أربع رصاصات استقرت في جسد حسين نجادي، العثور على جثة «كيفين موريس» موضوعةً داخل برميل إسمنتي: حادثتان لا يشير أي منهما لوجود قاتل متسلسل، الأول مصرفي مؤسس في AMBank أهم بنوك ماليزيا، والثاني نائب المدعي العام الماليزي.

لا رابط بين الجريمتين، الأولى في قلب العاصمة كوالالمبور والثانية خارجها، الأولى تمت في 29 يوليو/ تموز 2013، والثانية بعدها بعامين في سبتمبر/ أيلول عام 2015، لم تستطع التحقيقات حينها أن تجد رابطًا بين مسرحي الجريمة.

لكن إذا أخذنا طائرةً وارتفعنا فوق مسرحي الجريمة لنشاهد الحادثتين من الأعلى، سنجد الرابط. الرابط هو سؤال طرحه الرجلان دون أن يعرفا أن اغتيالهما أهون من الوصول إلى إجابته. نجادي بدأ في الحديث مع دائرة علاقاته أنّه يشك في أن ثمة شيئًا مريبًا حول الصندوق السيادي الماليزي «1MDB»، لكن لم يُتح له الوقت لإثبات رأيه. موريس هو الآخر أُوكلت له مهمة واحدة، التحريات حول نفس الصندوق. كتب موريس مذكرة اتهام واضحة ضد اليد العليا المتلاعبة بالصندوق، لكن سرعان ما أحيل النائب العام للتقاعد، ونُفي موريس إلى قبره في ظروف اختقاء غامضة.

الطائرة التي نحن على متنها الآن طائرة خاصة يمتلكها الملياردير «بيتر سونداك»، هبطت في مطار العاصمة لتُقل راكبًا مميزًا خسر لتوه انتخابات رئاسة الوزراء الماليزية. عبر الحصول على تسريب جدول ومواعيد الطيران، استطاعت السلطات أن تربط بين وجود الطائرة وهروب «نجيب رزّاق» نظرًا للصداقة القوية بين الملياردير ورئيس الوزراء السابق، مُنع نجيب وزوجته من مغادرة منزلهما فأقعلت الطائرة بدونهما.

مرشح انتخابي خاسر في ليلة هزيمته، إما أن يعترف بالفوز لخصمه ويهنئه بروح رياضية مصطنعة، أو يشكك في نتائج الانتخابات ويتوعد باللجوء إلى القضاء أو الشارع، لكن نجيب وضع اختيارًا جديدًا، الهروب فورًا خارج البلاد. لا بد إذن أن هناك شيئًا شديد السوء يخفيه نجيب.

جريمة نجيب أنه مرتبط بمسرحي الجريمة على الأرض، وأن الطائرة كانت هنا لتُقل القاتل واليد العليا المتلاعبة بصندوق السيادة الماليزي «1MDB».

قبل أيام، أطلقت فضائية الجزيرة بالتعاون مع One World لخدمات المعلومات وثائقيًا كشف حقيقة عملية الاحتيال المالي التي حدثت للصندوق السيادي الماليزي فيما وصف بأكبر عملية احتيال مالي في العالم، ويتقصّى الوثائقي الشبكات المتورطة في عملية الاحتيال في كل من أمريكا وسويسرا وسنغافورة وبعض الشخصيات العربية في عمليات غسيل وتهريب أموال تجاوزت 20 مليار دولار.

الحلم يتحول إلى كابوس

تحت شعار الرقم 1 بدأ نجيب فترته الأولى في رئاسة الوزراء عام 2009، الرقم 1 كان إشارة لبرنامجه حول إعادة ماليزيا موحدةً ورائدةً. لتحقيق رؤيته، أنشأ صندوقًا ماليًا ضخمًا يكون تحت تصرفه بالكامل للهرب من الروتين الحكومي. ماليزيا كانت قويةً بالفعل قبل نجيب، صاحبة معدل نمو مرتفع، ويعيش مواطنوها حياةً كريمةً. لم يختاروا نجيب ليخرجهم من الظلمات إلى النور، هم بالفعل كانوا في النور، إنما أرادوا مزيدًا من النور والنمو. تلاقت رغبة الشعب مع وعود نجيب وصدّقوه بناءً على إرث وجوده في حزب «المنظمة القومية الملاوية المتحدة» التي تقود البلاد منذ خمسين عامًا، وعلى إرث أبيه «نجيب عبد الرزاق» الذي ساهم في استقلال البلاد منذ ما يربو على 6 عقود.

بعد 4 أشهر من الوصول للحكم، أعلن عن صندوقٍ جديد هو تجسيد ذلك الحلم والضامن المالي لتنفيذه. أمواله ستأتي من القروض الخارجية، والحكومة ووزارة المالية سيكونان الرقيب عليه. شهادة ميلاد الصندوق خُتمت من الإمارات، وأعلن نجيب عن الصندوق من هناك. خطوة لا يمكن فهمها إلا بالعودة بالزمن والمكان بضع سنين للوراء إلى لندن.

مدرسة هارو الداخلية في لندن كانت الحاضنة لعلاقة صداقة كادت أن تُلقي بماليزيا إلى بحر الظلمات. «جو لو» تعرف إلى رضا عزيز، ابن روزما منصور زوجة أحد الوزراء في حكومة مهاتير محمد آنذاك الوزير نجيب رزّاق. احتفظ «لو» بصداقة رضا في جعبته، وبدأ يكون شبكةً أوسع أثناء دراسته للاقتصاد في جامعة «وارتون» مقصد أبناء الأسر الثرية في المجتمع الغربي وأبناء الأسر الحاكمة في المجتمع العربي. شبكة العلاقات الناشئة كانت مغريةً إلى حد تعليق الدراسة لمدة عام والذهاب في جولة إلى بلدان الشرق الأوسط.

 

دخل «لو» الشرق الأوسط من أغنى أبوابه، الإمارات. فتح له الباب «يوسف العتيبة» أقرب رجل إلى «محمد بن زايد» ولي عهد أبو ظبي. أخرج لُو علاقته مع رضا عزيز مع جيبه ووضعها على طاولة حديثه مع العتيبة. خرج لُو من الإمارات حاملًا العتيبة إلى جانب رضا عزيز، وبجانبهما رجل أعمال أردني يُدعى شاهر الورتاني، صديق ومساعد العتيبة. ثم عاد إليها حاملًا نجيب رزّاق ومولده الأول صندوق «1MDB». منذ تلك اللحظة، لم يترك لُو الصندوق رغم عدم وجود صفةٍ رسمية له، أعطاه نجيب التحكم الكامل والمطلق في الصندوق.

خاشقجي يلتقي نجيب

نجيب رزاق جمال خاشقجي
مقابلة الصحفي السعودي الراحل «جمال خاشقجي» مع «نجيب رزاق»

الجرعة الغذائية الأولى التي تلقاها الصندوق الوليد كانت مليار دولار من شركة «بترو سعودي»، أنشأها «طارق عُبيد» و شارك الأمير تركي بن عبد الله في تأسيسها، لكنّها شركة بلا أصول ولا أملاك، تمامًا مثل السيرة الذاتية لمؤسسها طارق عُبيد. لفهم لماذا كانت السعودية هي أول من يبادر، علينا أن نرافق الصحافي «جمال خاشقجي» في رحلة إلى كوالالمبور. اصطاد طارق وأخوه الأصغر نواف عُبيد رئيس الوزراء نجيب رزّاق عبر مصيدة خاشقجي. رسائل البريد الإلكتروني المُسربة من قاعدة بيانات بتروسعودي تؤكد ذلك وتوضح كيف نصب لُو بمساعدة الأخوين شباكهما.

نجيب كان يريد بشدة أن يتصادق مع الخليج، و لُو كان يعرف أن الثروة التي يريدها تستقر في الخليج. البداية بتحويل بنكي بقيمة 300 مليون دولار من الصندوق لصالح شركة بتروسعودي. بعد شهر من هذا التحويل، أرسل طارق عٌبيد رسالة إلى جمال خاشقجي المُشار إليه في الرسائل بـ «Uncle J» يطلب منه نشر بيان تضامن من نجيب مع المملكة ضد هجمات الحوثيين، كان ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2009، ثم بعد شهر بدأ الأخوان بمساعدة في ترتيب زيارة لخاشقجي لمقابلة نجيب.

تُظهر إحدى الوثائق رسالةً من طارق إلى أخيه تحوي السيرة الذاتية لخاشقجي، وبيانًا لمكانته المرموقة في السعودية. أوصل نواف الرسالة إلى «وان شهاب» سكرتير نجيب رزّاق. وفي نفس اليوم، أرسل طارق رسالةً لصديقه في البنك السعودي الفرنسي يطلب منه تحويل 100 ألف دولار لحساب جمال خاشقجي.

طارق عبيد جمال خاشقجي
 

حتى الآن تبدو لعبةً من طارق ونواف لتلميع نجيب من أجل كسب رضاه. لكنّ رسالةً أخرى أظهرت أن «جو لو» كان حاضرًا بقوة في اللعبة. إذا أرسل كلٌ من الأخوين رسائل إلى «جو لو» بخطتهما منذ البداية، كما أرسلا له الأسئلة التي طُلب من خاشقجي سؤالها لنجيب. صداقة لو والأخوين عُبيد ساهمت في اختلاس المليار الأول. فبجانب التحويلات التي تمت، قام جو لُو بتسجيل دين غير حقيقي لصالح بتروسعودي على الصندوق، لتطالب به الشركة وتحصل عليه لاحقًا، كما اشترى الصندوق أصول بتروسعودي في فنزويلا بمبلغ يفوق أضعاف قيمتها الحقيقية، ثم تمت عملية بيع وهمي لهذه الأصول ليظهر للعامة أن الصندوق حقق أرباحًا بقيمة 200 مليون دولار.

طارق عبيد
 

جني الثمار

هكذا كوّن «جو لو» فريقه المثالي، أسماء برّاقة تملك الثورة لتدفع والسلطة لتحمي، سنوات من التخطيط انتهت وبدأت 7 سنوات ستشهد عملية الاختلاس الأكبر في التاريخ. القاسم المشترك هو التحويلات البنكية المعقدة التي لا يمكن تتبعها، لينتهي الأمر بالأموال إما في ملاذ آمن ضريبيًا وقانونيًا، أو تعود إلى المصدر الرئيسي بعد غسلها وجعلها شرعيةً، واشترى «جو لو» لنفسه طائرة خاصة بقيمة 35 مليون دولار حتى يتنقل بين تلك الملاذات بحُرية.

أول قطرات أمطار الاختلاس الحامضية كانت عبر تحويل 300 مليون دولار من أموال الصندوق إلى حساب شركة «جود ستار»، ومن ثم أرسل «جو لو» 85 مليونًا منهم إلى حساب طارق عبيد. بدوره أرسل طارق 77 مليونًا منهم إلى شريكه الأمير تركي. النصيب الأكبر أُرسل إلى شركة «ADKMIC» المستقرة في سنغافورة. 389 مليون دولار استقروا في حساب الشركة، ما يعني وصولهم إلى حساب يوسف العتيبة الشريك الرئيسي فيها. ملايين أخرى ذهبت لحساب نجيب رزّاق على هيئة عقارات في ولايات أمريكية مختلفة اشتراها له «جو لو».

كما حوّلت زوجته روزما ملايين الدولارات من صورتها الورقية إلى صورة أشد لمعانًا، الألماس، 12 ألف قطعة مجوهرات وجدتها الشرطة في بيت نجيب عند القبض عليه، ولم ينس نجيب عشقه للساعات، 400 ساعة من ماركة «رولكس» العالمية، وربع مليار دولار نقدًا تم إخراجهم من منزله.

بدأت بالونة «جو لو» تنتفخ أكثر فأكثر، يتمدد رصيده المالي ويتضخم إعجابه بنفسه، غير مدرك أن تسليط هذا الكم من الأضواء عليه سيؤدي إلى انفجاره في النهاية. «جولدمان ساكس» البنك الأكبر في العالم، وكشّاف الضوء الأكبر الذي وضع لُو نفسه تحته. في جولدمان انضم لاعب جديد للفريق، تِم ليسنر، مدير تنفيذي طموح حصل للبنك على صفقة مذهلة بفائدة 11%، رغم أن الطبيعي هو فائدة تصل إلى 1.3% فقط. وحصل لنفسه على 10 ملايين دولار علاوةً من البنك على هذه الصفقة التاريخية.

 كالعادة حمل لو ليسنر في جعبته وطار به إلى أبو ظبي، هناك اُستخدم ليسنر كطعم لـ «منصور بن زايد»، رئيس شركة «الاستثمارات البترولية الدولية /آيبك»، وشركة آبار للاستثمار. ضمن لُو من تلك الزيارة 3.5 مليار دولار كسندات للصندوق. اختفى منصور بن زايد ليظهر اسمان آخران، خادم القيبسي ومحمد الحسيني.

مديرا بنك فالكون التابع لشركة آبار، والبئر الجديد الذي ستنبع منه أموال هائلة. 3.5 مليار دولار تم وضعهم في حساب الصندوق، حُوّل منهم 1.3 مليار دولار إلى حساب شركة تُدعى «آبار للاستثمار المحدود»، اسمٌ يوحي بتعيّتها لشركة آبار الأم، لكن تقارير وزارة العدل الأمريكية أثبتت أنها شركة احتيالية أنشأها الحسيني والقبيسي قبل عملية التحويل بشهرين فحسب.

لم يتعلم الدرس

من حيث لا يدري نجيب بدأ البساط ينسحب من تحت قدميه، اللحظة الأولى التي أدرك فيها ذلك كانت عام 2013 في الانتخابات الوطنية حين أوشك منافسه أنور إبراهيم على الفوز بالانتخابات. أنور وعد بإغلاق الثقب الأسود المعروف بصندوق «1MDB»، وفتح تحقيق جاد حوله، لذا استجمع نجيب كل قواه وعلم أنّه إما الفوز أو السجن. لجأ إلى صديقه الوفي جو لُو وطلبا من جولدمان ساكس 3 مليارات دولار جديدة. بعد فترة وجيزة حصلا على القرض، وانتعشت حملة نجيب الانتخابية. لم يفز بالتصويت الشعبي، لكن حزبه فاز بأغلبية مقاعد البرلمان. فشكل حكومة أغلبية جعل نفسه رئيسها، ونجا من السجن مؤقتًا.

 لكن 1.3 مليار من تلك المليارات الثلاثة لم يستقر في حساب الصندوق أكثر من بضعة أيام، ليتم تحويله لشركة تانور التي تتبع جون لو في جزر العذراء البريطانية، ثم تم تحويل ما قيمته 681 مليون دولار من حساب تانور لحساب سري يتبع نجيب رزّاق مباشرةً في «AMBank». هذا المبلغ أثار بلبلةً حين تم الكشف عنه، ما استدعى تدخل رفيقٍ لم يكن ليظهر في الصورة أبدًا، عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي. الجبير صرّح بأن التحويل تم عن طريق المملكة السعودية كتبرع سخي وكريم لنجيب، وأنه لا شبهة جنائية فيه، لكن التحقيقات أثبتت أن التحويل تم من جزر المملكة الممتحدة لا من صحاري المملكة السعودية.

 

اقترب نجيب من الانهيار، حاول الملك سلمان ضخ استثمارات في الداخل الماليزي من أجل مناصرة نجيب، والتقى ترامب مع نجيب ووصف علاقتهما بالإستراتيجية. محاولات عدة لمنح حكومة نجيب قبلة حياة يحتاجها بيأس، لكن لم تفلح أي من المحاولات، الوقوف على آخر شبر قبل الهاوية لم يُعلّمه التراجع أو التريث.

بل على النقيض تمامًا، شدّد قبضته الأمنية، فاجتمع الفقر والقمع والشك. غرق في صراعه السياسي، أطلق يد الشرطة، اعتقل أنور إبراهيم، وأعفى كل مسئول طالب بتحقيقٍ من منصبه، وانشغل رفيقه لُو بمحاولة الحصول على مليار جديد من بنك «دويتش»الألماني. بنفس الخدعة القديمة تم إنشاء شركتي «آبار بي في آي» و «آبار إس واي»، ليتم تحويل المليار الجديد لهما. تم لكليهما ما أرادا، القمع والمليار، لكن كان المليار الجديد هو دفقة الهواء الأخيرة التي قادت البالون الضخم للانفجار.

رجل غاضب يكفي

أدرك الماليزيون أن هناك شيئًا خاطئًا حين رأوا النور يخفت، والظلمات التي ودّعوها على يد مهاتير محمد بعد الاستقلال تلاحقهم من جديد. يتدحرجون من قمة منحنى النمو الصاعد ومؤشرات التعليم والصحة المرتفعة إلى قاع المنحنى، وتحول الصندوق من الاستثمار إلى المديونية، فأصبح مدينًا بـ7 مليار دولار دون تفسير واضح لكيف حدث هذا، ولا حتى كيف سيسدد الصندوق ديونه. تساؤلات مشروعة لكنّ الرجل القوي نجيب رزّاق حال دون أن تُطرح تلك الأسئلة أبدًا، وجثة حسين نجادي وكيفين موريس يخبرانك كيف يمنع نجيب ذلك النوع من الأسئلة.

 لكن رجلًا واحدًا كان يعلم السبب وراء ما يمر به الماليزيون، وغالبًا ما يكفي رجل غاضب واحد ليجبر كل من في الغرفة على التساؤل والسعي نحو كشف الحقيقة كما في فيلم «12 رجلًا غاضبًا/ 12 Angry men».  الرجل الغاضب في قصتنا هو «خافيير خوستو»، مدير تنفيذي في شركة بتروسعودي. خوستو كان يدير الشركة من شقة فاخرة في لندن براتب ضخم برفقة صديقه القديم طارق عُبيد، لكن استيقظ خوستو يومًا ليجد نفسه مطالبًا بدفع إيجار الشقة التي يسكنها بعد أن كانت منحةً من طارق، كما انحدر راتبه للنصف، وجفاه طارق.

كان خوستو يعلم أن شيئًا مشبوهًا يدور، وأنه شريك فيه. وحين فقد طارق عُبيد حذره وبدأ في إظهار ملايينه، عاد إليه خوستو مطالبًا بنصيبه من الكعك. رفض طارق طلبه، لذا قرر خوستور الفرار إلى تايلاند، لكن أولًا حصل على 90 جيجا بايت من الأدلة والوثائق عبر مسئول التقنية في الشركة.  

تقاطعت طرق خوستو مع الصحفية كلير براون عام 2015، تواصلت كلير مع خوستو ورأت ما معه من وثائق. رغم نفيه في تصريحاته أنه حاول بيع تلك الوثائق لها، إلا أن الصحفية ذكرت أنه طلب منها 2 مليون دولار مقابل إعطائها ما لديه كاملًا. حاولت كلير ترتيب لقاء مع مهاتير محمد لتعرض عليه شراء تلك الوثائق. بمساعدة داخلية، استطاعت دخول ماليزيا رغم قرار منعها من الدخول، لكن حين تواصلت مع مهاتير أخبرها بأنه رجل الحزب، وما لديها من وثائق سيحدث انشقاقًا داخليًا قد يضر بالحزب.

كانت صحيفة «ذا إيدج» تخوض صامتةً تحقيقها الخاص حول الصندوق، لتمنحهم كلير المسمار الأخير في نعش نجيب بعرضها وثائق خوستو عليهم. قبلت الصحيفة الصفقة وبدأ كلير وخوستو والجريدة في كتابة تقاريرهم، لكن القبض على خوستو وإيداعه لثمانية عشر شهرًا في سجون تايلاند وقف عائقًا أمام تحويل المبلغ المتفق عليه.

«دي كابريو شريك»

ذكر هوليود ليس استدعاءً من أجل التشبيه فحسب، بل استدعاء للشهادة وطلبًا لرد ما أخذته من أموال الماليزيين، فنوادي القمار والملاهي الليلية في لاس فيجاس دفع جو لو أكثر من 85 مليون دولار من رصيد شركة «جود ستار». لم تثبت تقارير وزارة العدل الأمريكية إذا ما كانت هذه الملايين مدفوعةً ضمن ألعاب وسهرات حقيقية أو مجرد خدعة لغسيل الأموال، لكن الحقيقة الثابتة أنها أموال الشعب الماليزي لا أموال «جود ستار».

بدأ الأمر بلقاء ودي بين جو لو و«ليوناردو دي كابريو» واتفاق مبدئي على إنتاج الأفلام، وإهدائه لوحة فنية بقيمة 4 ملايين دولار، و21 زجاجة كريستالية أُهديت إلى لينسي لوهان، وإنفاق 1.8 مليون دولار على الشامبانيا في حفل استضاف فيه باريس هيلتون، ومجوهرات بقيمة 9 ملايين دولار أُهديت لميرندا كير، كما أن القيبسي أنشأ ملهى ليليًا خاصًا به في لاس فيجاس بتكلفة 10 مليون دولار من أصل 400 مليون دولار أكلهم منفردًا من كعكة الصفقة مع جولدمان ساكس.

جو لُو محتال، لكن لا ينسى أصدقاءه. بالتأكيد لا يمكن إهمال رضا عزيز، بوابة جو لو الأولى والأهم لهذا العالم الذي تمطر فيه السماء أموالًا، ساعده لو في أن يحيا الحلم الهوليودي. أنشأ رضا عزيز شركة «ريد جرانيت/ Red granite» عام 2010، صرّح رضا فيما بعد أن الممول الرئيسي للشركة هو محمد الحُسيني. أنتجت الشركة عدة أفلام اُشتهر منها «Dumb and Dumber».

قد لا تكون شاهدت هذا الفيلم أو سمعت عنه، لكنك بالتأكيد سمعت عن فيلم «Wolf of wall street» بطولة ليوناردو دي كابريو. الفيلم أُنتج بتكلفة 100 مليون دولار من أموال رضا الآتية من أموال الحُسيني، التي هي أموال الصندوق في الأصل. حقق الفيلم نجاحًا ساحقًا بإيرادات بلغت 400 مليون دولار، لم يعد دولار واحد منهم إلى الصندوق. بجانب هذه الفضيحة، توجد ملحوظة أخرى، الفيلم يحكي قصة رجل تلاعب بسوق الأسهم، وحين اكتشفت السلطات حقيقته قام بعمليات ضخمة من أجل إخفاء تلاعبه وغسيل أمواله، كأنما يحكي قصة «1MDB».

ماليزيا تتجنب الديكتاتورية

ليلة صاخبة تضج فيها ماليزيا احتفالًا بفوز مهاتير محمد بالانتخابات الوطنية، أقلعت الطائرة الخاصة بدون نجيب ليبقى مسجونًا في بيته حتى صدور الأمر الرسمي ضده، وبقي جو لو خارجًا يحاول النجاة بنفسه، فأرسل إلى العتيبة ينصحه بإغلاق حسابه المصرفي الذي اعتاد تلقي تحويلات الصندوق عليه، أو يتوقفان عن التواصل المكتوب أو الهاتفي، وأن يكون التواصل وجهًا لوجه فحسب، فرد العتيبة يؤكد أن ذلك قد حدث بالفعل.

تتابعت البيانات، آيبك نفت أي علاقة لها بالشركات الوهمية التي تحمل اسم آبار. البيان الأهم كان من نصيب المدعي العام الأمريكية في يوليو/ تموز 2016، أعلنت المدعي أن الحكومة الأمريكية صادرت 1.7 مليار دولار من الأصول، كما قامت وزارة العدل بدعوى لتسمية كل الأسماء الواردة سابقًا كمتهمين أساسيين في القضية.

العتيبة لم يُعلق ولم ينفِ، الحُسيني انقطعت أخباره وقيل إنه تحت الإقامة الجبرية في أبو ظبي، أما القبيسي فقد اُحتجز في السجون الإماراتية لكنه يرى نفسه كبش فداء لما فعلته الإمارات، ومنصور بن زايد تشير أصابع الاتهام إليه لكن بصورة مرتعشة، فلا وجود لأي أدلة تربط منصور بما قام به خادم القبيسي، لكن كلير براون تُصر أن منصور متورط، دليلها عقدٌ من الألماس قيمته 27 مليون دولار كانت ترتديه روزما زوجة نجيب، وصرّح نجيب في 2011 أنه هدية من الشيخ منصور بن زايد.

أما الأمير السعودي تركي بن عبد الله، فاختفت أخباره منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2018 بعد فترة من احتجازه في فندق الريتز كارلتون، لكن تم القبض على نجيب في يوليو/ تموز 2018 بتهمة إساءة استغلال النفوذ. قُبض عليه بتهمةٍ واحدة، لكنه يحاكم حاليًا على 25 تهمة أخرى بعقوبةٍ إجمالية قد تصل للسجن مدى الحياة، كما تبعته زوجته بعد شهرين إلى السجن بتهمة الفساد والرشوة لتواجه نفس العقوبة.

اللذان استطاعا الفرار هما طارق عبيد، يحيى في جنيف. أما جو لو فمكانه غير معلوم، إلا أنه يتوقع أن يكون بين تايلاند أو الصين؛ إذ إنهما الدولتان الوحيدتان اللتان لم يتورط معهما في الاحتيال المالي، وسلطاتهما لا تضعانه في قائمة مطلوبيها. كما أفشلت التسريبات اتفاقًا له مع «إيلي برودي»، الممول الأكبر لحملة ترامب، يدفع بموجبه 75 مليون دولار مقابل أن يُبرئ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ساحته من التهم المنسوبة إليه.

بدأت بعض الأموال تعود للصندوق الماليزي، مشاهير هوليود أعادوا هداياهم، شركة «ريد جرانيت» دفعت 60 مليون دولار للحكومة الأمريكية، تِم ليسنر دفع غراماتٍ بقيمة 44 مليون دولار، ويواجه عقوبة 10 سنوات في السجن بجانب الإقصاء من العمل مدى الحياة.

لكن المكسب الأهم هو خضوع نجيب رزّاق للمحاكمة، وخروج ماليزيا من تحت قبضته. صحيح أنها لن تتعافى سريعًا من آثار تلك العملية الضخمة، لكن على الأقل نزيف أموالها توقف، وأفلتت من مصير الرضوخ تحت حكم قمعي أوشك أن يصير ديكتاتوريةً لا تنتهي.