في كتابه «في مدح الحب»[1] يرى الفيلسوف الفرنسي «آلان باديو» أنه يلزمنا التمييز بين الحب والسياسة لأنهما على طرفي نقيض، حيث الأول، ينتمي لسرمدية الزمن، والثانية، تنتمي للعابر والظرفي، الأول، مفعم بالحنان والحدب والشغف، بينما الثانية، قائمة على الكراهية والتسلط والجشع المادي والسلطوي. وإذا كان ثمة تقاطع ما بين الحب والسياسة فهو موجود في لحظات التأسيس الثوري وحدها، حيث يشكل الحماس والبحث عن العدالة والجمال أساس العلاقة مع المستقبل[2].

يبدو باديو هنا قاطعًا في التأكيد على العلاقة السلبية بين مجالين يشكلان في الحقيقة مساحتي العام والخاص على الإجمال، فالسياسة، هي قضية المجال العام الأساسية، وجدليته السرمدية. والحب، هو الآخر له نفس الأهمية في مساحة الخاص، الذي هو إشكالها الدائم والمستمر.

ما سيتبادر إلى الذهن الآن هو أسئلة حول مدى مصداقية طرح باديو حول الانفصال بين السياسة والحب؟ وهل هما يقعان فعلًا على طرفي نقيض؟ وإذا كان باديو مخطئًا وكان هناك ثمة علاقة اتصال بين المجالين فما هي نقاط الاتصال؟ وما شكلها؟

ولمقارعة طرح باديو، نقترح العودة بالزمن للوراء، وبالتحديد للعام 1949، حيث يبدأ «أورويل» نشر روايته الأهم – ذائعة الصيت – «1984»[3]. منتشيًا بالحب وقدرته على مقاومة السلطة الشمولية يبدأ أورويل روايته، لينتهي محبطًا من الحب وعجزه عن مواجهة السلطة وبطشها. وبين ثنائية السلطة والحب يمكن في رأيي إعادة تقديم قراءة جديدة لرواية أورويل الخالدة خلود الأنظمة الشمولية والباقية بقاءها. وهي قراءة نخلص في نهايتها للقول بتهافت طرح باديو حول الانفصال بين السياسة والحب.

يتحدث البعض عن أن أورويل اكتفى في روايته بتفكيك بنى الأنظمة الشمولية ووسائلها في إعادة تشكيل الإنسان بما يناسبها، ويجادل هؤلاء بأن أورويل اقتصر على هذا دون تقديم محاولة جادة للبحث عن حلول لمجابهة هذه الشمولية ومقاومتها. وهنا بالتحديد تأتي محاولتنا لإعادة قراءة أورويل وقراءة 1984.

ففي الحقيقة إن أورويل لم يكتف بهذا التفكيك، بل أخذ خطوة للأمام، وقدم الحب على طول صفحات الرواية كالسبيل الأهم للخلاص من الشمولية، والوسيلة الأنجع لمقاومتها. فيظهر الحب في «1984» وكأنه حصان طروادة، وطريق الخلاص من ويلات الشمولية التي تجثم على الصدور، وشكل آخر لممارسة السياسة في فضاء آخر هو فضاء الخاص والحميمي. وإذ يبدو هذا الاستنتاج صادمًا بعض الشيء، ففي السطور التالية يأتي التفصيل.

الحب هو إمكانية لأن يشهد المرء على ولادة العالم من جديد، فالحب بهذا التصور هو شكل آخر من الثورة بوصفه بداية للعالم في كل مرة، أي أننا حين نقع في الحب فإننا نعيد ولادة عالمنا الخاص بشكل من الأشكال.

«وينستون سميث» بطل رواية «1984»، يعمل في وزارة الحقيقة، وهي إحدى الركائز الأساسية للنظام الشمولي الحاكم في الدولة المتخيلة أوقيانيا التي يقودها الأخ الأكبر. يقع «وينستون» في حب «جوليا» وهي إحدى العاملات معه في نفس الوزارة، ونظرًا لأن الوقوع في الحب من المحرمات بهذه الدولة المتخيلة، يتم الإبلاغ عن سميث ومن ثم اعتقاله، الغريب هنا أن التحقيق يجري مع سميث في وزارة الحب أو «ministry of love» وليس في وزارة الحقيقة التابع لها وينستون.

وهنا سؤالنا: لماذا يتم التحقيق مع سميث في وزارة الحب وليس في وزارة الحقيقة التابع لها بالأساس؟ والسؤال الأكثر راديكالية لماذا تعتبر السلطة الوقوع في الحب جريمة يُعاقب عليها القانون من الأساس؟

يعاني سميث من وطأة النظام الشمولي، حيث تبدو أوقيانيا الدولة المتخيلة كسجن كبير يديره الأخ الأكبر حكمدار السجن، بمعاونة وزارتي الحقيقة والحب. وأمام هذه الوطأة يبحث سميث عن سبيل للخلاص، ولا يجد هذا السبيل إلا حين يقع في حب جوليا صديقته في العمل.

وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذه العلاقة تحقق خلاصًا فرديًا وذاتيًا تمامًا لوينستون، لا يتصل بالمجال السياسي والعام، لكن في الحقيقة فإن ممارسة فعل الحب بالنسبة لوينستون كانت بمثابة ممارسة للسياسة بأشكال أخرى. فقد وجد وينستون في الحب وسيلته لخلق عالم موازٍ ومكتفٍ بعيدًا عن سلطة الدولة الشمولية وبطشها. لكن السؤال الأهم: هل ترضى السلطة بهذا الوجود الموازي الذي أوجده الحب؟ وما يضيرها إن هي رضت؟

لإجابة هذا السؤال نعود مجددًا إلى فرنسا القرن الواحد والعشرين، وإلى باديو نفسه مرة أخرى، حيث يرى باديو أن الحب هو إمكانية لأن يشهد المرء على ولادة العالم من جديد، وبالتالي فالحب بهذا التصور هو شكل آخر من الثورة بوصفه بداية للعالم في كل مرة، أي أننا حين نقع في الحب فإننا نعيد ولادة عالمنا الخاص بشكل من الأشكال، متجاوزين الإمكان الفعلي لواقعنا، وفي القلب منه الإمكان السياسي الذي تفرضه السلطة السياسية، وما تخلقه من سياقات، وثائرين عليه.

الحب يعلمنا ألا نستسلم للواقع الذي تودعنا فيه الأنظمة الحالية كما لو كنا أحذية مهملة، ويمنحنا فرصة أخرى من أجل إبداع شكل الحياة الذي نرغب فيه.

هنا يتعلق الأمر في الحقيقة بفكرة التفكير بالحب بما هو قدرة على تحرير العالم من السخرية العدمية التي تكسو عالمنا الإمبريالي الذي لا تزهر فيه غير كلبيّة القتلة وأجندات الفاسدين. لا شيء يسعفنا في هذا المستنقع الكبير للأيادي القذرة غير ثورة الحب على أنفسنا وقد تحوّلنا إلى أفراد هشة مكتئبة عصابية نرجسية رهينة لحضارة البضاعة. حيث صرنا إلى حقل اختبار واسع لمثيرات السلع والدعاية والوصاية على قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا الأكثر حميمية.

ثمة إذن إمكانية للحديث عن حب نضالي، بوصفه حبًا إبداعيًا يجدد الذوات ويمنحها طاقات إيجابية للانطلاق نحو شكل أجمل من الحياة. فالحب يعلمنا ألا نستسلم للواقع الذي تودعنا فيه الأنظمة الحالية كما لو كنا أحذية مهملة، ويمنحنا فرصة أخرى من أجل إبداع شكل الحياة الذي نرغب فيه. هكذا يرى باديو[4].

يجرنا هذا الطرح لمناقشة أعمق لفعل الحب نفسه، نسائل بها أيضًا التصور السابق الذي يطرحه باديو؛ لنفهم قليلًا كيف يكون الحب طاقة مقاومة للسلطة وممارسة للسياسة بأشكال أخرى؟

السلطة في الحقيقة تفهم جيدًا، كيف أن الحب هو في أصله طاقة تحرر وتحرير، وبالتالي هو خطر داهم على بنيتها السلطوية؛ فالحب في أصله فعل تحرر بالمقام الأول، وفعل تملك في آن واحد، فنحن حين نقع في الحب، فإننا يتملكنا شعوران متناقضان، أولهما رغبتنا الجامحة في أن يحبنا الآخر بحريته كاملة، وألا يكون في الأمر إجبارًا من أي نوع، وهو بذلك يكون تمثلًا جليًا لمعنى الحرية، حريتنا في أن نحب، وحريتنا في الرحيل عمن نحب، حين يخفت نور الحب. الشعور الثاني، هو رغبتنا الجامحة في تملك المحبوب، في أن نظفر به عن كل الوجود، عن العالم وعن البشر، رغبة في أن نؤمم المحبوب لذواتنا، لا يشاركنا فيه آخر، وبالتالي في أن نحصل على حقوقنا كاملة منه.

هنا المعضلة الأساسية بين السلطة وبين الحب، هذان الشعوران: الحرية والتملك، هما أشد ما تخشاه السلطة، حتى وإن بديا شعورين ذاتيين تمامًا في فعل الحب، فهذه الذاتية لا تفتأ أن تخرُج لتكون ممارسة عامة، تغزو الفضاء العام، مع أول صدام مع السلطة، فالمحب الحر والراغب في تملك محبوبه، لا يقبل بسلطة تحتكر حريته، وتمنعه من الحصول على حقوقه، وهنا يُعبر «أمل دنقل» بوضوح عن هذه المعضلة بأبياته:

كيف تنظر في عيني امرأة؟ أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟ كيف تصبح فارسها في الغرام؟

فعل الحب يستحيل مع فقدان الحرية، لذا فالمجتمعات الشمولية تعاني بشدة من غيبة الحب، بل وتمارس أجهزتها عملًا منظمًا لتغييب هذا الشعور من الفضاء العام. يساعدها في هذا السعي منظومة إمبريالية عالمية، تخضع الأفراد لعالم السوق وأجندات رؤوس الأموال الذين يتحكمون بخرائط الدول وبسياسات الحقيقة معًا، لذا فقدت المجتمعات قدرتها على الحب وصار الأفراد مجرد أرقام في الماكينة الكبرى للسطو على مساحة الحياة.

إن شعوري الحرية والتملك يقدمان بهذا الشكل إجابة واضحة عن تساؤلنا عن أسباب التحقيق مع وينستون سميث في وزارة الحب، وليس في وزارة الحقيقة التابع لها بالأساس، فالسلطة تفهم جيدًا أن الحب هو بوابة مُشرَعة لمعرفة الحقيقة، فهو بالأساس قوة تبصر بالذات، ومن ثم تنطلق هذه الذات لتتبصر العالم على نور من هدي الحب وبصيرته.

وعليه فإن «نداء ابتكار الحب من جديد» ليس ترفًا رومنسيًا بل هو ضرورة حيوية، والتفكير في إعادة شعور الحب للواجهة ليس ترفًا من أي نوع، لأن الحب الذي نناديه ههنا صحبة الشعراء ليس شأنًا فرديًا خاصًا، ولا يقع اختزاله في الحياة الحميمة للفرد البرجوازي، إنما هو براديغم رمزي لحثّ البشر على جعل العالم يولد على نحو مغاير.

يصير الحب بهذا التصور اقتدارًا لتغيير العالم، لأنه حب ينتج المشترك (بحسب نيغري) ويجعل من الجموع اقتدارًا وتجاوزًا وإبداعًا للحياة. لكن ومن أجل أن يكون الحب شكلًا من أشكال المقاومة، ينبغي أن يُحَرر الأفراد من الحب المعولم القائم على الفرد المنعزل المغلق على رغباته الاستهلاكية.

والآن يأتي السؤال الأخير: هل ينجح الحب في كسر الجدار – جدار السلطة – وينتصر في معركته معها؟

لب الطرح الذي يقدمه أورويل في «1984» يجيب بـلا، وهي نظرةٌ متشائمة وخسفٌ بدعاوى قدرة الحب على كسر جدار الشمولية وقدرته على مقاومة السلطة. يتوج أورويل روايته بانتصار ساحق للسلطة الشمولية على الحب. سقط الجدار، وخارت قوى الحب عاجزة عن أي تغيير وأي مقاومة، وعجز معها طرح باديو، وفشلت معه مقولة رانمبو حول قدرة الحب على إعادة ولادة العالم من جديد، ففي النهاية خان سميث قضيته وتحت وطأة التعذيب قَبِلَ بأن تعذب محبوبته جوليا، في مقابل أن يفلت هو من العذاب، بجملة واحدة على لسان وينستون : «افعلوا هذا بجوليا وليس بي».. سقط الحب ببساطة! هكذا يقول أورويل.

سيجادل البعض ربما في أن الأمر لا يعدو أن يكون طرحًا شخصيًا تمامًا لمجرد رواية، كتبها مؤلف من القرن العشرين، سنجادل حتى في قدرة الحب على إعادة ولادة العالم ليبدو في ثوب أقل قبحًا، لكن حتمًا سيداهمنا الواقع بخيباته المتكررة، وفشل الحب المتكرر فيه على إحداث هذه الولادة الجديدة للعالم وكسر الجدار. في النهاية تنتصر السلطة أو على الأقل هكذا يرى أورويل وكاتب هذه السطور.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. آلان باديو، «في مدح الحب»، دار التنوير، ترجمة: غادة الحلواني
  2. «في مدح الحب» لـآلان باديو،.. على الحب أن يعاد ابتكاره دائمًا، شوقي بزيع، جريدة السفير، الأربعاء، 02 ديسمبر/ كانون الأول 2015
  3. جورج أورويل، رواية «1984»، ترجمة أنور الشامي، المركز الثقافي العربي
  4. من حوار للكاتبة التونسية أم الزين بن شيخة عن الحب وثقافة المقاومة، حاورها الناقد حاتم التليلي، يمكن قراءة المادة على الرابط التالي: http://m.ahewar.org/s.asp?aid=575861&r=0&cid=0&u=&i=0&q