدر للكوارث الطبية. وبالنسبة لدواء البريجابالين، فلا غبار عليه عندما يُستَخدَم لأغراضِه الطبية المعتمدة، وبالجرعة التي يحددها الطبيب، مع المتابعة المستمرة لظهور الأعراض الجانبية، والتعامل معها جيدًا، أولًا بأول، طوال فترة الاستخدام.