إذا كنت ممن تجاوز العشرين من العمر، فعلى الأغلب قد استمعت في طفولتك أو فترة مراهقتك لأغنية «Lithium» أحد أشهر أغاني فرقة الروك الشهيرة «Evanescence». أمَّا إذا كنت أكبر قليلًا، فربما تعرف فرقة «Nirvana» التي عزفت أغنية أخرى بنفس الاسم، ولربما تعرف أن التسمية ترجع لأحد أشهر وأقدم الأدوية النفسية على الإطلاق، عقار الليثيوم الذي استُخدِم – وما زال – لعلاج بعض العلل النفسية، أشهرها الهوس واضطراب ثنائي القطب. فما القصة وراء اكتشاف هذا الدواء؟

نظرية محتملة أم أوهام سجين؟

كان الطبيب الأسترالي «جون كيد – John Cade» يعمل طبيبًا مقيمًا في مستشفى سانت فينسنت ومستشفى الأطفال الملكية في أستراليا، وذلك عندما تم انتدابه في سن التاسعة والعشرين لأداء الواجب الوطني في الحرب العالمية الثانية، حيث حصل على رتبة نقيب، وخدم كجرَّاح في صفوف الجيش البريطاني في سنغافورة في الحرب العالمية الثانية.

بعد سقوط سنغافورة في يد اليابانيين عام 1942، وقع جون في الأسر، وأثناء وجوده في معسكر «شانغي» تمكَّن من متابعة شغفه القديم.

فقد نشأ جون بجانب أبيه وإخوته، وتردد على مختلف المصحات العقلية حيث عمل والده الطبيب «دافيد»، وذلك بعد عودة الأخير من الحرب العالمية الأولى بعدما أصيب بـ «اضطراب ما بعد الصدمة» أثناء خوض المعارك في فرنسا، فعاد وقد عزم على ترك ممارسة الطب التقليدي واتجه إلى الطب النفسي.

وفي أثناء متابعة جون لسلوك زملائه السجناء لاحظ أن بعضهم يمر بنوبات من الهياج المفاجئ أو الاكتئاب الشديد بدون سبب، ثم يعود إلى طبيعته دون أي تدخل خارجي، فكر عندها في نظريته التي افترض فيها أن هذه السلوكيات النفسية تنتج عن مادة مُسمَّمة ينتجها الجسم، فتؤثر على العقل، وما إن يتخلص منها الإنسان عن طريق الكُلى يعود العقل لطبيعته، حاول عندها إجراء بعض التجارب على بول السجناء، لكنه لم يتوصل لشيء، إلا أنه دوَّن بعض الملاحظات عن العلاقة بين نقص بعض المواد الغذائية كالفيتامينات وبين بعص الأمراض العصبية والجلدية.

صدفة مثيرة

بعد قضاء ثلاث سنوات في الأسر، وبعد انتهاء الحرب عام 1945، عاد جون إلى أستراليا واتجه إلى الطب النفسي كوالده، حيث عمل في مستشفى بندورا للأمراض العقلية «Bundoora Repatriation Mental Hospital» في ميلبورن، حيث درس شتى أنواع المرض العقلي، وبدأ يفكر في إثبات فكرته التي تستند إلى وجود أسس بيولوجية للمرض العقلي.

كانت هذه الفرضية فريدة في ذلك العصر، فقد تتبع جون مرضاه عن كثب، ولاحظ وجود تشابه بين أعراض المرض النفسي وبعض الأمراض العضوية، مثلًا يتشابه مرضى الهوس مع حالات زيادة هرمون الغدة الدرقية في النشاط المبالغ فيه والحدة والهياج، بينما يشترك مرضى الاكتئاب مع مرضى نقص هرمون الغدة في حالة الكسل والركود وزيادة عدد ساعات النوم، فلِمَ لا يكون السبب في المرض العقلي بيولوجيًّا نتيجة زيادة إفراز أحد السموم أو الهرمونات في الجسم؟ وقد يمكن الكشف عنها في بول المرضى.

بدأ جون تجاربه في مطبخ قديم تابع للمستشفى، بدأ بجمع بول مختلف المرضى، وحاول فصل مكوناته المختلفة ومقارنته بعينات بول من أشخاص أصحَّاء، وكان من المتعارف عليه وقتها أن اليوريا هي أكثر مكونات البول سُمِّية، فقام بحقن اليوريا في أحد فصائل فئران التجارب وتتبع النتائج، ورغم أنه وجد أن بول الأشخاص المصابين بالهوس أكثر سُمِّية فإن النتائج لم تكن قاطعة، فلجأ إلى إضافة مكونات البول الأخرى ومنها حمض اليوريك، وحيث إن حمض اليوريك لا يذوب في الماء بسهولة، كان يضيف بعض المكونات الأخرى إلى المحلول لتساعد على الذوبان ومنها أملاح الليثيوم.

نظرة إلى التاريخ

منذ اكتشاف الليثيوم عام 1817 على يد السويدي «يوهان أوغست»، بدأ العلماء بدراسة خواصه المختلفة، ولكن أول من أدخله في الاستخدامات الطبية كان الإنجليزي «ألفريد جاروت» Alfred Garroud عام 1847، الذي اكتشف وجود حمض اليوريك في دماء الأشخاص المصابين بمرض النقرس، وأثناء تجاربه على مختلف أملاح المعادن لاحظ قدرة أملاح الليثيوم على إذابة حمض اليوريك، ومن ثَمَّ بدأ استخدامه في إذابة الحصوات الكلوية وحصوات المثانة وفي علاج أمراض الروماتيزم وبعض الأورام، لذلك لجأ جون إلى أملاح الليثيوم للحصول على محاليل يذوب فيها حمض اليوريك.

وبينما كانت المحاليل المستخدمة في العادة تؤدي إلى إصابة الفئران بالتشنجات وأحيانًا الموت، وجد جون أنه مع استخدام الليثيوم تقل الأعراض بشكل واضح، بل تظهر الفئران في حالة سكون ملحوظ على خلاف طبيعتها النشيطة. وهنا قرر جون تجربة فعاليته على مرضى اضطراب ثنائي القطب.

واضطراب ثنائي القطب هو واحد من أكثر الأمراض العقلية شيوعًا، كان يسمى قديمًا بـ «الهوس الاكتئابي»، وهو يتميز بالترنح بين فترات من «الهوس»، ومن أعراضه ارتفاع المزاج وفرط الحركة والسعادة المفرطة والقرارات الانفعالية غير المدروسة وفترات «الاكتئاب» التي يركن فيها المريض للسكون والحزن الشديد وانخفاض المزاج، ويصيب هذا الاضطراب ما يقدر بـ 1% من عموم البشر، ويعتبر من بين أكثر مُسببات الإعاقة في العالم، كونه يجمع بين خصائص الذهان والعصاب، مما يجعل من الصعب السيطرة عليه، ويُعتقد أنه تم اكتشافه قديمًا وأن «أبو قراط» أشار إليه في مؤلفاته الطبية.

وحتى عصر جون، كان العلاج المُتعارف عليه لهذا المرض هو الصدمات الكهربائية، أمَّا في حالات أصعب فقد يلجأ الأطباء للجراحات الفصية العنيفة «Lobotomy»، والتي انتشرت في القرن العشرين، حيث يقوم الجراح بتمزيق الوصلات العصبية للفص الأمامي المخي، مما ينتج عنه كثير من التغييرات الشخصية، التي قد تجعل حياة المريض أسهل، لكن يتضمنها أعراض جانبية ومضاعفات مهولة، إلى جانب بعض المهدئات الأخرى والوصفات التراثية.

وقبل أن يقوم جون بتجربة العقار الجديد على مرضاه لجأ بشجاعة كبيرة لاختبار درجة السمية فيه على نفسه لعدة أشهر، ليضع المؤشرات الأولى للجُرعة الآمنة، ومن ثَمَّ بدأ في تجاربه على المرضى، وكان أول مريض له يُدعى «بيل براند»، الذي عانى من نوبات هوس شديدة لسنوات، فتم إيداعه قسم المرضى الخطيرين، وكان يسمى بـ «القرد» بسبب شدة أعراضه.

جاءت النتائج مبهرة، حيث تحسن «بيل» تمامًا في غضون أسابيع وغادر المستشفى وعاد إلى حياته الطبيعية، الأمر الذي شجَّع جون على استئناف تجاربه على المزيد من المرضى، ونشر ورقة بحثية تُوثِّق نتائجه في المجلة الطبية الأسترالية عام 1949 تحت عنوان: Lithium salts in the treatment of psychotic excitement، تطرق فيها أيضًا إلى استخدام الليثيوم في حالات أخرى كالفصام.

لم يلتفت الكثير إلى نتائج تجاربه في البداية، بالإضافة إلى أنه فشل في إقناع الشركات المصنعة بإنتاج دوائه، إلى جانب الفكر الكاثوليكي السائد آنذاك، والذي كان يعزو المرض النفسي لأمور روحية ويرفض النظرة المادية إليه.

صدمة أخرى تلقاها جون بانتكاسة مريضه الأول «بيل»، الذي توقف عن استخدام الدواء بعد شهور من مغادرة المستشفى، ظنًّا منه أنه شُفي، وبعد إيداعه مرة أخرى بالمستشفى، مرَّ بسلسلة من الوعكات الصحية انتهت بوفاته، واعتبر جون أن من أسباب وفاته – إلى جانب سوء التغذية – التسمم بالليثيوم، ليتوقف جون عن تجاربه السابقة، ويختبر فعالية عناصر أخرى كالسيزيوم والروبيديوم، ولكن دون جدوى.

تدرَّج بعدها جون في المناصب ليشغل عميد كلية «رويال بارك»، وقام بإدخال أساليب علاجية حديثة لإدمان الكحول، وخدم أيضًا كرئيس للكلية الملكية الأسترالية للطب النفسي، وحاز عدة جوائز حتى وفاته بسرطان المريء عام 1980، وتوجد جائزة باسمه تُمنح سنويًّا لأفضل طلاب الطب في أستراليا، كما اعتمد المجلس القومي الأسترالي للصحة والبحث الطبي «منحًا علمية» تحت اسمه تُقدَّر بـ 750 ألف دولار سنويًّا للمساهمين في البحث العلمي في مجال الأمراض العقلية.

ويعتبر جون رائد الطب النفسي الدوائي، فبينما كان الطب النفسي على وشك أن يفقد نظرة المجتمع العلمي إليه باعتباره أحد العلوم الحقيقية، كانت تجارب جون بمثابة نصر وإحياء للمنهج العلمي في مجال العقاقير النفسية.

وتجدر الإشارة إلى أن جون ليس أول مَنْ أشار إلى استخدام الليثيوم، حيث توجد أدلة تشير إلى تجارب أولية ربما قام بها كل من الطبيب «وليام هاموند» و«فرديريك لانج» و«روجر رياس» في أواخر القرن الثامن عشر لاستخدام الليثيوم في علاج بعض حالات الهياج، إلا أنها اختفت تمامًا، إلى أن أعادها جون إلى النور، لتكون بداية الثورة الحديثة في مجال البحث والتصنيع الدوائي للعقاقير النفسية.

تقدير متأخر لكن مستحق

عقب اكتشاف جون جرت بعض التجارب على الليثيوم في فرنسا وأستراليا، ولكن النقلة النوعية حدثت عندما تلقى الطبيب الدنماركي «موجن شو» Mogen Schou اقتراحًا من رئيسه، الذي اطَّلع على أوراق جون، بالقيام بإجراء تجارب سريرية موسعة لاختبار كفاءة الليثيوم على حالات الهوس، وهي التجارب التي أسفرت عن نتائج جيدة، وتلقى زخمًا واسعًا في المجتمع العلمي آنذاك.

أعقب ذلك تجارب أخرى، ولكن بقيت العقبة الكبرى هي حساب الجرعة المناسبة، والتي تُجنِّب المريض سمية الليثيوم، إلى أن تم اكتشاف «المضواء اللهبي الكهروضوئي» عام 1958، مما مكَّن من قياس نسبة أيونات المعادن المختلفة في الدم ومن بينها الليثيوم، ليبدأ سيل جديد من التجارب لاختبار فاعليته على مختلف العلل النفسية، أغلبها في الولايات المتحدة.

تم تصنيعه واختباره في جامعة واشنطن 1962، وبدأ مختلف الأطباء في وصفه لمرضاهم، لتضطر منظمة الأغذية والعقاقير الأمريكية «FDA» أخيرًا لترخيص استخدامه في حالات الهوس والهياج الحاد أولًا عام 1970، ثم لاعتماد استخدامه الآمن على المدى الطويل للحد من انتكاسات الاكتئاب والهوس عام 1975، وذلك بعد عدة تجارب سريرية أخرى أشهرها ما قام بها الطبيبان «موجن شو» و«باستراب» عام 1970، وما زالت الأبحاث قائمة حتى الآن لفهم التأثير الدقيق والمعقد لعنصر الليثيوم على مضخات الأيونات في الخلايا العصبية، وتأثير ذلك على تثبيط تصنيع بروتينات معينة مما ينتج عنه اختلاف في نسبة الناقلات العصبية في الدماغ.

أما جون، ورغم الإشادة لكبيرة التي نالها في أواخر حياته، فقد اتسم بالتواضع، ومنح الفضل للصدفة البحتة فيما توصَّل إليه، فيقول:

مثلما يمكن لطفل فقير يصطاد ببوصة بدائية من بحيرة موحلة أن يُمسك بسمكة كبيرة، كنت محظوظًا بالتوصل لهذه النتائج.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.