في عام 2005، صدر كتاب في الولايات المتحدة الأمريكية باللغة الإنجليزية بعنوان «مارلي وأنا-Marley and Me» للكاتب الصحفي جون غروغان، وهو يتحدث عن يوميات الصحفي وعائلته مع كلبه صعب المراس من نوع لابرادور. بعد نشر الكتاب بعام، شعرت الوكيلة الأدبية، الأمريكية الأصل والمقيمة في بريطانيا، ماري باكنوس Mary Pachnos، أن هذا الكتاب في طريقه لتحقيق نجاح كبير، فاستطاعت اقتناص عقد مع دار نشر تُدعى «Hodder & Stoughton» تتمكن بموجبه دار النشر من نشر الكتاب في المملكة المتحدة.

وبالفعل صدق حدس ماري. فبعد ذلك بعامين تم تحويل الكتاب إلى فيلم يحمل نفس الاسم من بطولة الممثلة جينيفر أنيستون والممثل أوين ويلسون،ليحقق الفيلم نجاحًا كبيرًا تمثّل في حصده خمسة عشر مليون دولار في ليلة الافتتاح وحدها، والتي كانت عشية عيد الميلاد، وبمجمل أرباح وصل إلى 247 مليون دولار، وهو الأمر الذي ترتب عليه –كما يحدث دائمًا- ارتفاع مبيعات الكتاب.

بعد ذلك بعامين، وبينما كانت ماري تطالع إحدى جرائد الصباح، لفت نظرها تقرير صغير في الصحيفة المحلية، عن رجل بريطاني يدعى جيمس بوين يتجول مع قطه في شوارع لندن، حيث كان الرجل يتخذ من العزف على الجيتار في الشوارع مهنة له. لكنه وبسبب مضايقات الشرطة المستمرة، تحول إلى بيع المجلات، وتحديدًا مجلة «The Big Issue»، وفي الحالتين/ المهنتين ساهم قطه اللطيف ذو اللون الزنجبيلي في جعل الناس يتوقفون للشراء منهما ولو من باب المساعدة الإنسانية.

في العادة يلهث الوكيل الأدبي التقليدي خلف المشاهير أو السياسيين المتقاعدين، لكن ماري تميزت بأنها استطاعت أن تستخرج من هذه المهنة جانبًا إنسانيًا.

هنا خطرت لماري الفكرة، ومجددًا أنبأها حدسها أن هذه قصة واعدة تحمل الكثير، فتجولت في شوارع لندن باحثة عن جيمس وقطه بوب. وعندما وجدتهما، اقترحت على الرجل أن ينشر قصته في كتاب من تأليفه. طبعًا تفاجأ جيمس من عرضها فهو ليس كاتبًا، وليس لديه قدرة على صياغة فصول وفقرات، بل إنه بالكاد أنهى المدرسة الثانوية في أستراليا حيث كان يقيم، وطار إلى المملكة المتحدة بسبب خلافه مع أمه، دون أي تخطيط لما سيفعله هناك.

لكن القدر السعيد كان بانتظاره، حيث استطاعت ماري أن تقنعه بفكرتها، وتحتوي مخاوفه. فشرحت له أن كاتبًا سيقوم بمساعدته، وهو ما يعرف بالإنجليزية بـ«ghost writer»، شرط أن يكتب على الغلاف اسم جيمس بوين، وهذا ما كان.

خرج الكتاب إلى النور عام 2012 تحت اسم «A Street Cat Named Bob»، وعلى الفور عشقه القُراء ولامست تلك القصة الحقيقية قلوبهم. فبعد مضي أقل من شهر على صدوره، تصدر قوائم المبيعات البريطانية، حيث بيع منه أكثر من خمسة ملايين نسخة، وتُرجم إلى 30 لغة (ليست العربية من بينها)، وجاء في وصفه على صفحات الديلي ميل: «قصة تدفئ القلب، وتحمل رسالة أمل». لكن هذا لم يكن كل شيء، فبعدها بأربعة أعوام أي في عام 2016، تم تحويل الكتاب إلى فيلم من بطولة الممثل والمغني البريطاني لوك تريداواي، ومن إخراج روجر سبوتيس وود، وحقق الفيلم نجاحًا مجمله 17 مليون دولار في شباك التذاكر، ما أدى بطبيعة الحال وللمرة الثانية إلى ارتفاع مبيعات الكتاب.

بذلك استطاعت هذه الوكيلة الأدبية أن تغيّر حياة هذا الرجل، الذي عانى سابقًا من إدمان المخدرات، والذي كان يعيش مع قطه في شقة متواضعة، ويكسبان بالكاد ما يكفي لقوتهما. حيث ذكرت تقارير أن جيمس كسب من أرباح الكتاب ما يقارب 30.000 جنيه إسترليني، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الأرقام صدرت قبل تحويل الكتاب إلى فيلم.

إذن نحن هنا –وهذا هو موضوع هذا المقال تحديدًا- أمام وكيلة أدبية من نوع مختلف. ففي العادة يلهث الوكيل الأدبي التقليدي –الذي هو باختصار شديد صلة الوصل بين الكاتب ودار النشر- خلف المشاهير أو السياسيين المتقاعدين أو الروائيين المشهورين للفوز بقصة مضمونة الجمهور وبالتالي مضمونة المبيعات.

لكن ماري باكنوس تميزت بامتلاك الحدس والخبرة والتعاطف مجتمعين، ما يؤهلها –كما يقولون بالعامية- لاقتناص الفرصة من ذرات الغبار في الهواء، وتمتلك من الذكاء ما يجعلها تقلب التراب ذهبًا، وترى فرصة لامعة في ما قد يراه الآخرون مجرد قصة روتينية وأقل من عادية. فاستطاعت أن تنظم الخرزات الثلاث: صاحب القصة الأصلي، والكاتب المساعِد، والناشر، لتصنع عقدًا جميلًا صب في النهاية في مصلحة القارئ الذي استمتع بعمل جديد ومختلف.

لعل الكثير من أشهر الروائيين آمنوا أن أعظم القصص الإنسانية تكمن خلف أولئك المهمشين، وكتبوا عنهم روايات مؤثرة. لكن تبقى القصص الحقيقية المروية على ألسنة أصحابها أبلغ في التأثير.

ماري باكنوس تميزت بأنها استطاعت أن تستخرج من مهنة الوكيل الأدبي، ذات الطابع التجاري الواضح والبحت، جانبًا إنسانيًا، وكانت تجربتها مقامرة. فمن الوارد أن لا يهتم القراء بقصة أو مذكرات بائع مجلات متجول يمتلك قطًا، فهو لا يمتلك أي قاعدة جماهيرية ولم يسمع أحد باسمه أصلًا، وكان عرضة للتنمر في جميع مراحل حياته، منذ أيام المدرسة وحتى عمله في الشوارع، ما دفعه لإدمان المخدرات للهروب من واقعه وضعفه.

لكن ماري آمنت به وبنبل قصته، وأبدت اهتمامًا حقيقيًا بتلك العلاقة الشاعرية التي نشأت بين شاب مدمن وشبه متشرد، وقط بلا مأوى. وساعدته على وصف حس المسؤولية الذي نما لديه شيئًا فشيئًا، معطيًا إياه دافعًا حقيقيًا للالتحاق والالتزام ببرنامج علاجي، للتخلص من إدمان المخدرات. وبالمناسبة فبعد صدور فيلم A street cat named Bob بشهر واحد،أعلنت ماري باكنوس تقاعدها بمناسبة بلوغها سن الستين.

لعل الكثير من أشهر الروائيين على مر الزمان آمنوا أن أعظم القصص الإنسانية تكمن خلف أولئك المهمشين، وكتبوا عنهم روايات مؤثرة، لكن تبقى القصص الحقيقية المروية على ألسنة أصحابها أبلغ في التأثير، ويبقى الكثير من أولئك البسطاء والمهمشين ينتظرون وكلاء أدبيين شجعان مثل ماري باكنوس، يؤمنون أن الحياة الحقيقية هي لدى هؤلاء الأشخاص، وهم يستحقون منبرًا يُسمع صوتهم من خلاله.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.