إذا كنت ممن اعتادوا ارتياد ملاعب كرة القدم، وكان فريقك من تلك الفئة التي تملك جمهورًا صاخبًا أو «أولتراس» خاصًا بها، ستستطيع أن تعرف من دون كثير من الشروحات ما هي الحالة التي تنتابك وأنت تقف في المدرج الخاص بهذه الجماهير الصاخبة، التي تردد نفس الهتاف الذي تعرفه مسبقًا في آن واحد، ولفترات طويلة، وتكرره مرات عديدة وسط المباراة.

الحديث هنا ليس عن مدرجات الملعب كلها، بل تحديدًا عن المدرج الذي يحدده أنصار كل فريق للفئة الأكثر تعصبًا، مثل «التالتة شمال» لجمهور الأهلي، و«يمين» لجمهور الزمالك، والمدرج الجنوبي لجمهور الرجاء المغربي.. إلخ.

ما يحدث هو أن حالة غريبة حقًا تنتابك، تشعر وأنت تقفز بينما تلقي بنفس الهتاف مع عشرات الآلاف إلى جوارك، أن المشاعر الخاصة بحبك لكرة القدم والفريق الذي يوجد أمامك بألوانه وإرثه ومكانته في قلبك، ما هي إلا قيمة ضئيلة للغاية قياسًا لتلك الحالة «الجسمانية» التي تضربك.

هذه الحالة تجعلك قادرًا على الصمود لفترة أطول في المدرج، ربما لو هتفت نفس الهتافات في غرفة منزلك لما استطعت البقاء لربع تلك الفترة من الهتاف نفسه في المدرج، رغم أن الصوت يكون أعلى والحماس أكثر اشتعالًا، إضافة إلى أن جسدك في الأغلب يكون قد قطع مشوارًا طويلًا إلى الملعب دون التزود بالطعام والشراب بشكل كافٍ، فما الذي يحدث؟

تتفاعل أجسادنا -نحن عشاق كرة القدم- بمخزون اللعبة لدينا أولًا، وباللقطات التي نراها لاحقًا، مخطئ من يظن أن الأجساد لا تتفاعل مع تلك اللعبة، ولكن هذا يحدث في كل سياقاتها، وأيًا كانت الوسيلة التي تتم مشاهدتها من خلالها، شاشات التلفاز والهواتف المحمولة، إلا أن لحضور المباراة من المدرج تفاصيل أخرى.

كرة القدم بمخزونها الكامل، ترتبط لدى المشجعين بتفاصيل جسمانية عديدة، تخص الناقلات العصبية والمواد الكيميائية التي تعمل على تحسين الحالة المزاجية.

لذلك تجد جسدك أحيانًا في حالات التوتر والقلق المصاحبة لحالات ضاغطة أثناء المباراة يحاكي المشهد إلى الدرجة التي تجعلك تقوم ببعض الحركات التي تفترض من خلالها أنك في الملعب، كأن تقوم بمدّ رجلك أو ركل الهواء أو فعل ما تريد أنت أن يفعله اللاعب.

وحين تكون في مدرج خاص بالهتاف ولا شيء آخر، يمكن القول دون أي مبالغة إنك لا تشاهد 90% من المباراة إلا لمامًا، لأن المحيط الكامل يكون في حالة هياج، وإن كانت هناك مؤثرات بصرية كالشماريخ أو الألعاب النارية، أو صوتية كقنابل الصوت، تصبح الرؤية نفسها أكثر صعوبة.

ما يحدث هنا هو أن السعادة التي تتولد لدى مشجع كرة القدم الذي يشاهد المباراة من خلف شاشات التلفاز لدى إحراز هدف لفريقه أو لقطة مثيرة لإعجابه، يشعر به مشجع هذا الجزء من الملعب أثناء وجوده في المدرج بمجرد بدء الهتاف وشعوره بهذه الإحاطة من جماهير تتشابه معه في كل شيء.

هنا لا يتعلق الأمر فقط بما يحدث في الملعب، وأيًا كان فريقك فائزًا أو خاسرًا، هناك سعادة من نوع خاص تبدأ حين تشعر أنك جزء من صخب واحد، يترجم الجسد هذه السعادة في صور مختلفة.

تستوستيرون وأدرينالين

يرتبط إفراز التستوستيرون في الجسم عادة بلحظات العنف، ولذلك يكون الملعب بتداخلات لاعبيه وتحفز جماهيره بيئة خصبة له، تعمل المستويات الأعلى من التستوستيرون على تغليب القرار الجسماني على القرار العقلاني، ترتفع حدة سيطرة الجسم في لحظات الشعور بالانتصار وتحدي الذات، لذلك فإن إحراز فريقك المفضل هدف الفوز في الدقيقة الأخيرة يعني مستويات عالية للغاية من التستوستيرون.

في كأس العالم 2010، التي حصدها الإسبان للمرة الوحيدة في تاريخهم، كان لدى مشجعي كرة القدم الإسبان مستويات أعلى من إفراز هرمون التستوستيرون عند مشاهدة أي مباراة كرة قدم، وليس فقط مباريات منتخب إسبانيا.

ما يحدث حين تشاهد فريقك المفضل في حالة جيدة، هو أن الجسد يفرز التستوستيرون، الذي يحفز بدوره إفراز هرمون «الدوبامين» أو هرمون السعادة.

يتزايد إفراز التستوستيرون في حالتين بعينهما لدى الجماهير واللاعبين على حد سواء، الأولى خوض المباراة على ملعبك، والثانية حين يلاقي فريقك خصمًا كلاسيكيًا له، وذلك وفقًا لدراسة أجراها كل من «نيك نيف» و«ساندي وولفسون»، بعنوان «التستوستيرون: الإقليميّة وأفضلية المنزل».

قيس في هذه الدراسة معدلات التستوستيرون لدى 8 مشجعين لكرة السلة، ووجد بوضوح أن معدلات إفرازه تكون أعلى داخل الديار وحين يكون اللقاء ضد خصم كلاسيكي.

السعادة في المدرج كما سبق الذكر ترتبط بفرحة الوجود ضمن مجموع أكبر، تشارك الهتافات وشعور الإنسان أن قوته زادت بنحو 20 ألف ضعف، إذا كان الفريق الفائز هو فريقك فإن هذه السعادة تتضاعف، ولكن أساس السعادة التي تطال الجسد يكون الوجود ضمن مجموع أكبر يتشارك كل شيء حتى توقيت الكلام والصمت وحركة الجسد.

لذلك نستطيع بسهولة أن نفهم لماذا يصرّ الجمهور الأكثر تعصبًا على استمرار الهتاف حتى وفريقه خاسر بنتيجة ثقيلة يصعب تعويضها، لكن عدم الهتاف في حد ذاته يخرجه من تلك الحالة السعيدة، ويفرض عليه أن يكون «خائنًا» في اعتبار زملائه من أصدقاء المدرج.

مع ازدياد معدلات السعادة بشكل عام، سواء الناجمة عن فرحة التشجيع مع الرفاق أو بلاء الفريق الذي تشجعه، يتم تحفيز هرمون الأدرينالين.

يبهج الأدرينالين السلوك الجسدي برمته، ومع إفراز هرمون الإندورفين المسؤول عن تحسين المزاج في اللحظات السعيدة حين حدوثها، يصل الجسم لحالة من النشوة بعد كل هذا المزيج.

لكن الأمور ليست إيجابية على طول الخط، فجماهير كأس العالم عادة تكون أكثر عرضة للإصابة بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية، نظرًا لارتفاع إفراز الكورتيزول الناجم عن زيادة إفراز التستوستيرون إلى معدلات عالية للغاية.

هذا ما نشر أيضًا عبر «بابميد» في دراسة كانت تجربتها على 82 مشجع كرة قدم في كأس العالم 2014 بالبرازيل، التي أتت بعنوان «استجابات تستوستيرون مشجعي كرة القدم خلال مباريات كأس العالم» حيث أثبتت من خلال اللعاب وجود إفراز أعلى من الطبيعي للتستوستيرون في اللحظات الحرجة التي تشتمل على التحديات للفريق الذي يفضله كل مشجع، وذلك بنسب لا تقبل الشك.

لماذا ينتهي كل شيء خارج الملعب؟

حين يخرج عشرات الآلاف من المدرجات إلى الميادين، يكون الأمر مرعبًا لأي سلطة أمنيّة، لاعتبارات لها علاقة بتنظيم هذه الجماهير أولًا، والسيطرة على سلوكياتهم بعد ذلك.

هذا ما يبدو، لكن الأساس هو أن جماهير كرة القدم التي تتشاطر كل شيء في المدرج وتعرف جيدًا كيف تدير صمتها وحديثها، هي جماهير خطيرة «نوعيًا» على أي كيان يريد الحفاظ على أي نظام، والسبب هو كل ما ذكرناه من ارتباطات عاطفية وجسمانية لدى هذه الجماهير.

لكن هل تنتفي كل تلك التأثيرات بمجرد صافرة نهاية المباراة؟

انسحاب التستوستيرون بشكل مفاجئ من الجسم بعد تحفيز إفرازه، يؤدي إلى تقلبات في الحالة المزاجية عمومًا تدفع الجسم إلى الكآبة، وهذه ليست حالة مثالية لاستمرار الشعور بالإحاطة، فيفضل المشجع أن ينفصل عن المجموعة عقب انتهاء المباراة عادة، لأن السبب الرئيسي الذي تجمعوا من أجله قد انتهى.

في حالة السعادة الغامرة لفوز الفريق بلقب، واستمرار الهتاف في الشارع احتفالًا بالفوز، تستمر الحالة الجسمانية التي يمكن تسميتها «عاصفة السعادة»، ولكن في بلدان تمنع التجمعات لا يمكن أن تستمر هذه الحالة دقيقة واحدة عقب المباراة، ولذلك يتحول كل هذا إلى رد فعل عكسي، يمثل العزوف التام عن إصدار أي سلوك خارج حدود المدرجات.

تواصلنا مع د.عمار أيمن عبد العزيز، طبيب الأوعية الدموية بمستشفى الشيخ زايد التخصصي بمصر، الذي قال في تصريحات خاصة لـ«إضاءات»: «انسحاب التستوستيرون من الجسم ينتج عنه بداية تراجع القرار الجسماني أمام العقلاني إن جاز هذا الوصف، ما يستمر مع الجسد لمدة أطول هو الدوبامين، بشكل عام يظل الانتماء لمجموعة والشعور بالرضا عن الذات ملاصقًا للشخص ومحفزًا لإفراز مستويات أعلى من التستوستيرون، وحال الانسحاب يبقى الدوبامين ليشعر الإنسان بالحفاظ على السعادة».

يرتبط ذلك قطعًا بفوز الفريق الذي يشجعه المنتصرون، وهزيمة الفريق الذي يشجعه الخاسرون، والتستوستيرون يطل برأسه بوضوح في هذه المقاربة.

فعلى صفحات «بابميد» تم نشر دراسة أجريت على 21 من جماهير كرة القدم، ليشاهد بوضوح أن الفائزين كانت لديهم وفق قياسات اللعاب معدلات أعلى من إفراز التستوستيرون، على عكس الأطراف الخاسرة الذين ارتبط انحسار التستوستيرون لديهم بمشاكل على مستوى الحالة المزاجية، والشعور بالتقليل من الذات.

كما يتم تحفيز إنتاج الهرمونات المسؤولة عن إيصال الجسد لحالة من السعادة والقوة الغامرة في مدرجات كرة القدم أثناء المباريات، يكون الانسحاب المفاجئ لتلك المنظومة برمتها من الجسد مدعاة لفقدان أي رغبة في عمل أي سلوك خارج الملعب.. ولهذا يمكن تفسير ظاهرة «عودة مشجعي كرة القدم إلى منازلهم» عقب المباريات، والمعنى المقصود أكبر بكثير من مجرد العودة إلى المنازل!.