محتوى مترجم
المصدر
Aeon
التاريخ
2018/11/27
الكاتب
فرهاد ميرزا

مقدمة المترجم

انطبعت صورةٌ قبيحةٌ لمفهوم الزواج المدبّر، أو التقليدي بصورةٍ عامة، في العقل الغربي منذ زمنٍ طويل، وبصورةٍ متزايدةٍ ربما في العالم العربي أيضًا، فلمّا كان الزواج «يُدبّر» للزوجين من قبل عائلتهما في الغالب، فهو يمسّ حق الحرية الشخصية الذي يُعد من مرتكزات الحياة الغربية الحديثة، وتحديدًا حقوق المرأة، هذا طبعًا دون ما ينطوي عليه من جدلياتٍ مسهِبة مسّت حقوق الإنسان، والزواج بالإكراه، وزواج القُصّر، فضلًا عن الانتقادات الواسعة التي توجّه إليه بأنه زواجٌ لا يُراعي الفروق الشخصية بين الزوجين، وهو أيضًا، كما يرى الكثيرون، زواجٌ منسلخٌ عن أدنى وأبسط درجات الحب والاحترام الذي يُفترَض بأن يكون حجر الزاوية الذي يجب أن يبدأ منه أي بيت زوجية، في عالمنا المعاصر على الأقل، والذي يجب أن يبحث عنه كل إنسانٍ، رجلًا كان أم امرأة، يتوق لإيجاد من يكمل معه طريق الحياة إلى آخره.

إلا أن هذا ليس كفيلًا بإنكار وجود بعض الإيجابيات الهامة التي تشتمل عليها منظومة الزواج التقليدي، فيمكن إيجاد بعض الإحصائيات المثيرة للاهتمام عن معدّل الاستقرار في هذا النوع من الزواج، فتقدّر دراسةٌ نشرها معهد أبحاث «Statistic Britain» عام 2012 بأن نسبة الزيجات المدبّرة هي 53.52% حول العالم، ونسبة الطلاق في هذه الزيجات لا تتجاوز 6.3% وفقًا لنفس الدراسة. وبالتأكيد لا تمنحنا أرقامٌ كهذه صورةً بسيطةً حتى عن مدى السعادة أو نجاح هذه الزيجات، إلا أنها تبقى جزءًا من نقاشٍ طويلٍ ومستمرٍّ في الغرب حول مدى جدوى أو وجاهة الزيجات المدبّرة.

يتناول فرهاد ميرزا، الصحفي المقيم في ألمانيا والذي ينحدر من أصلٍ باكستاني، في هذه المقالة بعض المفاهيم المغلوطة عن الزواج المدبّر أو التقليدي التي تكوّنت في العقل الغربي، واللبس الذي يقع فيه بالخلط بينه وبين ممارساتٍ غير مرغوبةٍ أخرى، مع محاولته لتفنيد بعض الانتقادات التي طالت هذا النوع من الزواج، وإبراز بعضٍ من الجوانب الإيجابية التي تستحق النظر في منظومة الزواج المدبّر.


نص المقالة

في كتابه «In Praise Of Love» (عام 2009) يشنّ الفيلسوف آلان باديو هجومًا على فكرة الحب الخالي من المخاطرة، فيرى الفيلسوف الفرنسي الشيوعي بأن هذه الفكرة كانت نتاج الميول الربحية لخدمات التعارف التي تغري زبائنها بوعد إيجاد الحب، ولكن دون الوقوع فيه. ويجسّد البحث عن الحب المثالي دون تكبّد آلام المعاناة، في نظر بارديو، صورةً حداثيةً من ممارسات الزواج التقليدي المدبّر، فهي منهجيةٌ محسوبةٌ تتوخّى الوقوع في أي مقامرات يسعى العامل بها إلى إيجاد الحب وراحة البال بعيدًا عن الخوض في حسابات الاختلافات الشخصية. فيقول باردو في كتابه:

فكرتهم [عن الحب] هي أنك تقوم بعمليةٍ حسابية لتجد الشخص الذي يشاركك نفس الأذواق، والأحلام الوردية، والعطل، ويريد إنجاب نفس العدد من الأطفال. [فهم يحاولون] العودة بنا إلى الزيجات المدبّرة.

ويتفق الفيلسوف والمنظّر الثقافي سلافوي جيجك مع بارديو فيما يذهب إليه، فيصف جيجك الزيجات المدبّرة بأنها «أساليب ما قبل حداثية».

وتُعد انتقادات باديو وجيجك للزواج المدبّر انتقاداتٍ مهذّبةً مقارنةً بتصورات الغرب عن هذه المنظومة، فالإدراك الشعبي والمتعلم لممارسات الزواج المدبّر يرتبط بصورةٍ شبه دائمة بجرائم الشرف، وفظائع الاعتداء بالحمض، وزواج الأطفال. ويجري الافتراض الشائع بأنها لا تختلف عن الزواج بالإكراه، أي أنه زواجٌ رتيبٌ يُجبر صاحبه على الخنوع له مكرهًا، ليكون بذلك أبعد ما يكون عن الاختصاص بإرادةٍ فردية والتنعم بجمال الحب الرومانسي.

ولكن فرَض تنامي موجات الهجرة العالمية أبعادًا جديدةً لا يجب تجاهلها لسؤال التصور الغربي لممارسات الزواج المدبّر تمسّ إدراكنا للحياة العاطفية للمهاجرين والجاليات الأجنبية. فيمكن القول بأن فكرة عدم الشرعية هي فكرةٌ غير مبرّرة ارتكزت على جهلٍ بالزواج المدبّر نفسه وغياب الوعي الحقيقي بالقيم الغربية.

يوجّه بارديو نقده لممارسات الإباحية، أو الليبرتية (على أنها سطحيةٌ ونرجسية) وممارسات الزواج المدبّر (التي تخلو من رغبةٍ طبيعيةٍ وعفويةٍ تخلق حالةٌ من التغلغل العاطفي لمّا كانت أيضًا رغبةً تزعزع الذات). فيرى بارديو بأن الحب يكون حقيقيًا عندما يكون متغلغلًا، أي تجربةٌ مزعزعة تفتح قلوب الناس لاحتمالاتٍ جديدة ورؤيةٍ مشتركةٍ لما يمكن لهم أن يكونوا معًا. فيملك الحب تلك القدرة العجيبة على طمس الكبرياء، وتجاوز بواعث الأنانية، ويجمّل ما كان مجرد لقاءٍ عشوائيٍّ جاعلًا منه استمراريةً مشتركةً ذات معنى. فالحب، كما يراه باديو، هو ليس بحثًا بسيطًا عن شريك، وإنما خلق تحوّلٍ، يمكن وصفه بالصادم الذي لا يُمحى أثره، يجعلنا نرى العالم من «وجهة نظر الاثنين لا الواحد».

فالسؤال، إذن، هل تكبت الزيجات المدبّرة قوة الحب المتغلغلة كما يحاول باديو أن يقول؟ هل يمكن أن يختار المرء زيجة مدبّرة بكامل إرادته، وهل سيحظى هذا الإنسان بذات العمق الذي يغمر أولئك الذين التقوا عبر صديقٍ مشترك، أو في الجامعة، أو عبر تطبيق تعارف؟ لا بد أن يأخذ المجيب على هذا السؤال، مهما كان جوابه، بعين الاعتبار وجود ممارساتٍ مختلفةٍ للزواج المدبّر، وأن ما يراه الناس حبًا حقيقيًا يتباين بين ثقافةٍ وأخرى.

لا بد أيضًا من التشديد على الاختلاف بين الزيجات المدبّرة، التي تحترم رضا كلٍّ من الطرفين، وبين الزواج بالإكراه الذي يغيب فيه عنصر الرضا. ويمكن، بعد أن ميّزنا بين الزواج المدبّر والزواج بالإكراه، أن نرى خطوط التقاطع الثقافية التي تجمع بين الزيجات المدبّرة وممارسات الربط الحديثة.

يشير مصطلح الزواج المدبّر، عادةً، إلى طيفٍ واسعٍ من الممارسات يلعب فيها الوالدان دور الخطّاب. فيتعرّف الشاب أو البنت بشريكٍ يناسبه، عن طريق ذويهما، كما أن ذوي الطرفين يكونون أيضًا عنصرًا يؤثّر بقرار أبنائهم. ويجد المرء شيوع هذه الممارسات في الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، فضلاً عن الهند، وباكستان، وبنغلادش، والصين. وقد تكون بعض الزيجات المدبّرة أيضًا ثمرة شبكة علاقاتٍ تجمع عددًا من العوائل، أو أناسٍ احترفوا ذلك – ما يعرف بالخطّاب. ويتبع ذلك لقاءاتٌ بين الراغبين في الزواج سواءً أكان ذلك بوجود الأهل أم بغيابهم. وتكون هذه اللقاءات تمهيدًا لنقاشاتٍ عائلية تُتوّج بالقرار النهائي الذي يعود إلى الراغبين في الزواج. ويُطلق مُسمّى الزواج المدبّر أيضًا على الزيجات التي يُشترط فيها الحصول على مباركة العائلتين بعد إبداء الطرفين الرغبة بالزواج (يمكن تسميتها بالمدبّرة ذاتيًا).

ويكون ضغط المجتمع والعائلة عاملًا مؤثرًا على قرار الطرفين في الزيجات المدبّرة، ولو كان ذلك بدرجاتٍ متباينة. ولكن ذلك موجودٌ أيضًا في الزواج الغربي بصورةٍ أو بأخرى. فلا تغيب موازنات الطبقة الاجتماعية، والتعليم، والمهنة، والدين في العلاقات الرومانسية (وجميعها عناصر يحضر فيها جانب العائلة بصورةٍ كبيرة). فجميع هذه الجوانب تصيغ انجذاب الطرفين لبعضهما البعض وتوافقهما مع بعضهما البعض. فالواقع الاجتماعي الذي نترعرع فيه يرسم حرية اختيارنا لشركائنا، بل حتى لشعورنا بالرغبة. فإن كان باديو يرى بأن الحب لا يكون ذا معنى إلا إن أزهر في ظل سياساتٍ لا استهلاكية، فلغيره من الناس أن يجد المعنى في قيمٍ مغايرة.

يتلمّس الطرفان الرومانسية في الزيجات التي تدبّرهما عوائلهما لأنها تتسق مع نظم قيمهما العامة. فيرى الكثيرون بأن هذه المنظومة هي صورةٌ أذكى وأكثر روحانيةً من الحب لأنها تقدّم الإرادة الجماعية والجَهد العاطفي على الدوافع الجنسية والفردانية الأنانية. ولعل ذلك هو أحد الأسباب التي تفسّر لمَ يُبدي الزوجان في العلاقات الزوجية المدبّرة مستوياتٍ أعلى من الرضا عن علاقاتهم أكثر حتى من أطراف الزيجات المبنية على الحب في بعض الأحيان.

يمكن أيضًا تلخيص أحد الانتقادات الشائعة الأخرى التي تُوجّه للزواج المدبّر كالتالي: الزيجات المدبّرة لا تقوم على رغبةٍ مطلعة، وكيف يكون ذلك دون وجود عنصر الألفة بين الطرفين؟ فلا يمكن أن تتوقّع منهما امتلاك مشاعر صادقة لبعضهما البعض. ولكن النشوة الرومانسية التي نشعر بها لشريكٍ نرغب به ليست قائمةً دائما على معرفتنا به، وإنما على توقعاتنا التي تسبق لقاء شخصٍ مثله، وهو ما لاحظه عالم النفس البريطاني آدم فيليبس، كما يبيّن في كتابه «Missing Out»:

الإنسان الذي تقع بحبه عن حق هو رجل أو امرأة حلمك… فقد حلمت بهم قبل أن تلاقيهم. وتميّزُ ذلك بيقينٍ تامٍّ لأنك تعرفهم، بمعنىً أو بآخر، قبل أن تلقاهم. وتشعر بأنك تعرفهم منذ أمدٍ طويل، لأنك كنت تتنبّأ بلقياهم، ولكنهم في نفس الوقت أشخاصٌ غرباء في نظرك. إنهم وجوهٌ غريبةٌ مألوفة.

ويأتي حسّ الألفة المتخيّلة هذا ليستلهم في الناس الرغبة في البحث عن الحميمية الصادقة. وتأخذ الزيجات المدبّرة نفس هذا المنحى.

يصعب صياغة أفكارٍ كونيةٍ للحب، فهو في النهاية تجربةٌ ديناميكيةٌ، ودقيقةٌ، ومعقّدة. لقد نجح الناس الذين ينحدرون من ثقافاتٍ غير الثقافة الغربية في بثّ مشاعر دقيقة متغلغلة باستمرار، على النقيض من الصور النمطية التي رُسمت في الأذهان، وهو أمرٌ نسيه المراقبون الغربيون.

وتبيّن نظرية نسوية ما بعد الاستعمار بأن النساء الذين يختارون الزيجات المدبّرة ليسوا تابعين مستسلمين لتقاليد الثقافات البطريركية أو الأبوية، بل تنخرط هؤلاء النسوة في رسم السلوكيات التي تنقل موازنات القوى لصالحهم. فصحيحٌ بأن الزواج المدبّر قد لا يكون الحل الأكمل لمشكلة الحب، ولكنه ليس مجرد تزمتاتٍ أحفوريةٍ جاءتنا من العصور القديمة. بل هو ظاهرةٌ حديثةٌ تتطوّر باستمرار ويجب فهمها في هذا السياق.

يعيب تعريف باديو للحب بأنه تعريفٌ محدودٌ ومثالي يُسقِط ثقافات وتجارب معظم شعوب العالم. بل إنه يقف عائقًا في فهم أنساق الحب وتجلياته وتجاربه حتى فيما يبدو للوهلة الأولى بأنه أكثر الممارسات «تقليدية». ويشكّل هذا الفهم الخاطئ والتحديد خطرًا حقيقًا في مناخنا السياسي الحالي.

فقد صار التعاطف مع الآخر عملةً نادرةً في ظلّ عالمٍ سياسيٍّ غربيٍّ متقلّب يغرق بصورةٍ متسارعة في مستنقعات الأهلانية وكراهية الآخر. وهنا تأتي الصور الهزلية التي تهمل وتنكر الاختلافات الثقافية، والتي يمكن توظيفها لتصوير المهاجرين وأبناء الجاليات الأجنبية بأنهم أناسٌ أحطّ شأنًا أو أنهم أناسٌ لا يستحقون الاحترام، وهو ما يحصل في الغالب.

لقد أثبت لنا التاريخ مرةً بعد الأخرى بأن تخيل مجموعةٍ من الناس على أنهم مخلوقاتٌ تخلّفت عن ركب التطور هو شرطٌ مسبق لإساءة معاملتهم. لا يمكننا طبعًا إهمال ضرورة إدانة الممارسات الاجتماعية القهرية والعنيفة مثل الزواج بالإكراه، ولكن يجب علينا أيضًا ألا نختزل ثقافةً بحالها بأنها ثقافة «الآخر» الذي لا يعرف معنىً للحب. فأي صورةٍ يعطي ذلك عن صدق حبنا نحن؟

Aeon counter – do not remove
Aeon counter – do not remove

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.