سمع الملائكة دوي ارتطام شيء ما سقط من السماء السابعة، إلى كوكب بحجم نطفة، حيث يسكن بنو الإنسان.

فاكهة محرمة وقعت واستمرت بالتسكع في دهاليز الكون حتى وصلت مجرة درب التبانة وبلغت كوكب الأرض، اتخذها البشر إلهًا وقدَّموا لها القرابين.

ضحك الملائكة من سابع سماء وبقيت الفاكهة التي حُرِّمَ أكلها على نفس الحال لأكثر من سبعين سنة. فسدت الفاكهة، تعفَّنت ولم تعد صالحة للأكل، وظن البشر أنهم يواجهون غضبًا إلهيًّا وأزمة عقائدية.

أتلفوا غيرها من الفاكهة عسى أن ترضى عنهم وتعود لنضارتها وجمال منظرها الأول. وبعد أن أتلفوا كل ما يملكون من فاكهة، مات نصف الكوكب جوعًا، ومات النصف الآخر بعد أن اعتصر الأسى على فاكهتهم المقدسة قلوبهم الهشة العامرة بالإيمان.

هذه ليست سوى أسطورة من نسج خيالي الواسع، وهي ليست قصة حقيقية أو جزءًا من الفلكلور الشعبي الذي يعالج موضوع نشأة الكون وبداية الخلق، مثل «البوبول فو» وغيره من نصوص مقدسة على اختلاف مصادرها والمجتمعات التي تؤمن بها إيمانًا قاطعًا لا جدال فيه.

ولكن بالرغم من أن هذه الأسطورة لا تمت للواقع بصلة، فإنها قد تساعدنا في حل معادلة الحب والمادة.

لهذه المعادلة طرفان، هو وهي. هو واحد من سكان الأرض الذين قتلهم جهلهم وأودت السذاجة بحيواتهم، وهي تلك التفاحة التي رغم قداستها ظالمة. كان حبهما يسبح في فلك مغاير لهذا الذي نعيش فيه، لا يخضع لقوانين العاطفة ولا لقانون الجذب.

عندما كان حبهما لا يزال في طور النمو، كانت هي تحترق بنار الحب واللهفة وتنتظر جوابه على أحر من الجمر كل يوم، بينما كان هو مشغولًا بالتفكير في مشروعه الجديد وعمله وحياته الشخصية بعيدًا عمَّا يسميه بخزعبلات المراهقين؛ ذلك الحب الذي كان يشغل بالها ووقتها حتى ما عادت لها حياة خارج الاحتمالات والتوقعات والانتظار.

قضت أكثر من خمس سنوات تلاحقه، ولكن الآية انقلبت فجأة؛ بدأت صورتها تحاصر خياله وتسيطر على أفكاره ليلًا ونهارًا، ولم يعد يدَّخر جهدًا لكي ينال رضاها. أمَّا هي فكانت تعيد التفكير في ماهية تلك العلاقة، تتأمل في سنوات ربيع العمر التي أضاعتها في ملاحقة رجل لا يريدها، تجرَّعت المذلة والهوان بكامل إرادتها، إيمانًا منها بأن الحب أسمى من أن يخضع لمبدأ الكرامة والكبرياء.

لم تتوقف لمرة لتسأل نفسها إن كان هذا الرجل الذي تستميت في الدفاع عنه أمام زملائها في العمل، يبادلها الشعور، هل يدافع عنها في غيبتها ويدفع عنها كلام السوء مثلما تفعل هي، هل يُبقيه التفكير فيها على يقظة طوال الليل؟

جاءتها أجوبة أسئلة لم تطرحها يومًا في صورة نكران دميم وهجران يُدمِي القلب. ولكن لأن كل مكروه مرغوب، لم يزدها صدُّه سوى إقبال على ذلك الحب اليتيم بجموح امرأة عاشقة.

بدأ كل شيء من حولها يتغير بعد أن وقع هو في شرَك حبها، ولأن العاطفة من أهم متغيرات المعادلة التي بين أيدينا، فإن حبها له بدأ ينقص شيئًا فشيئًا. كل شيء حولها يوحي لها بأسئلة جوهرية: لماذا نحب؟ لماذا نشتهي حياة عاطفية لا يجف نبعها ونُمنِّي أنفسنا بأشخاص يحبوننا ويخلصون لنا على مدى الحياة؟ وهل نكون على علم ونحن نطأ متاهة الحب لأول مرة أننا لن ننال بالضرورة ذلك الحرص والاهتمام الذي نمنحه؟

علاقتنا بالحب – كنساء – هي علاقة معقدة، يربطنا بعالم العاطفة مزيج من الرغبة والنفور. ذلك لأن رؤيتنا للحب – مثل رؤيتنا لمعظم الأمور – تُصاغ من خلال ما تُلقِّنه لنا مجتمعاتنا البطريركية من مُسَلَّمَات.

يعلموننا ونحن لا نزال فتيات صغيرات أن الحب أمر لا بد منه، وأن الاهتمام والحب الذي يمنحنا إياه الرجل لا يقارن بالصداقات المبنية على الاحترام والتقدير المتبادل التي نكتسبها في خضم رحلة العيش، فنقضي حياتنا بحثًا عن الحب الذي سيجعل منا بشرًا مكتملين، عن «النصف الآخر»، حتى إذا بلغ بنا الرشد مرحلة متقدمة اكتشفنا أن الحياة تهبنا فرصًا أجمل بكثير من الحب الرومانسي.

نكتشف أن الحب الأفلاطوني يحمل قدرًا عظيمًا من المعاني السامية ويمنحنا مساحة آمنة للتعبير عن ذواتنا، والتعرف على الحلم القابع في دواخلنا. وهي لم تُدرِك كل هذا، حتى كانت قد تورَّطت بالفعل في علاقة جادة.

كثيرات هن النساء اللواتي يحملن معهن إلى حياة البالغين وعالم الراشدين صورًا وأنماطًا مألوفة يُسمينها حبًّا، يتمسكن بصورة العلاقة الزوجية التي كانت تربط بين أمهاتهن وآبائهن. ولهذا فهي لم ترَ في صده ما يدعو إلى إنهاء العلاقة وقطع حبل الأمل من هذا الحب. ولكن رغم التشوهات العاطفية والقصور الذي طغى على حبهما، فإنه كان حبًّا حقيقيًّا في غاية الصدق. كان حبًّا عنيفًا في عطائه، متكبرًا في إعراضه، وعنيدًا في صموده أمام متقلبات الحياة، لا يعرف التوازن، لا وسطية ولا اعتدال فيه. يرفعهما حتى أعالي السماء ثم يهوي بهما إلى أسفل درك من اليأس والإحباط. كان حبًّا أشبه بلعنة.

كانت هي تجسيدًا للمادة في معادلتنا هذه. كان الحصول عليها الهدف الأسمى لرجل لم يعرف الحب إلا متأخرًا، ولكن الحياة خيَّرته بين المادة التي كان يملكها بالفعل، والحب الذي كان يتذوق حلاوته لأول مرة.

أفلت التفاحة من يديه، أفلت القداسة طمعًا في الحب فخسر الاثنين معًا. خسر الحب والمادة. يفشل الحب لأن الرجل يُلقَّن منذ الصغر أن مهمته الأساسية في هذا العالم أن يحصل على صك ملكية لامرأة جميلة ومطيعة، ولأن المرأة تُصدِّق كذبة انتمائها له، وتختار جهلًا منها أن تتنصل من فردانيتها لتذوب في الرجل، حتى يندثر أثر وجودها لتصبح شبح إنسان بعد حرب هوية ضروس تضعها في خانة العدم.

ألم أقل إن لمعادلتنا هذه طرفين؛ حبًّا عاصفًا لا يخضع للمنطق، ومادة صَنع الإنسان قيمتها، فثارت على صانعها لتستعبده وتكبل حريته وتسرق منه حقه في الاختيار؟

أمَّا الآن وبعد أن انتهى كل شيء، لم يعد يجمعهما سوى ذكريات حنَّطها النسيان، وطفلة وحيدة كانت بالنسبة لهما أجمل شيء أسفر عنه هذا الحب المتطرف.

مقهى الإنترنت

كان المكان مكتظًا عادة على مدى الأسبوع، لكنه يمتلأ عن آخره خلال عطلة نهاية الأسبوع بالطلبة الجامعيين وتلاميذ المدرسة الثانوية بشكل استثنائي. كانا يجلسان جنبًا إلى جنب، كلٌّ يراقب المكان ويتجول فيه دون أن يبرح مكانه، يفعلان كل شيء في استطاعتهما ليتجنبا الحديث عن الشيء الوحيد الذي جاءا من أجل الحديث عنه.

كانت قد جاءت لتوها إلى الدار البيضاء ولم تكن تنوي البقاء في هاته المدينة الصاخبة أكثر من يومين؛ إذ كانت تُفضِّل هدوء ضواحي مدينة القنيطرة، حيث انتقلت بعد الطلاق على الفوضى العارمة التي تملأ شوارع العاصمة الاقتصادية. لم تكن لتُضحِّي بقضاء عطلة نهاية الأسبوع في سريرها مُنكبة على كتبها لولا توسلات ابنتها لها بأن تصطحبها لقضاء العطلة مع أبيها.

لم تكن تتوقع أن يأتيها صوته من الطرف الآخر من الخط بعد أن عادت لمنزلها بمدينة القنيطرة. كان واضحًا من خلال صوته أنه أسرف في الشرب. كادت أن تضعف أمام توسلاته لها بأن تعود، ولكنها سرعان ما تماسكت نفسها وجفَّفت دموعها لتغلق الخط رغم تضرعاته البائسة وصوته المكسور الذي كان ينضح شجونًا.

شيء ما تلبَّسه ليلتها وقاده إلى سيارته رغم ثقل جسده بفعل إسرافه في الشرب، كان متوجهًا إلى مدينة القنيطرة عندما داهمته شاحنة ضخمة ودهسته على الطريق السيَّار.

فسدت التفاحة وتحلَّلت، ومات سكان الكوكب من بني البشر للمرة ثانية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.