يتناول هذا المقال إشكالية موقع طالب الأدب أو العلوم الإنسانية في العالم العربي؛ في عالم ثالث، ظل يُنعت لعقود بأنه «في طريقه إلى التنمية»، ومنذ عقود أيضًا ونحن نتساءل: ألم يجد بعد هذا العالم طريق التنمية، أم أنه ضلها وسار في دروب جانبية أخرى؟

ألا تحتاج التنمية إلى العلوم الإنسانية؟ أم أنها لا تحتاج سوى للعلوم الحقة ولإدارة الأعمال والاقتصاد؟ طبعًا، سيقول البعض إن تاريخ العالم سيتغير حتمًا دون نيوتن وأديسون وأبيقور، ولكن غياب تشيخوف أو كافكا منه، لن يغير ملامحه في شيء، أو ربما كان سيتغير؛ كان سيجعله أقل كآبة وأسى.

وقديمًا قرر أفلاطون، طرد الشعراء من جمهوريته، بدعوى أنهم لا يفيدون المدينة في شيء، المدينة المثالية إذن، هي المدينة التي تخلو من العاجزين والمرضى.. والشعراء، منذ قرون إذن والعجز مرادف للشعر والأدب، ولكنهم مع ذلك يصرون على تعليمنا الأدب، وتلقيننا النصوص الشعرية!

قرأنا كثيرًا عن أهمية الأدب؛ عن الشعر كديوان للعرب وحافظ لآثارهم، وعن الرواية كملحمة العصر الحديث، ثم عن القصة ككشف للمهمش والمنسي، وعن السرد كـ«سلاح للأعزل»، ولكن فيما تفيدنا كل هذه الخطابات التخييلية في عالم واقعي فج إلى درجة الغثيان؟ هل للأدب حقًا دور في تغيير عالم يتحكم فيه الاقتصادي ومن بعده السياسي؟

هل يمكن للأديب أن يعرّف نفسه يومًا بأنه أديب؟ هل نتخيل ذات يوم وجود وظيفة «كاتب» في بطاقة التعريف الوطنية؟ طبعًا، يمكن أن نجد وظيفة «كاتب عمومي» أي كاتب يتكلف بإمضاء الشهادات والوثائق الإدارية، وعلى الرغم من أن هذا الأخير يحظى بآخر وظيفة في سلم الوظائف الإدارية، فهو على الأقل يحظى باعتراف المؤسسة، أكثر من كاتب التخييل أو الشعر.

كل هذه الأسئلة وغيرها تبين، الوضعية الإشكالية للأديب والأدب في العالم الحديث – بشرقه وغربه – مما يشرعن سؤال جدوى الأدب أو قيمته أو مخرجاته للوجود الإنساني عامة، وللعلوم الإنسانية بصفة خاصة.

العجيب، أن المؤسسة التعليمية التي تجبرنا على حفظ الشعر وقراءة القصص صغارًا، هي نفسها التي تنكرنا كبارًا، إذ كيف تساوي بين طلاب الطب والهندسة «النافعين»، وطلاب الأدب الهامشيين، الذين لم يختاروا الأدب إلا بعد أن عجزت درجاتهم عن إدخالهم إلى إحدى الكليات «المحترمة».

رسالة المؤسسة إذن، هي اقرأ الأدب وتمتع بعوالمه الممكنة، في وقت فراغك، ولكن لا تتخصص فيه، وإلا ستحكم على نفسك بالانتقال إلى الضفة الأخرى، ضفة المهمشين، الذين لا هم لهم سوى إثارة الفتنة والفوضى في عقول أبناء «الناس الطيبين».

إن قتامة الصورة التي يضفيها المجتمع على الأدب، لم تحرمه من كتابات تدافع عنه، وتؤكد أهميته، ولعل أبرزها، ما جاء في كتاب «الأدب في خطر»، حيث قال تودوروف:

لو ساءلت نفسي اليوم لماذا أحب الأدب، فالجواب الذي يتبادر عفويًا إلى ذهني هو: لأنه يعينني على أن أحيا … الأدب يفتح إلى اللانهاية إمكانية هذا التفاعل مع الآخرين وهو إذن يثرينا لا نهائيًا. يزودنا بإحساسات لا تعوض تجعل العالم الحقيقي أشحن بالمعنى وأجمل. ما أبعده عن أن يكون مجرد متعة، وتلهية محجوزة للأشخاص المتعلمين، إنه يتيح لكل واحد أن يستجيب لقدره في الوجود إنسانا.[1]

إن هذه الشهادة الجميلة في حق الأدب، باعتباره يعيننا على الحياة، لا تنفي وضع الأدب المشكوك في أهميته في المجتمع، فحتى شهادة تودوروف رغم قيمتها النقدية، لا تتجاوز شهادة ذاتية لواحد من المفتونين بالأدب، هل يعني هذا أن على الأدب أن ينتزع اعتراف الآخر، أي اعتراف المؤسسة بأهميته؟

لعل من ينظر في تاريخ الأدب العربي، سيلحظ بسهولة أهمية الأديب عامة والشاعر بصفة خاصة في العصر الجاهلي، ولكن الأمر ما لبث أن تغير في العصر العباسي إذ انتقل الشاعر من لسان قومه إلى مادح للسلطان، أي إلى مكدي يتحايل باللغة والبلاغة ليحصل على بضعة قروش. وجد الأديب العربي منذئذ، نفسه أمام مفارقة إما أن يتقرب من الحاكم ويفقد كرامته ليحصل على الجزاء، أو يبتعد عنه ويعلن رفضه فيتعرض للعقاب، أو على الأقل للإهمال. في اللحظة التي انفصل فيها الأديب عن القبيلة، وفقد انتماءه إليها، أصبح من الواجب عليه أن يسوغ بقاءه، ويبين جدواه وجدوى أدبه، وإلا أنكرته القبيلة، لتلتفت إلى من تكفي أسماء وظائفهم للإعلان عن أهميتهم (الطبيب الذي ما زالت بعض الدوارج تسميه بالحكيم مثلاً).

لقد حكم على الأدب منذ قرون، أن يعيش خارج المؤسسة، إذ خارج هذه المؤسسة فقط، تظهر جدواه، إن فائدة الأدب والعلوم الإنسانية جميعًا (الفلسفة، التاريخ، علم النفس..)، هي في كونها تمثل أقدم فعل ذهني صدر عن الإنسان، ألا وهو السؤال؛ سؤال الوجود والغاية والجوهر: من أنا؟ لماذا وجدت في هذا العالم؟ وماذا بعد هذه الحياة؟.. وغيرها من الأسئلة التي تكشف قلق الإنسان ولا انسجامه من العالم. إلا أن هذا القلق وهذه الأسئلة، هو بالضبط ما تريد المؤسسة محوه، من خلال إعلامها اللاهي واقتصادها المشجع على الاستهلاك ودينها الناهي عن التفكير والشك.

إن الأدب إذن، هو آخر بصقة متاحة في حلق الإنسان الذي جف ريقه من كثرة ترداد شعارات المؤسسة الحاثة على الوحدة والانتماء والهوية المشتركة، ولكن ماذا لو كنا لا نريد شيئًا من هذا، ماذا لو كان الإنسان يريد أكثر من «لقمة العيش» و«الستر» اللذين تغرينا بهما المؤسسة، ماذا لو كان يريد أن يشعر بتفرده وتميزه؟ ماذا لو كان يريد أن يعبر عن مكنونات نفسه وعن رفضه للقيم السائدة؟ آنذاك سيدرك أن ليس أمامه سوى الأدب والفلسفة والتاريخ… وكل العلوم الإنسانية التي لا تسمن في سوق الشغل، ولكنها في الآن ذاته تغني العقل والخيال والمشاعر، وكل ما يجعل من الإنسان إنسانًا.


[1] تزيفطان طودوروف، الأدب في خطر، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2007) ص: 10.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.