كان هذا اسم مسلسل مصري تم إنتاجه عام 1986، من بطولة آثار الحكيم وممدوح عبد العليم. ولا تحتاج لأكثر من الاسم لاستنتاج قصة هذا المسلسل؛ فهو يحكي عن شخصين من طبقتين اجتماعيتين مختلفتين، يُصرّان على الزواج، متجاهلين نصيحة جميع من حولهم بعدم الزواج بسبب الاختلاف الجوهري بين الطبقتين، وما يمكن أن ينتج عن هذا الخلاف من فشل في التواصل وإقامة حياة زوجية سعيدة، اقتناعًا منهم أن الحب وحده يكفي، ويكفي ما يُكنان لبعضهما من مشاعر حتى يمرا بجميع خلافاتهما.

ولكن تشير الأحداث اللاحقة لمدى صحة نصيحة منْ حولهم، وأن الحب وحده لا يكفي بالفعل، فعلى الرغم من تعليم البطلين العالي وقدرهما الوافر من الثقافة، فإنهما لم يستطيعا فهم تصرفات بعضهما البعض، فهي لم تستطع إلا أن ترى أن بعض تصرفاته محض تحكم لم تعتده في بيت والدها، ولا وفق الثقافة شبه الغربية التي تربّت وفقها، والتي لا تفرض هذا الكم من القيود في علاقاتها الاجتماعية بمن حولها.

أما عنه، فلم يستطع تفسير سلوكها إلا من خلال مرآة واحدة، وهي أنها تنازلت بالزواج منه، معتبرًا أن كافة سلوكياتها إنما هي محاولات لاقتلاعه من جذوره وجعله إنسانًا آخر، من صنعها هي. كما أن ثقافته المحافظة لم تستوعب سلوكياتها الاجتماعية.

فالحب حده بالفعل لا يكفي، لا أحاول هنا قول ضرورة أن يكون الحبيبان نسخة من بعضهما البعض. أذكر الآن بداية سلسلة «قصص سالم وسلمى» التي كانت أعدادًا غير متتابعة في ترتيب سلسلة «ما وراء الطبيعة» للدكتور «أحمد خالد توفيق» رحمه الله. لقد كان سالم وسلمى كلًا منهما نسخة من الآخر في عالم موازٍ، وبالتالي فإن طباع كل منهما كانت متطابقة، تخيّل أن تتزوج نسختك الجينية، ليس توأمك بالطبع، ولكن نسخة جينية تعتقد أنها الأصل في كل صفاتك، أليست هذه هي الجنة بعينها من وجهة نظر البعض؟

تجيب تلك السلسلة بأنه ليس من الضرورة أن تكون كذلك، فتخيّل أن تخطر ببالك فكرة يشوبها الكثير من الأنانية عن علاقتك بالآخر أو بالعالم من حولك، ويقتلك الشك في أن شريكك لديه هو الآخر نفس الفكرة. تخيّل أن تحب وتكره نفس الأشياء التي يحبها ويكرهها شريكك، ما هي احتمالية أن تقوما بأنشطة مختلفة معًا من باب التغيير أو التواصل؟ ما معنى أن تملك نفسًا أخرى في جسد آخر أصلًا؟ ألا تكفي نسخة واحدة منك لتدفعك للجنون دفعًا في إحدى مراحل حياتك؟

أعتقد أنني الآن قمت بتعقيد الأمور أكثر من اللازم، فلا الاختلاف الكامل هو الذي يُمكن أن يُنجِح العلاقة، ولا الاتفاق الكامل، ماذا إذن؟

الحقيقة التي يمكن حتى لخبراء العلاقات العاطفية إغفالها، أنه لا يوجد تركيبة مؤكدة لإنجاح أي علاقة، على عكس الفشل، فمن السهل أن تستمع إلى قصة أحدهم العاطفية وتشعر بجل التعاطف معه لأن علاقته محكوم عليها بالفشل من وجهة نظرك، ولكنك ستتركه يُجرِّب حتى لا يُبقي في نفسه شيئًا.

أمّا عمّا وجدته أنا كحقيقة، فهو أن نجاح أي علاقة بين زوجين يتمثل في قربهما من الفطرة الإنسانية، فكلما ازدادت تعقيدات شخصية الطرفين ورغباتهما في نُسخ أخرى من علاقات ناجحة لأشخاص غيرهم، وكلما زادت متطلبات الطرفين لبعضهما ورغبة أحد الطرفين أو كليهما في تطويع العلاقة والطرف الآخر لنفسه، كلما تسارع مؤشر فشل تلك العلاقة.

هل تذكر جوابات الأسطى حراجي القط، العامل بالسد العالي، وزوجته فاطمة أحمد عبد الغفار، وبيتهما القابع في جبلاية الفار؟ بالطبع هذه من أحد أشهر أعمال الخال عبد الرحمن الأبنودي -رحمه الله- فكما قرأت في السطر الماضي هي سلسلة من الجوابات بين فاطمة، أو كما يُطلق عليها زوجها، فاطنة، والأسطى حراجي العامل بالسد العالي، الذي فرّقت لقمة العيش بينه وبين محبوبته وأم أولاده «زوجته المصونة والدرة المكنونة»، كما يبدأ كل خطاب.

في تلك الخطابات، تقبع أنقى علاقة حب يمكن أن تراها في الحياة الواقعية، بعيدًا عن مبالغات السنيما والروايات. فهي علاقة حب لم تخلُ من البحث عن لقمة العيش وكسوة الأولاد ولا مهمة الأم في توفير جو من الحنان والرعاية للزوج، حتى وهو بعيد، وللأطفال بالطبع التي أصبحت هي أمهم وأباهم في غياب الأب، لكنها لم تخلُ كذلك من محبة زوجين لبعضهما البعض والشوق الذي كان يكاد يفتك بالزوجة ويدفعها للجنون، والفرحة العارمة التي تستتبع وصول الخطابات، فلا تراها إلا قائلة بمنتهى الفطرة الإنسانية بعد وصول أول خطاب:

شهرين يا بخيل؟ ستين شمس وستين ليل… النبي يا حراجي لو أطول قلبك… أقطع بسناني الحتة القاسية فيه.

لا أرى هؤلاء يجتمعون على العشاء في إحدى الروايات يتناقشون في أحوال السياسة العالمية، ولا يصلون إلى ما يصل إليه البعض الآخر من الرفاهية للذهاب للسنيما مثلًا، ومع ذلك فلا يستطيع غياب كل تلك الرفاهيات وزيادات العصر أن تُنقِص من حب أحدهما للآخر، ولكن على رأي المثل القائل: «الحلو مبيكملش».

فكما بدأت قصة حب حراجي وفاطنة بواقعية شديدة، انتهت بنفس الواقعية، حيث تعوّد حراجي على الاغتراب وفقدان رغبته في العودة لمنزله بجبلاية الفار، تعوّد الغربة بعد أن كان يتحرّق شوقًا في البداية لرؤية أسرته. وأظن أن هذا من عبقرية الخال. ففاطنة بقيت في أرضها، مُحاطة بفطرتها وأولادها وأرضها وأقاربها وكل ما فطرها على فطرتها السوية، أمّا حراجي فهو من غاب ليُعمِّر الأرض، فما كان من الأرض إلا أنها اقتلعته من جذوره وأبهرته بزخرفها.

أيعني هذا أنه علينا أن نعيش في الريف وألّا نتعلم حتى نحصل على قصة حب ناجحة حتى النهاية؟ أن نلغي شخصيتنا العصرية لأسباب خارجة عن إرادتنا؟

بالطبع لا، فهذا غير ممكن أصلًا، لذلك، فإن المثال القادم في رحلتنا، لإحدى أحبّ قصص الحب وأقربها إلى قلبي، وهي قصة الحب التي عاشتها رضوى عاشور ومريد البرغوثي.

الجميل في تلك القصة أنها لشخصين ناجحين جدًا في نفس المجال، وأن أحدًا منهما لم يشعر بغيرة تجاه نجاح الآخر قط، بل كان يدفع نجاح كل منهما إلى فخر الآخر بشريكه، فإذا قرّرت البحث عن إحدى الشخصيتين لا بد أن تظهر لك الأخرى في عناوين البحث والكلمات المفتاحية المتعلقة بما كتبت.

وإن كنت لا تعلم، فإن مريد هو شاعر فلسطيني كان لا يزال شابًا في أوج احتدام الصراع العربي-الإسرائيلي، كما كانت رضوى كذلك.

تحكي رضوى أنها يوم قابلته كان يُلقي شعرًا، وكانت تظن أن لها باعًا في الشعر لا بأس به، حتى سمعته يلقي ما ألقى، فأدركت أن هذا ليس بالضرورة أحسن أقسام الأدب لها. حيث قالت:

بطّلت أكتب شعر.

وبغض النظر عن نظرة الجميع في ذلك الوقت لزواج مصرية من فلسطيني، إلا أن هذه الزيجة قد تمت، واستمرت حتى تُوفيت رضوى ثم تبعها مريد. وإن قررت البحث عمّا كتبه مريد في رثاء رضوى، لوجدته أعذب ما يمكن أن يُقال في بشر.

لا تدع أي شخص يخبرك كيف تدير مُقوِّد زورقك الصغير في الحب، فقط تأكد أنك لا تُبحِر بهذا الزورق نحو العاصفة، وبعدها ابتعد ما شئت واطلِ شراعك بأحب الألوان إلى قلبك، حتى إذا اضطررت إلى إلقاء مؤنك من هذا الزورق، لتتمكّن من الاستمرار في رحلتك.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.