لديهم مصالح يجب أن تتم. يرغبون في قوانين معينة يمكنها تسهيل أعمالهم، لكنهم لا يريدون الحكم ولا يسعون للوصول إليه. كذلك ليسوا شغوفين بتقلد المناصب التنفيذية أو السياسية، فما الحل؟ الحل هو أن يُكوّن أصحاب المصالح المشتركة «جماعة ضغط – Lobbyist». جماعة منظمة شرعية تتبنى وجهة نظر واحدة واضحة. هذه الجماعة تعتمد في خطتها على العلاقات المتشابكة مع أطراف كثيرة.. رجال الحكومة، الإعلاميين، القضاة، رجال الدين، والفنانين. هذه العلاقات تمكن جماعة الضغط من تحقيق أهدافها بإحدى طريقتين:

الأولى: الاتصال المباشر بصناع القرار السياسي وإقناعهم، أو إغواؤهم، لإصدار قرار بعينه.

الثانية: فالتأثير على الرأي العام ودفع الجماهير نحو تبني وجهة نظر معينة، ما يضطر صناع القرار إلى تلبية مطالب الشعب التي هي في الأصل مطالب جماعة الضغط.ليست جماعات الضغط سُبة في سجل الدول، بل يرتبط وجودها بالديمقراطية الليبرالية للنظام السياسي. تزدهر كلما كان النظام مؤسسيًا يعتمد على الحوار، وتقل كلما كان النظام شعوبيًا. بعض جماعات الضغط قانونية ويتم تسجيلها بشكل رسمي وشرعي كما في الولايات المتحدة. تنبع شرعيتها من تعريفها لنفسها بأنها وسيلة سلمية لنقل مطالب المواطنين إلى السلطة، ولا تقوم بعملية النقل إلا بعد أن تقوم بدراسة جدوى متأنية عن إمكانية وآليات تحقيق المطلب الذي تنقله. لذا تجدها محبوبةً من المواطن الذي تحقق له مبتغاه، ومن الحكومة التي توفر عليها عبء التفكير.ليس من الضروري أن تُعرف المنظمة نفسها باسم جماعة ضغط، لكن يمكن أن تكون نقابةً أو اتحادًا عماليًا أو منظمة لحقوق الإنسان، أو غيرها. كل هذه التجمعات ما هي إلا صورة من صور جماعات الضغط، فلا تعمل هيئات حقوق الإنسان إلا عبر دفع الدول والحكومات إلى اتخاذ قرارات تتوافق، أو إلغاء قوانين تتعارض، مع حقوق الإنسان.

لا راد لحكم الـ«آيباك»

جماعات الضغط, الولايات المتحدة الأمريكية
«كي ستريت» الذي يضم أكبر تجمع لشركات الضغط في الولايات المتحدة

اختارت الشركات شارع «كي ستريت» ليكون مقرًا لها في الولايات المتحدة. يبلغ عددها 6500 شركة، يعمل بها أكثر من 100 ألف موظف، وتنفق أكثر من ملياري دولار سنويًا. في خمس سنوات أهدت جماعات الضغط أكثر من 23 ألف رحلة طيران لأعضاء الكونجرس وللعاملين في مكاتبهم.لا يمكن المرور على جماعات الضغط دون ذكر اللجنة الإسرائيلية الأمريكية للشئون العامة المعروفة اختصارًا بـ «آيباك». أكبر جماعات الضغط في الولايات المتحدة، أعضاؤها 100 ألف أو يزيد، هدفها التأثير الواضح على السياسة الأمريكية حين يتعلق الأمر بإسرائيل. تحارب أي عضوٍ للكونجرس يُظهر تعاطفًا مع القضية الفلسطينية. ولا شك أن دورها يتخطى أعضاء الكونجرس إلى عامة الشعب، فهى تحاول طباعة صورة ذهنية تراكمية عن أحقية اليهود بفلسطين، ومدى الوحشية التي يقابلهم بها الفلسطينيون.عام 1979 اجتمع مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة آندرو يونج بممثل منظمة التحرير الفلسطينية. بعدها بيومين تم تسريح يونج من الخدمة. في هذين اليومين كانت جماعات الضغط اليهودية قد شنّت حملة تشهير وغضب واسعة على الرجل. ومن قبلها عام 1973 طلب الملحق العسكري الإسرائيلي موردخاي جور من رئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الأمريكية توماس مورير سرب طائرات مزود بصاروخ «مافريك» شديد التطور آنذاك. أجابه مورير أن الولايات المتحدة لا تمتلك سوى سرب واحد، وقد أقسم مورير أمام الكونجرس أن الولايات المتحدة بحاجة ماسة إليه. فجاء رد جور باردًا مطمئنًا، أعطني السرب، وأنا أتكفل بالكونجرس.


إمبراطورية «جولدمان» تحكم العالم

يتساوى مع اللوبي الصهيوني في الأهمية شركة جولدمان ساكس. منذ عقود مضت اجتمع أحد موظفي الشركة مع حاكم ولاية نيويورك. وبعد هذا الاجتماع صار حاكم الولاية روزفلت رئيسًا، وأضحى الموظف سيدني وينبرغ رئيسًا لمجلس أنشأه روزفلت يدعى مجلس استشارات الأعمال. المجلس صار قناة اتصال بين رجال الأعمال والقادة الأمريكيين المتعاقبين. دعم وينبرغ حملة المترشح الرئاسي أيزنهاور، وحين صار رئيسًا اختار له وينبرغ وزير ماليته. كذلك وزير مالية بيل كلينتون كان من جولدمان ساكس. وزير مالية بوش الابن كان من جولدمان ساكس. تبرعات ضخمة أتت منها لحملة الرئيس السابق باراك أوباما عام 2008. لذا لا عجب أن يدعوهم أوباما إلى البيت الأبيض في عامه الأول للرئاسة. ثم تحولت إلى سُبة ناجز بها المترشح السابق والرئيس الحالي دونالد ترامب منافسته هيلاري كلينتون، أنها تلقي محاضرات سرية في مقر الشركة. لكن بعد وصول ترامب اختار منها وزير ماليته. وعين رئيسها مديرًا للبنك الاقتصادي الوطني.

أهلًا بكم في البيت الأبيض. لقد سعى كل رئيس منذ فرانكلين روزفلت إلى استشارة مجلس الأعمال، كما سعى كل رئيس منذ ليندون جونسون إلى التواصل معكم. ومع كون هذه الشراكة مهمة في فترات السلام والرخاء النسبيين، فإنها تصبح حاسمة في فترات الأزمة الاقتصادية
الرئيس الأمريكي السابق «باراك أوباما»

من أين تُؤكل الكتف: الخليج يعرف

دعنا ننظر للأمر بما يهمنا كقراء عرب. الدول العربية والخليجية خاصة أدركت تلك الحقيقة، لذا تسابقت الدول في إيجاد باب خلفي يسمح لها بالدخول إلى حظيرة الحكومة الأمريكية. قطر تمارس اللعبة منذ أمد طويل، لكن إذا اعتبرنا الأزمة الخليجية نقطة محورية، فيمكن القول إن قطر كانت تنفق قبلها ما يعادل 300 ألف دولار شهريًا تُدفع إلى 4 شركات. لكن بعد اندلاع الأزمة وقعت قطر عقودًا مع 3 شركات إضافية، بهذا وصل المبلغ المُنفق شهريًا إلى 1.4 مليون دولار.أرادت قطر بتعاقداتها الأخيرة تجنب أي إجراءات عدائية قد يتخذها ضدها ترامب. لهذا صعدت من مستويات تعاقداتها من شركات العلاقات العامة إلى شركات قانونية من العيار الثقيل. تعاقدت مع شركة المحاماة التابعة لوزير العدل الأسبق جون أشكروفت بعقد مدته 3 أشهر وقيمته 2.5 مليون دولار. وتعاقدت كذلك مع شركة لإدارة المعلومات بمبلغ 1.1 مليون دولار لمدة 3 أشهر.السعودية ضربت بسهمها أيضًا في شراء الولاءات الخارجية، ظهرت قوة توغل السعودية منذ عام 1981 إبان حكم ريجان. تعاقد مع المملكة على صفقة طائرات أواكس بـ 8.5 مليار دولار. الكونجرس له الحق في رفض أو قبول أي صفقة بيع أسلحة لدولة أخرى تتعدى حاجز الـ 25 مليون دولار. لكن المملكة دخلت معركةً استخدمت فيها جميع الأسلحة المشروعة وغير المشروعة لأجل تمرير الصفقة. اتصالات وزيارات لأعضاء الكونجرس، لقاءات ومقالات صحفية حول أهمية المملكة لحفظ أمن الشرق الأوسط. انتهى الأمر بتمرير الصفقة بالأغلبية. كذلك تعاقدت المملكة مع شركة «بي جي آر» الحكومية مقابل 500 ألف دولار سنويًا.

في مقابل ما تدفعه سوف تضمن المملكة خدمات الصحفي جيفري بيرنبوم، مراسل سابق لصحيفة الـواشنطن بوست، كان مختصًا بتغطية أعمال جماعات الضغط، لكن هو اليوم أحد أعضائها. كذلك تستفيد بخدمات إد روجرز، كاتب عمود في الصحيفة ذاتها.


اقتل، ونحن ندافع

السعودية تمتلك عددًا مذهلًا في قائمة الشركات التي تعاقدت معها. من أعرقهم شركة كورفيس، تدفع لها المملكة مبلغ 14 مليون دولار سنويًا. هذه المبالغ الضخمة لا تذهب هباءً، وحادثة نمر النمر تشهد على هذا. معارض سعودي أعدمته المملكة، فرصة ذهبية للمجتمع الغربي لمهاجمة المملكة التي يصفها دائمًا بالقمعية، وقهر النساء، والتخلف.لكن مجموعة بوديستا قامت بما تدفع لها المملكة لتقوم به. تصريحات لمجلة نيويورك تايمز تبرر إعدام النمر، وتصفه بالإرهابي المُستحق لما جرى له. دعّم هذه الرواية داخليًا مستشارون أمريكيون يعملون لصالح المملكة. كذلك تعالج شركات الضغط التي تشتريها المملكة صورتها السيئة في مجال حقوق الإنسان. كما تدافع حتى اليوم عن حرب المملكة في اليمن.الإمارات هي الأخرى ترتبط بعقود مع أكثر من 13 شركة ضغط أمريكية. لكن طموح الإمارات لا يجعلها تقف عند حد التأثير في القرارات الأمريكية عبر الشركات، بل تنتهج خطًا موازيًا تحاول من خلاله أن تصير ندًا للولايات المتحدة.

مصر: الصورة أهم من الحقيقة

الواقع يقول إن أي فكرة أو رؤية ينبغي أن يكون وراءها قوة ضغط لتنفيذها.
حسني مبارك, الرئيس المصري الأسبق
الرئيس المصري الأسبق «محمد حسني مبارك» في مقر وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون»

الحكومة المصرية لها تاريخ طويل في هذا المجال. فمنذ عام 1989 حتى عام 2007 كان الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك متعاقدًا مع شركة بانرمان. ثم انتقل إلى شركة «سي إل إس» حتى عام 2009، بعقد بلغت قيمته 1.1 مليون دولار. كانت هذه الأموال نظير تسهيل لقاءات مع أعضاء الكونجرس الأمريكي، وعقد لقاءات صحفية عالمية مع المسئولين الذي يختارهم مبارك، كما كانت تنشر لبعض مثقفي السلطة مقالات في صحف أجنبية مرموقة.تبعه في هذا المجلس العسكري عام 2011، بصفقات تجاوزت نصف مليون دولار في الأشهر الأولى لحكمه. ثم انتهى التعاقد على خلفية قضية منظمات المجتمع المدني والتمويل الأجنبي. لم يمارس الرئيس السابق محمد مرسي هذا الطقس المقدس وامتنع عن التعاقد مع هذه الشركات في سنة حكمه الوحيدة.ثم عادت الحكومة المصرية إلى عادتها فتعاقدت مع شركة جلوفر بارك عام 2013، نص التعاقد على أن تقدم الشركة للحكومة الاستشارات اللازمة لتنفيذ خارطة الطريق، والمساعدة في أن يُرى أن الحكومة تعمل على بناء ديمقراطية شاملة عبر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.كما تمثل جماعات الضغط علامةً على التنوع الثقافي، فإنها قد تؤدي إلى تغيير الثقافة كذلك. عام 2007 أنفقت تركيا ما يتجاوز 30 مليون دولار لوقف اعتراف الأمم المتحدة بإبادة الأرمن. وإذا اعتبرنا جماعات الضغط محفزةً لمناخ سياسي جيد في الدولة، فإن لها أضرارها كذلك. إذ يعتبر تعدد الولاء أهم عثرة في تاريخ تلك الجماعات. مواطنون أمريكيون يجب عليهم التفكير في مصلحة الولايات المتحدة، لكنهم لا يفعلون. تطلعهم دائمًا نحو بلادهم الأصلية (التي تدفع المال) يجعلهم يضغطون على الولايات المتحدة لتتخذ مواقف تدعم دولهم حتى لو كان في ذلك توريط للولايات المتحدة وشعبها في حرب أو مشكلة اقتصادية.