مع بداية الشهر السادس للحرب في السودان، لم يعد في الحديث عن هول الخسائر التي خلّفها النزاع المسلح على المدنيين خلال الخمسة أشهر الماضية أدنى مبالغة، إذ إن حجم الدمار في المدن التي دارت فيها رحى الحرب فاق كل قدرة على فهم الدوافع، فقد دُمّرت المنازل والأسواق والمدارس والمستشفيات، وعانى المدنيون من ويلات النزاع، وزُهقت الأرواح، وتشتّت شمل العائلات، ويعيش ملايين من المدنيين في دوامة القلق لجهل مصير أحبائهم وأقاربهم، بعد أن فقدوا مساكنهم وكل أملاكهم، ومن المهم التذكير بأن بعض المناطق السودانية ظلت تعاني من ويلات الحرب والنزاعات المسلحة منذ عقود قاسى فيها كثيرون مآسي عدّة، وأُجبر عديد من السكان على الفرار من منازلهم أكثر من مرة.

وقائع الفجيعة مستمرة في السودان، حيث اتفقت جميع الأطراف المتحاربة وحلفاء كل منهم على أن يقضوا على آمال الشعب وتطلعاته في الحرية والسلام والعدالة، لكن مثلما أفرز حراك ديسمبر/كانون الأول 2018 الذي أطاح بنظام الجنرال البشير، تشكيلات ثورية على أسس اختلفت عما كان سائدًا، ستفعل حرب 15 أبريل/نيسان أيضا، وحينها لن يكون الرجوع إلى حالة ما قبل الحرب وعودة شراكة جديدة بين الأطراف المقاتلة خيارًا مقبولًا، على الأقل بالنسبة للقوى المدنية الرافضة للحرب واستخدام القوة المسلحة لفرض الرؤى السياسية.

أصوات وأصوات

منذ بدء الحرب في منتصف أبريل الماضي ظلت الأصوات المطالبة بوقف الحرب، تُهاجم بشدة، من كل الأطراف المسلحة، بطريقة تكشف استهداف «لجان المقاومة» والفاعلين في العمل الإنساني والحقوقي، وكل من يشكلون مجتمعين قوى الثورة الحية، هم لسوء الحظ مدنيون عزل مواجهون بقوات عسكرية ترى فيهم عدوًا حاليًا وخصمًا محتملًا، وظلوا حتى الآن محاصرين بين قوى مدنية حليفة للجيش أو الميليشيات التي تقاتله ومجتمع دولي وجوار إقليمي قرر أن يستمع فقط لصوات معينة تشكل (طاقمًا مختارًا) يقحم في أي تسوية أو اتفاق، ويقدم على أساس أنه ممثل للشعب السوداني.

لكن مع تصاعد وتيرة الحرب وتزايد الإنهاكات ضد المدنيين بدأت بعض الأصوات تعلو متجاوزة حاجز الشجب والإدانة وإبداء القلق، مثلما ورد في تصريح بيث فان شاك سفيرة الولايات المتحدة لشئون العدالة الجنائية الدولية، الذي أوضحت فيه سعي بلادها لتعزيز جهود محكمة الجنايات الدولية، ودعم مبادرات توثيق لإنتهاكات حقوق الإنسان في السودان، والتوصل إلى معلومات حيوية لأغراض المحاسبة والمحاكمة، والمساعدة في تحديد مكان المطلوبين والقبض عليهم، ومحاكمة الضالعين في جرائم الإبادة الجماعية السابقة وتلك التي ترتكب الآن، وسبق هذا الموقف الأمريكي موقف آخر تمثل في فرض وزارة الخزانة الأمريكية لحزمة عقوبات طالت بعض قادة ميليشيا الدعم السريع بينهم عبد الرحيم دقلو شقيق حميدتي زعيم التشكيل المتصارع مع الجيش الآن.

ذلك الإتفاق المريب بين أطراف الحرب ومسانديهم، يعود إلى مرحلة مبكرة من عمر الصراع السلمي المدني، وحينما تكالبت ما عرفت بقوى «الهبوط الناعم» التي كانت ترى إمكانية ما للتعايش مع نظام المخلوع البشير، وتحالفت مع قوى «الهبوط الآمن» من داخل النظام التي كانت تعتمد أسلوب الانحناء للعاصفة، وشكلت مجتمعة خطة وخطوات تنفيس الثورة وإجهاضها ومنعها من أن تأخذ مداها في إنجاز التغيير الإيجابي، بينما الموقف المبدئي لقوى الثورة الحية قائم على ضرورة استكمال أهداف الثورة وتحقيق تطلعات الشعب السوداني في الحرية والسلام والعدالة، وإرساء سلطة الشعب.

حرب السيطرة

اتفقت الآراء حول أن أسباب الحرب الدائرة في السودان الآن متعددة ومتشابكة داخليًا وخارجيًا، لكن يظل أبرزها نزوع كل من القوات المسلحة (الجيش) وقوات الدعم السريع (الميليشيا) نحو السيطرة على المشهد السياسي والنفوذ والموارد، فضلًا عن اختلاف حلفاء الأمس على مستقبل المؤسسة العسكرية، وحول التعاطي مع المحاور الإقليمية والدولية، والسيطرة على مستقبل العملية السياسية، ورغم حربهم يتفقان أيضًا على أن الانتقال الديمقراطي السلس ليس في مصلحة أي منهم أو من حلفائهم، لأنه وفي المقابل – وسط صفوف الثوار – يوقن الجميع أنه لا (ديمقراطية) تأتي بواسطة العسكر نظاميين كانوا أم ميليشيات كما لا (كرامة) تستجلب عبر حرب الردة عن مكاسب الثورة أو بالولوغ في جرائم القتل والتنكيل والتشريد والإغتصاب، وهو ما يدحض الأسباب التي أعلنتها أطراف الحرب.

الشاهد أن القوى المدنية الثورية المقاومة طالبت بعودة العسكر إلى ثكناتهم، وحل الميليشيات، وتحديد المهام الوظيفية للجيش، وإتاحة المجال لمكونات المجتمع المدني ومؤسسات السلطة المدنية، ورفض عسكرة الأجواء العامة، وهي تستند على حزمة أهداف داخل دائرة الواجب الثوري الممكن التنفيذ، والتي كان يجب أن تتم منذ البداية ولو عبر ترتيبات الشرعية الثورية، لكن التشكيلات العسكرية مجتمعة وبعض القوى المدنية وقفت ضد اكتمال ذلك التحول الذي يعبر عن إرادة الجماهير، بل قتلتهم قبل أن تقتتل فيما بينها، ولم تزل ترى فيهم خطرًا يجب التخلص منه مبكرًا باستغلال حالة الحرب الراهنة وغياب أي رقيب.

عسرة العسكر

تورط القادة العسكريون في إشعال الحرب أولًا ثم في خوضها وإدارتها، وأخطأوا في حساب تقدير الموقف بالدرجة التي لم تمكن أي طرف منهم على توقع مدى المعضلة وحجم النازلة، فما حدث ويحدث في هذه الحرب العبثية حول السودان إلى ساحة معارك مفتوحة على كل الاحتمالات، بما في ذلك زوال السودان كدولة موحدة، وتقسيمه لعدة دويلات، وهذه النتائج أيضًا شكلت اختلافًا آخر جعل قوى التغيير الإيجابي في مربع المستهدف الأول من جميع الجهات المسلحة. أما الحلفاء المدنيون فقد وجدوا في العسكر مطية فقرروا استغلالها إلى أقصى حد ممكن بغرض الوصول إلى سدة الحكم.

ما ترتب على الحرب التي أشعلوها من أضرار، يعد ردة مريعة عن مسيرة التحول الديمقراطي السلمي، ومحاولة عنيفة لطي فكرة الانتقال الديمقراطي السلس إلى غير رجعة، وذلك في مقابل الموقف الذي لخص في عبارة (لا للحرب) بمعناها القائم على أساس اعتماد المدنية الديمقراطية، حيث لا يمكن أن يعول على الحرب كوسيلة لإنتاج واقع جديد يلبي احتياجات وتطلعات الشعب السوداني وتكفل حقه في الحياة الآمنة.

وفي الأصل كان اندلاع الصراع المسلح بين ميليشيا الدعم السريع الراكنة إلى تدمير ومقومات الحراك الاجتماعي والسياسي، والقوات المسلحة الرامية إلى المحافظة على الطبيعة المعتادة لسلطة الاستبداد عبر قمع وتطويع الحراك الاجتماعي والسياسي، بسبب (طبيعة السلطة) وبدعم من حلفاء داخليين وخارجيين.

مأزق الحلفاء

أزمة القوى المدنية المتحالفة مع العسكر تكمن في أنها أضحت مكشوفة، فتاريخ الأداء السياسي القريب وضعها خارج دائرة الثقة لجمهور واعٍ حمل رؤى واضحة وتصور طموحًا لما يجب أن يكون عليه السودان، ويهتم أكثر بالإجابة على سؤال: كيف يجب أن يحكم السودان؟ متخطيًا بذلك صراع القوى السياسية حول من منهم يحكم السودان.

التباين الشاسع في الأهداف جمع معظم القوى السياسية وكل القوى العسكرية النظامية والميليشيات في مربع آخر مؤقت، غير ذلك الذي يؤطر مرامي الثوار السلميين، التي عبروا عنها بطرائق مختلفة وضمنوها في مواثيق أسست لمشروع وطني، وهو مؤقت لأن طريقة نهاية الحرب قد تثير خلافات أوسع بين المجموعات المتحالفة الآن إن وضعت النهاية عبر اتفاق لتقاسم السلطة أو بفرض شروط المنتصر.

نهاية الحرب تملي على الثوار استحداث طرائق جديدة للمقاومة، ففي الأفق حرب مؤجلة في نطاقها الواسع لكنها بدأت وفق ما رصد حتى الآن باستهداف مريب للجان المقاومة والقوى الثورية، من قبل كل الأطراف المتحاربة، وتلك المتربصة، وداعميها من بعض القوى السياسية المدنية الطامحة في الوصول إلى السلطة أو العودة إليها -حربًا- لكنها لن تحقق مراميها مع استمرار وجود قوى ثورية تعمل من أجل إنجاز تغيير جذري إيجابي حقيقي.

الآن وبعد أن تكفلت الحرب بكشف المستور، لم يعد مهمًا بالنسبة للمواطنين العاديين، الرد على سؤال من الذي بدأ الحرب؟ بل يظل السؤال الشاخص لما الحرب؟ ولماذا حدث فيها ما حدث؟ كما لا يمكن الحديث عن وجود طرف ثالث أو رابع، دون السؤال عن لماذا استجابت بقية الأطراف، المدنية خصوصًا، ولمَ اصطفت خلف هذا الطرف أو ذاك؟

ما خفي أعظم

في ذات السياق تصبح أسباب استهداف الفاعلين في المجالات الحقوقية والإنسانية من أطراف الحرب مفهومة أيضًا، لأنهم يمثلون الضمير الرافض والراصد للفظاعات التي ترتكب، فرغم أن أرقامًا فاجعة رشحت عن عدد القتلى والجرحى والنازحين واللاجئين، والخسائر في البنى التحتية والممتلكات العامة والخاصة، فإن الواقع فعلًا لم يتم حصره بعد، وما رشح حتى الآن هو بعض يسير من دمار مريع.

فقد كشفت «لجنة محامي الطوارئ» وهي مجموعة حقوقية طوعية باسم (معتقلات الموت بالخرطوم)، عن إنشاء طرفي النزاع لمعسكرات اعتقال للمواطنين داخل ولاية الخرطوم، يؤكد التقرير وجود (44) مركز اعتقال بالخرطوم تتبع لميليشيا (قوات الدعم السريع) و(8 مراكز اعتقال أخرى تابعة للقوات المسلحة الرسمية) بها معتقلون من الجنسين ومن فئات عمرية مختلفة، بينهم اطفال، يتعرضون للتعذيب الجسدي واللفظي والنفسي، والحرمان من التواصل مع ذويهم والتجويع، والاعتداءات الجنسية، داخل معسكرات اعتقال بعضها مؤقت يستخدم كنقاط تجميع وفرز واستجواب أولي، وبعضها الآخر معتقلات دائمة في مقار حكومية ومنازل ومدارس ومنشآت عسكرية تحولت إلى مراكز اعتقال، وذكر التقرير حدوث حالات وفاة نتيجة للتعذيب المميت لبعض المعتقلين الذين هم في الغالب من شباب الثورة.

سبايا وفدية

لم تأت ممارسات التعذيب والاعتقال والإذلال طارئًا جديدًا ابتدع أثناء الحرب في ما عرف بأنماط «الأداء الأمني» لطرفي النزاع، لكن يثير استخدام أساليب الترويع والحط من الكرامة والإذلال الآن وبالقدر الذي حوته التقارير وإفادات الناجين من معتقلات الموت، سؤالًا مهمًا، حول كيف ولمَ اجتمع الأضداد وأجمعوا على التنكيل بدعاة المدنية ووقف الحرب؟ كل في معسكرات تخصه وبدعوى انتساب الضحايا للطرف الآخر.

حتى لحظة اندلاع مواجهاتهم الأخيرة ضد بعضهم، ظل طرفا السلطة العسكرية الانقلابية يوجهان رصاص البنادق المميتة نحو المدنيين العزل، ومرة أخرى لم يعف أو يسلم المدنيون من ربقة الاتهامات الجزافية، لكن الجديد (في ظل الحرب وغياب الدولة) هو طلب فدية مالية مقابل إطلاق سراح المعتقلين المدنيين والأسرى من العسكريين، وإجبارهم على القيام بأعمال شاقة مثل حفر الخنادق والقبور لقتلى الطرفين، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تناولت أخبار وتقارير وإفادات أخرى إقدام بعض منسوبي «ميليشيات الدعم السريع» على سبي سيدات وفتيات من مناطق الحرب ونقلهم إلى مناطق أخرى داخل السودان، وإجبارهن على مزاولة البغاء لصالح مختطفيهن، وبيعهن في أسواق علانية، وهناك حالات لعمليات إطلاق سراح السبايا بعد إجبار ذويهن على دفع فدية مالية، بطبيعة الحال سيعيق هذا الانحدار في التعامل مع المدنيين إجراء التصالح والإبراء المجتمعي لاحقًا، لأن الأمر تعدى حالة كونه حربًا بسبب خلاف سياسي ووصل إلى حد أنه حملة على أسس جهوية ومناطقية وعرقية حملت أبعادًا انتقامية، ستجر ثأرًا تلو الآخر.

مفقود أم موجود؟

على وسائل التواصل الاجتماعي التي ظلت أحد أهم محركات المشهد الجمعي، الثوري خصوصًا، وفي صفحات لجان المقاومة، لا يمر يوم دون نشر خبر عن اعتقال أو اختفاء أو فقدان لشباب وشابات، بعضها في ظروف مشهودة ومعروفة ومعظمها تم كاختفاء مفاجئ، ثم تبين لاحقًا أنه كان إخفاء قسريًا أو اعتقالًا تعسفيًا، نشطت لمواجهته منذ سنوات وزاد النشاط إبان الحرب الحالية مجموعات حقوقية وصفحات مثل (مبادرة مفقود وغرف الطوارئ في الأحياء السكنية في مدن الخرطوم الثلاثة وإقليم دارفور وولايات كردفان والنيل الأزرق، التي تدور فيها وقائع الحرب المسربلة بجرائم النهب والاغتصاب والخطف).

المؤسف أن حالات الاختفاء القسري المسجَّلة لا تعبر عن النطاق الكامل لهذه القضية الإنسانية، التي قد تهمل في أوقات لاحقة كما حدث في قضايا المفقودين في جريمة فض الاعتصامات في الثالث من يونيو 2019، اﻷكيد أن هناك مزيدًا من المواطنين السودانيين بينهم أطفال لا يزال مصيرهم مجهولًا، وقد تحدثت التقارير الأممية عما يفوق 4.8 مليون نازح ولاجئ داخل وخارج السودان، وعن أكثر من 700 طفل ينزحون حديثًا في كل ساعة جديدة، يعتبرون بشكل ما من الناجين على الرغم من أنه فعليًا لم ينج أحد فالكل تأثر وأصيب بشكل ما، ثم ارتفع عدد النازحين داخل السودان إلى 7.1 مليون شخص، من بينهم ما يقدر بنحو 3.3 مليون طفل، وبذا أصبح عدد النازحين في السودان الأكبر على مستوى العالم.

ليس هذا وحده هو المقلق ففي حالة المدنيين السودانيين المتأثرين من الحرب هذه يصبح الحديث الآن عن «الأمن الاقتصادي» في أعقاب النزاع المسلح أو قدرة الأفراد والعائلات والمجتمعات المحلية على تلبية احتياجاتهم الأساسية على نحو مستدام وبما يحفظ لهم كرامتهم، ضربًا من الترف، فالأزمة الاقتصادية قادمة وكذا الفجوة الغذائية، والانفلات الأمني سيستمر، وحتى لو توقفت الحرب كحالة فسيمتد الأثر.

الصانع والمصنوع

لأسباب متصلة بتغذية حرب دارفور، ولسد النقص في وحدات المشاة، فرخ الجيش «قوات الجنجويد» وهي نسخة أكثر قوة من صناعات سابقة أقل أثرًا – خرجت من (رحم القوات المسلحة) كما يقولون عند الاتفاق – وارتكبت جرائم حرب وإبادة جماعية بشعة، وهي الآن أيضًا تحتل المنازل في الخرطوم، وترتكب المجازر والاغتصابات، وتسطو على كل المقدرات المادية والمعنوية، إذن هم مجتمعين جيشًا وميليشيا يمثلون (نفس الزول) الذي خطط ونفذ وتستر على جرائم فض الاعتصامات أمام مقر قيادة الجيش بالخرطوم ودرزينة ساحات في ولايات أخرى. وهي ذات القوات التي تعمل بالمقاولة – مأجورة – في حروب أخرى تدور في المنطقة، غير الكثير من سيرة ليست ناصعة.

الوقائع اليومية كشفت أيضًا أن الجميع فاشلون حتى في إدارة الحرب، وفي صياغة مبرراتها، وفي وضع رؤية سياسية تشمل آفاق الحل، إلا من زاوية محاولة البقاء في المشهد القادم، ذلك لأن جميعهم ولغ في ذلك الإناء الاّسن وخاض حربًا ضد إنسان السودان، بدلًا من أن يسهم في إرساء مشروع وطني جامع.

منذ بدايات صناعتها على يد المؤسسة العسكرية الرسمية، اعتلت «ميليشيا الدعم السريع» على اﻷزمات السودان، وأنشأت اقتصادًا يخصها عبر شبكات من الحلفاء تربطهم مصالح مادية نشطة في مجالات تعدين الذهب، والتهريب، وتجارة السلاح والمخدرات والقتال مدفوع الأجر، إلى أن أوكلت لها مهمة دولية لمكافحة الهجرة غير الشرعية وتجارة البشر، ثم إلى شريك في السلطة العليا، وخلال تلك المراحل سعت الميليشيا التي نشأت تحت مظلة السلطة لتنمية النشاط الاقتصادي المحمي بالسلاح، حتى وضعت أمام ضرورة السيطرة الكلية على السلطة لإعادة صياغة طبيعتها والتحول من من قوات إسناد إلى فاعل مسيطر.

هذا التحول في طبيعة السلطة يمثل لب التحالف بين ميليشيا الدعم السريع وحلفائها الإقليميين -دولة الإمارات العربية مثال- والحلفاء الدوليين -مجموعة فاغنر مثال آخر- لكنها اصطدمت بطموحات الحليف العسكري المحلي «القوات المسلحة» التي تسعى بدورها إلى إعادة إنتاج الطبيعة الاستبدادية للسلطة والمحافظة على الحماية والامتيازات.

العطر القديم

وسط كل هذه البشاعة لم يزل الموقف الدولي الممثل في منظمة الأمم المتحدة، متمترس في خانة إبداء القلق ومناشدة الطرفين لوقف الأعمال العدائية، والإشارة إلى أن وحدة السودان الاستقرار المنطقة على المحك. وتأخر الإفصاح عن هذا الموقف ثلاثة أشهر كاملة، ثم جاءت الجهود والمبادرات الدولية والإقليمية متعددة ومتناقضة أحيانًا، لم تتعظ من التجارب السابقة، متجاهلة لحقيقة أن محاولات تجاوز الشارع الثوري السوداني، والسعي نحو فرض احتكار السلطة والسيطرة على المجال السياسي بالقوة كانت من أسباب هذه الحرب.

فقد انبنى رفض الشعب السوداني لحرب الجنرالات في سعيهم نحو السلطة، على أساس مبدأ مدنية الدولة، وحل الميليشيات كلها بداية بالجنجويد، ومحاكمة قادة وأمراء ودعاة الحرب، عليه لا يتسق توقع قبول الحلول التي تعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل الحرب، فقد كان العسكر على انقلاب، وإذا عادت السلطة العسكرية الانقلابية عبر فرض أي طرف لشروط المنتصر، أو عبر اتفاق بين الأطراف لتقاسم السلطة بعد الإقرار بتوازن الضعف، فذلك يعني أن يخرج الشارع الثوري مجددًا، لكن بأدوات مختلفة هذه المرة، فليس فيما اغترف خلال هذه الحرب ما يدعو لافتراض حسن النوايا.

بينما ير كثيرون من أبناء وبنات الشعب السوداني أن التدخل الأممي كان كفيلًا بوقف الحرب في يومها الأول وليس هنالك ما يبرر حالة «المشاهدة الصامتة» بدأت بعض التصريحات لمسؤولين في المنظمة الدولية أخيرًا؟ وفي 12 سبتمبر/أيلول الجاري، قال المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فولكر تيرك، إن «النزاع الجاري بلا جدوى، وعقود الحكم العسكري قبله، أظهرت لنا بلا شك أن الحكم العسكري لن يجلب الاستقرار إلى السودان». وأضاف في بيان له أمس أمام الدورة 54 لمجلس حقوق الإنسان بجنيف، أن الحكم العسكري لن يعزز حقوق الإنسان ولن يحسن الاقتصاد وإنما سيولد مزيدًا من الاضطراب والمعاناة الكبيرة»، وأضاف: «حان الوقت للجنرالين التوقف عن العنف».

في السابق وعبر الوساطات الأممية والإقليمية تجاهلت القوى الخارجية ومردودها السياسي الداخلي (قوى الحرية والتغيير) كل مقترحات الحل العادل، وسعت لتقويض القدرة السياسية للكتلة الثورية، لصيانة الشراكة بين القوات المسلحة والدعم السريع وبعض قيادات القوى السياسية المدنية، وانخرطت في عملية سياسية (الاتفاق الإطاري) الذي يهدف لترميم الشراكة المرفوضة من الشارع الثوري، إلى أن برز صراع القيادة والسيطرة في مسألة دمج قوات ميليشيا الدعم السريع في القوات المسلحة.

تبنت ميليشيا الدعم السريع مقترحًا يقضي بدمج قواتها في عشر سنين تبدأ بدمج القيادة، وذلك يعني عمليًا ألا يتم الدمج، بينما يعني البدء بدمج القيادة إضفاء صلاحيات جديدة على قيادة الميليشيا تسمح لها بفتح فرص التسليح المستقل لقواتها، التي ستستمر تحت قيادتها وسيطرتها، وفي المقابل اقترحت القوات المسلحة دمج قوات ميليشيا الدعم السريع في عامين تبدأ بالوحدات المقاتلة، وهذا يعني عملياً الشروع الفوري في إخضاع قوات الميليشيا لقيادة وسيطرة القوات المسلحة، والبدء بدمج الوحدات يؤدي إلى إضعاف قيادة الميليشيا عبر إبعادها عن القيادة والسيطرة على قواتها.

وكان موقف المبعوث الاممي فولكر بريتس القريب من تمديد المدة لصالح ميليشيا الدعم السريع، مؤشرًا إلى محمول الرؤية الأممية ومجافاتها لأطروحات الجيش، وكانت تلك بداية النهاية لفكرة الشراكة، وبداية الحرب نسبة للطبيعة العسكرية لحلفاء الأمس، بعد أن أغلقت القوى الخارجية -وصداها السياسي في قوى الحرية والتغيير- المضمار التحرري لحل الأزمة الاجتماعية والصراع حول طبيعة السلطة، كان من الطبيعي أن يدار الصراع حول طبيعة السلطة عسكريًا.

الشعب يريد

بين الثوار من يرى أن هذه الأطراف أشعلت الحرب بغرض استكمال مهمة القضاء على الثورة، على طريقة «دك، ثم توزيع جديد»، كما في لعبة الورق، وفي تلك الرؤية بعض وجاهة، لا سيما وأن القوى السياسية المدنية وتلك الحاملة للسلاح أيضًا، فشلت في تقليص القدر الأكبر من السلبيات وتوسيع دائرة الإيجابيات، كان أداؤهم محبطًا دائمًا بل هو مريب أحيانًا، فقد تمدد هؤلاء لأن انتصار الثوار كان جزئيًا وغير مكتمل، وسمح بعودة التحالف المضاد للتغيير الكامل تدريجيًا، وبقاؤه باسم الثورة أحيانًا، قبل أن يسفر عن وجهه في انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، ثم تسقط الأقنعة بالكامل في حرب 15 أبريل/نيسان 2023.

لا يكترث الشعب السوداني في وضعه الراهن إلى ما تتلقاه الأطراف المتحاربة من إدانات دولية كانت أم إقليمية أو محلية، أيًا كان مستوى الإدانة، لكن الثابت أن الحرب تسحق شعبًا بالكامل، ومن المعيب أن يتم الترويج لذلك السحل بأنه «عمل ضروري لاستئناف مسار التحول المدني الديمقراطي»، على القوات المسلحة وقوات الدعم السريع مسؤولية وقف الحرب فورا، لكن ليس عليهما تحديد مصير ومستقبل السودان أو رسم ملامحه، فذلك يتأتى بعمل كل القوى السياسية والمدنية الثورية للوصول إلى مشروع وطني يحقق أهداف الثورة ويعيد السودان إلى جادة التحول المدني الديمقراطي، مع تجنب كل أخطاء الماضي.

يمكن أن يحدث

سيناريو تقسيم السودان وارد، لكنه لن يكون بين السودانيين فقط، وقد تضطر بعض دول الجوار القريب للتراجع من فكرة رفض التدخل الخارجي، الذي أجمعت عليه لتقديرات تخصها، بل قد تصبح هي نفسها جزءًا من ذلك التدخل المباشر، الحفاظ على وحدة السودان ووحدة وأمن بعض دول الجوار القريب وأمن البحر الأحمر يتطلب وقف الحرب فورًا، فمع الواقع الميداني للقوات المتصارعة، وما يشبه حالة فقدان السيطرة، ونذر تمدد الحرب لمناطق لم تصلها بعد، ومع استمرار الدعوة لمواصلة الحرب، والهجمات العرقية – خصوصًا في غرب السودان- وهشاشة اﻷوضاع في شرقه أيضًا، وحالة التحفز في وسط السودان وشماله، تصبح كل الاحتمالات مفتوحة، بما في ذلك مد جسور الإمدادات البشرية والمهمات العسكرية، وتحول المنطقة من تخوم البحر الأحمر إلى وسط أفريقيا إلى منطقة عمليات حربية، ودخول عناصر ﻷخرى من خارج دائرة الصراع الحالي، محلية وخارجية.

في تسجيل صوتي منسوب لقائد ميليشيا الدعم السريع، بث مساء الخميس 15 سبتمبر/أيلول الجاري عبر منصة إكس/تويتر، حذر حميدتي من تشكيل حكومة في شرق السودان، وقال: «إذا تم تشكيل حكومة في شرق السودان سنشرع في تكوين سلطة حقيقية في مناطق سيطرتنا وستكون العاصمة الخرطوم»، وأشار إلى أن قواته ستبدأ مشاورات لتشكيل ما سماه سلطة مدنية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، وقال: «صبرنا كثيرًا على قرارات البرهان المنفردة برغم عدم شرعيته ولذلك لن نسمح لكائن من كان التحدث باسم السودان وادعاء الشرعية، وحال استمر هذا الوضع أو قام الفلول بتشكيل حكومة في بورتسودان سنشرع فورًا في مشاورات واسعة لتشكيل سلطة حقيقية في مناطق سيطرتنا، الممتدة تكون عاصمتها الخرطوم ولن نسمح بخلق عاصمة بديلة»، وأكد: «نستطيع السيطرة علي بورتسودان اليوم إذا أردنا»، ولحق كل ذلك معارك عنيفة انطلقت صباح الجمعة للسيطرة على مقر القيادة العامة للجيش السوداني، مما يعني أن أمر إعلان الحكومة أصبح ميدانًا للسباق الجديد بأدوات عسكرية بلا شك، وسط القلق الدولي من تزايد أعداد الضحايا المدنيين.

القصة لم تروَ بعد

رغم استخدام المتنوع والمتطور من الأسلحة الهجومية والدفاعية، وحدوث فظاعات كثيرة في حرب السودان، باتت عملية نشر الأخبار الكاذبة متنامية بشكل ملحوظ أكثر من أي وقت مضى ومع الأجواء الراهنة لم يعد التحقق ممكنًا، لكن استمرار الحال ميدانيًا كما هو عليه لخمسة أشهر يؤكد أن هناك نوعًا من توازن الضعف تحاول الحملات التضليلية من الطرفين أن تخفيه، ويظل التوثيق جزءًا من أدوات الكشف وهو سبب آخر لاستهداف الثوار الذين يقومون بهذه المهمة، وهو أيضًا ما يؤكد أن القصة الحقيقية للحرب في السودان لم ترو بعد، لكن سيظل الإضرار بالناس، إحدى الكبائر، مهما كانت الذرائع، الشاهد أنه على الجميع الإقرار بتخلف جبهة القول عن جبهة الفعل، وهذا ما يشكل إحدى أهم نقاط الضعف لدى القوى المدنية عمومًا، والإعلامية خصوصًا.

يرى كثير من السودانيين أن من المفارقات أن يتشدق قادة الحرب بعبارات مثل (الديمقراطية، وأهداف الثورة، والعزة والكرامة الوطنية)، فهم إضافة إلى تاريخهم المحتشد بالإجرام في حق الثورة والشعب السوداني، وانقلابهم على كل تلك المعاني، خاضوا هذه الحرب بكثير من «عدم المسؤولية»، وفقدوا معها الأهلية والشرعية وسقطوا بكل المقاييس الأخلاقية، هم ومن حالفهم في أي طرف كان، ويحق للشعب السوداني أن يسأل: هل هذه معارك من أجل الديمقراطية؟ أو سيادة الدولة؟ وهل هي ضرورة حتمية في مصلحة الشعب؟ وذلك لأن واقع الحال أثبت أنها حرب إفقار بجدارة، حملت نذر مآلات التهجير والتغيير الديموغرافي أيضًا.. وفرض واقع فوق إرادة الدولة كما هي الحال في دارفور منذ عقدين كاملين حيث يكابد قاطنو مناطق الحرب مجهودًا يوميًا ليظلوا على قيد الحياة، ويحافظوا على إنسانيتهم في وجه الإحساس بالقهر وبالغبن والحرمان من الحق في الحياة الآمنة.