لم يكن «Lost» مثل غيره من المسلسلات على الإطلاق، فحتى قبل صناعة المسلسل وهو يمر بظروف استثنائية، فلم تأتِ فكرته من إبداع كاتب أو مؤلف، بل مرّ عليه أكثر من مؤلف بمهمة تطوير القصة، وانتهى به الأمر قائدًا لثورة الإنترنت، وراعيًا لمواقع التواصل الاجتماعي، ثم ضحية لسيطرة المنتجين، حتى حصد عديد الجوائز وحقق شهرة واسعة، جعلته من بين مفضلات الجمهور وصفوة المسلسلات الناجحة، وأكثرها مشاهدة على الشاشة.

رحلة المسلسل إلى الظهور

بعد إحدى الرحلات الجوية للإجازة في هاواي مع عائلته، قرّر Lloyd Braun رئيس شبكة ABC في 2003، تنفيذ فكرة داعبت مخيلته أثناء الرحلة، ماذا لو سقطت الطائرة على جزيرة مهجورة؟ وكيف يمكنهم النجاة والتكيف؟ لتكون مزيجًا بين فيلم Cast Away ومسلسل تليفزيون الواقع الشهير Survivor.

لتكون الفكرة الرئيسية على لسانه، كما كتب الصحفي «ألان سيبينوال» في الفصل الخاص بمسلسل Lost في كتابه The Revolution Was Televised:

ماذا لو سقطت طائرة ونجا عشرات الأشخاص من الغرباء ولا تربطهم أي علاقة، وأصبح ماضيك تقريبًا كأن لم يكن؟ يمكنك إعادة اكتشاف ذاتك، فقط عليك معرفة كيف تنجو وماذا تستخدم للمأوى والمياه، وكيف نخرج من الجزيرة ونصل إلى المنزل؟ كنت متحمسًا جدًا للفكرة، وفكرت في العنوان Lost.

وبالفعل عاد من الرحلة وبدأ العمل على المسلسل، وقام بتعيين Jeffrey Lieber لكتابته، لكنه لم يُعجَب بالعمل ولم يرقَ لتوقعاته، مما أدى في النهاية لإنهاء خدمات الكاتب. حينها تمت الاستعانة بـ J.J. Abrams، مؤلف مسلسل Alias الناجح على نفس الشبكة.

واجه فريق العمل صعوبات بالغة، بالأساس بسبب ضيق الوقت وانشغال بعضهم، حيث اقترح بعض المشاركين في الإنتاج تأجيل المسلسل للعام التالي، لكن على أي حال بدأ التفكير في كيفية كتابة حلقة أولى أو pilot تنجح في جذب الجمهور، وضمان مستقبل المسلسل، الذي حتى الآن لم يؤمن أحد بنجاحه أبدًا، ولم يكن هناك وقت حتى لكتابة سيناريو كامل، أمّا في اختيار الأبطال، فبسبب تأخر الإنتاج، كانت معظم الأوجه المعروفة قد تعاقدت بالفعل مع أعمال أخرى، وتم الاعتماد بشكل كبير على أوجه جديدة.

وخرجت الحلقة الأولى بتكلفة قياسية بلغت 14 مليون دولار، في سابقة ومقامرة لم تحدث من قبل، يُعتقد أن ذلك تسبّب في إقالة رئيس الشبكة وصاحب الفكرة من منصبه، ولكن كاعتراف بالجميل، تمت دعوته من المؤلفين ليكون صاحب المقولة الافتتاحية في كل حلقة، بدون علم المنتجين أو الشبكة لسنوات:

Previously, on Lost

ثورة الإنترنت

مع خروج Lost للنور في 2004، لم يكن الإنترنت والتواصل الاجتماعي بهذا الشكل، بل كان فيسبوك في بداياته وتويتر ويوتيوب لم يظهرا بعد. لم يلقِ الجمهور بالًا للمناقشات أو الحوارات على الإنترنت، فلم يكن هناك ما يستدعي ذلك، حتى جاء Lost وتغير الوضع.

يقول «كارلتون كيوز» أحد مؤلفي المسلسل:

ما لم يكن بإمكاننا توقعه أبدًا، هو أن وقت عرض المسلسل سيكون كذلك مع بداية ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، لم يكن هذا في الحسبان، فبينما كنا نقدم مسلسلًا مثاليًا للمناقشة والنظريات لأول مرة، كان الإنترنت يتطور إلى منصة يُشكِّل الناس فيها مجتمعات خاصة، حيث يمكنهم القيام بالمناقشات وتبادل الآراء.

تابع المسلسل أعداد ضخمة، أخذوا على عاتقهم محاولة التنبؤ بالأحداث القادمة، أو تقديم نظريات واحتمالات، على غرف النقاشات أو Irc channels، ومنتديات للنقاشات وتبادل الآراء، وتم تكوين موسوعة خاصة بالمسلسل Lostpedia، وحتى لعبة افتراضية يتم فيها عرض سيناريوهات خيالية وألغاز، ليتفاعل الجمهور معها.

لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد قرر المنتجون مشاركة حماس الجمهور، وتم تأسيس أول بودكاست خاص بعمل تليفزيوني، خلال الموسم الثاني في 2005، ولم يقتصر الأمر على تفاعل المعجبين مع الحلقات الأسبوعية، حيث تمكنوا من التكهن بألغاز المسلسل، بل ظهر كاتبا المسلسل «ديمون ليندلوف» و«كارلتون كيوز» بانتظام، مما ساعد في توجيه المشاهدين في هذه الرحلة من خلال منحهم حكايات من وراء الكواليس، وإثارة التوقعات عن الحلقات القادمة والإجابة على أسئلة المعجبين.

يصفه الكاتب «ألان سيبينوال»:

لم يبتكر المسلسل فن نقاشات الإنترنت، لكنه قد يكون منْ أتقن هذا الفن.

نهاية عصر المواسم الطويلة

حتى فترة قريبة، كانت كل المسلسلات الناجحة والمشهورة تقدم ما بين 20 و24 حلقة بالموسم الواحد، خلال فترة تحكم الشبكات التليفزيونية الكبرى، فقد احتاجت هذه الشبكات لأعداد كبيرة من الحلقات، حتى يستمر المسلسل طوال موسم التليفزيون، الذي امتد لـ 9 أشهر تقريبًا كل عام، فكان تركيزهم في المحافظة على المشتركين في القناة، وزيادة وقت الإعلانات على المسلسلات الناجحة، وهو الأمر الذي توفره الحلقات العديدة، فهم لا يهتمون بالتقييمات أو الشهرة، الأهم الإعلانات وعدد المشاهدين. وبالطبع فإن توفر مواسم طويلة يعتبر استثمارًا آمنًا في الأعمال الشهيرة، بدلًا من المغامرة بمسلسل جدي كل فترة.

لكن مع صعود منافسين جدد مثل HBO وAMC وTNT وFX وSTARZ، ومن بعدهم نتفليكس، بدأ الوضع في التغير، حيث اعتمدت تلك الشبكات الصغيرة منهجًا جديدًا، قاموا فيه بجعل المواسم من 10 إلى 13 حلقة فقط، لأسباب مالية، فهم غير قادرين على تمويل هذا العدد الضخم من الحلقات، كما أرادوا الاهتمام بجودة العمل بشكل أفضل، فعدد حلقات أقل يعني اهتمامًا أكبر وأهمية لكل حلقة، ومن جانب آخر، يتيح لهم الموسم القصير الاستثمار في أكثر من عمل خلال العام، عوضًا عن مسلسل واحد فقط، لكن Lost كان من ضحايا النظام القديم، وربما سببًا في التخلي عنه تمامًا، وكسر شوكة تحكم المنتجين في الأعمال الدرامية.

إذا بحثت عن مثال لفشل نظام المواسم الطويلة، فـ Lost خير دليل على ذلك، كان يكفي أن يمتد المسلسل ل 4-5 مواسم على الأكثر، لكنه استمر لـ 6 مواسم كاملة، وعدد حلقات ضخم وصل إلى 119 حلقة، مما أفقده جزءًا كبيرًا من جودته وجاذبيته، وقدرته على الحفاظ على الإثارة والتشويق، ويمكن أن يكون هذا من الأسباب المشجعة للتخلي عن هذا النظام واندثاره.

مسلسل مميز بفكرة رائعة وإخراج مقتدر، مع تقدم المواسم تجد صنّاع المسلسل يفقدون السيطرة على الجوانب الفنية، فمن أجل إيجاد مواضيع وأحداث وشخصيات لمتوسط من 17 إلى 22 حلقة في الموسم، كان لزامًا فتح أكثر من جهة وإضافة أحداث لا علاقة لها بالقصة الأصلية، فيقابلهم عجز في سد احتياجات كل الشخصيات، أو إكمال حلقة أحداث معينة.

فمثلًا من بعد الموسم الأول، انتهى الاهتمام بنسبة ظهور الشخصيات على الشاشة، ولم يعد هناك مكان بالتدريج لتقسيم الأدوار، فترى شخصيات بلا أهمية دائمة الظهور على حساب شخصيات أخرى، اهتمام مبالغ فيه بخلفية كل بطل وقصته قبل الصعود على الطائرة، لحد يصل للملل الشديد.

وزاد وجود ما يسمى الـ Filler أو حلقات بها أحداث غير مهمة أو مؤثرة، وأحيانًا لا علاقة لها بالقصة الرئيسية، في الحلقة السابعة من الموسم الثاني، يتم عرض مصير مجموعة نزلت من الطائرة على الجانب الآخر من الجزيرة، لتكون نسخة طبق الأصل من أولى حلقات المسلسل، بنفس الترتيب والأفكار فقط ممثلين مختلفين، حتى الأحداث ذاتها مكررة ولا تضيف أي جديد.

وفي المواسم التالية، بدلًا من الكشف عن ألغاز جديدة، أو تسليط الضوء على شرح ماهية الجزيرة أو ساكنيها، يتم إعادة نفس نمط الـ Filler، وعرض الأحداث التي تلت عودة الأبطال للحياة بعد إنقاذهم، ليعاود الكرّة في التركيز على أحداث غير مهمة.

ومع الوقت انحرف عن فكرته الرئيسية، وأصبحت الجزيرة وما بها، مجرد لغز في الخلفية لا تخدمه الأحداث، بشكل مشابه لما حدث في مسلسلات Prison Break و13 Reasons Why وHouse of Cards وLa Casa de Papel، مسلسلات ناجحة ومميزة، فقدت الكثير من رونقها عندما تخلت عن منطقتها الآمنة، وقررت الخوض أكثر في جوانب غير مهمة للقصة، بسبب رغبة المنتجين في إطالة المسلسل قدر المستطاع، طالما ما زال يحقق أرباحًا، بغض النظر عن أي شيء آخر، وذلك كما يذكر «ديمون ليندلوف»:

كل ما يخص مستقبل المسلسل أو نهايته، كان يُقابل برغبة المنتجين في الإطالة، كان هناك معارضة هائلة في أي وقت أردنا تقديم أي إجابات للألغاز، وبدأت أنا وكارلتون (كيوز) نشعر بالاكتئاب الشديد، إلى درجة قولنا دعونا نتوقف عن الحديث عن كيفية إنهاء المسلسل، ولأنهم لن يدعوا ذلك يحدث، لذلك كنّا نحن على وشك المغادرة.

كانت النية في الأساس إنهاء المسلسل مع الموسم الثالث، لكن مع عناد شبكة ABC، استمر المسلسل وبدأ في التخبط، وبعد مفاوضات طويلة تم الاتفاق على نهاية المسلسل بعد 6 مواسم، بعد أن كان المنتجون مصرين على 8 مواسم.