والله فراق الحبايب مُر يوجعني

أمر بديهي أن أقرر متابعة عمل مذيّل بتوقيع الكاتب الكبير «بهاء طاهر» بعد تحويله لدراما من إخراج المبدعة «كاملة أبو ذكري»، خاصة وهو من بطولة «خالد النبوي»، و«منة شلبي»، لكن ومع بداية أول جملة لحنية في تتر العمل وجدته تحفة فنية مستقلة، مع صوت «وائل الفشني» وهو ينوح: «والله فراق الحبايب مُر يوجعني» من أبيات الشيخ «أحمد برين» – الذي لا أدري لم تم إغفال اسمه من التتر.(فرش وغطا للشيخ أحمد برين ومحمد العجوز المأخوذ عنها كلمات التتر)

انجذبتُ لتلك الحالة من الشجن ومنيتُ نفسي بحالة إبداعية مختلفة، فيما بعد علمت أن التتر أخرجه المخرج المتميز عطية أمين الذي قدم الكثير في مجال المؤثرات والخدع البصرية من قبل، كأفلام: (سيما علي بابا – ليلة البيبي دول – الدادة دودي – جوبا – عندليب الدقي) ومسلسلات «الجماعة» الجزء الأول، و«سر علني»، بالإضافة لإخراجه فيلم «المعدية»، وأحد أجزاء مسلسل «قسمتي ونصيبك»، فلم يكن غريبًا أن يبدو التتر كفيديو كليب رمزي لأحداث العمل نرى فيه محمود وكاثرين تائهين في أرجاء الواحة دون أن يتمكن أحدهما من الوصول للآخر، هائمين بين أهالي الواحة الذين لا يرونهم أيضًا كإشارة لرفضهم لهم.

أيضًا مع التدقيق في تتر العمل وجدت أنهم استعانوا بمريم أبو عوف كمخرجة لوحدة الإخراج الثانية، وذلك إن دل فهو يدل على الاهتمام البالغ بخروج العمل في أفضل صورة مع الاستعانة بثلاثة مخرجين لهم ثقلهم لتنفيذه في امتزاج لم يُخِلّ بروح النص.


صوت وصورة

في الحلقات الأولى أُخِذت تمامًا بالصورة والموسيقى والديكورات لذلك الزمن الذي لا يتعدى بضعة أسطر في كتب تاريخنا المعاصر، الإسكندرية الجميلة ولون المشاهد الذي هو مزيج بين زرقة الهواء والبحر وصفرة غبار الحرب العفر، والضابط محمود ذي الروح الثورية المؤيد تمامًا لعرابي وموقفه من الخديوي المتراخي أمام تدخل الإنجليز في شؤوننا الداخلية.في القاهرة كانت المشاهد بلون الليل دائمًا كأنه الليل الذي عشش في نفوس الجنود المقهورين، حتى في مشهد المحاكمة العسكرية النهاري كانت الصورة باهتة كبهتان الاعترافات الكاذبة. هنا كان أداء الفنان «خالد كامل» الذي قام بدور الضابط طلعت يرسم الفارق بينه وبين محمود، كلاهما باع لينقذ حياته لكن الفارق أن طلعت أدرك خيانته وتعايش معها في حين أن محمود لم يقتنع بأنه خان وبدأ في إيجاد المبررات لنفسه كما فكر في الكابوس الذي هاجمه فيه طلعت، أنه على استعداد للموت في ساحة المعركة لكنه لا يريد أن يموت جوعًا دون سبب، لم يدرك محمود أنه منذ لحظة كذبه كان ميتًا!.


محمود ونعمة

أُخِذت أيضًا بمشاهد محمود مع جارته نعمة، خاصة المشهد الذي كان يبكي فيه بين ذراعيها وهو يقص عليها كيف كان يموت الصبية أمام عينيه وهو عاجز عن إنقاذهم، عكَس المشهد مدى إنسانيته التي كان يخفيها داخل أطر المكانة الاجتماعية والوظيفية، كما عكس أيضًا نظرته للعشق وللمرأة، فبقدر ما عشقها لكن غروره أبى عليه أن يسميها حبيبته، هي فقط جارية، أما عن «مها نصار» التي قامت بدور نعمة، فقدمت مخاطرة كبيرة إذ قبلت بظهورها لأول مرة مع تغيير هيئتها تمامًا بتحويلها إلى جارية سمراء في قناعة منها – أو تهور- من أنها قادرة على مس قلوبنا فقط بملامحها التي نطقت دون حوار بكل هذا الكم من العشق الذي رفضت إهانة محمود له فتركته ورحلت.الحلقات التالية عكست المعضلة النفسية التي واجهها محمود حين اضطر للتنصل من عرابي ومن معه لينجو بمستقبله؛ عاش من بعدها رجلًا فاقدًا لذاته، شاعرًا طوال الوقت بخيانته لضميره، أصبح محمود عبد الظاهر مثالًا حيًا لمقولة «احتضار الروح في سجن البدن» مصداقًا لقول عمنا سيد حجاب، وعكست أيضًا إسقاطًا لاختلاف تأويل المجريات السياسية التي يعيدها التاريخ من جديد، فكما نختلف في تسمية يوليو ثورة أم حركة ضباط الجيش، نختلف في تسمية يناير ثورة أم نكسة، وفي تسمية 30 يونيو ثورة أم انتفاضة أم انقلاب!.


مريم ناعوم وهالة الزغندي

عند تلك النقطة في الأحداث انتبهت – مع الأسف- إلى تسلل الملل إليّ، أصبحت الأحداث ممطوطة أكثر مما ينبغي، والفكرة المرجوة من خلف المشاهد المطولة تصل للمشاهد مبكرًا جدًا، رغم أنه لو أرادت السيناريست التوقف عند أحداث بعينها للعبتها بطريقة أكثر تشويقًا، الشيء الوحيد الذي كسبته مع ذلك المط هو الاستمتاع بالأداء التمثيلي.علمت علمت بعد انتهائي من متابعة العمل أن الحلقات الأولى كانت للسيناريست مريم ناعوم، بينما الحلقات من الخامسة عشر للنهاية – التي انضبط فيها إيقاع العمل- للسيناريست «هالة الزغندي» التي شاهدت لها من قبل مسلسل «حجر جهنم» وأعجبتني بساطة الفكرة وتقديمها بتلك الكوميديا الخفيفة، رغم أنها كانت تدور حول حادث قتل، بينما وجدتني مستاءة جدًا من هبوط مستوى «مريم ناعوم» التي كنتُ متحمسة لها بشكل شخصي. فبدايتها كانت قوية مع كاملة أبو ذكري في «سجن النساء»، وكذلك في «ذات»، و«تحت السيطرة» – المسلسل صاحب المكانة الخاصة جدًا لدي- يلي ذلك «سقوط حر» الأقل قليلًا وهذا العام نصيبها من حلقات «واحة الغروب» الذي أحزنني فقدانها لخط الحكي المشوق فيها، فيما بدا وكأنها تناست أن تحويل عمل روائي إلى عمل درامي يحتاج لرسم معالجة تناسب النص، وليس نقل أحداثه كما كتبت في السرد الروائي، وهذا ما سبق وقدمَته في «ذات» بشكل ممتع وشيق، لذلك أعتقد أن ناعوم في حاجة لمراجعة ما أصبحت تقدمه الآن أكثر من ذلك.


الواحة

ظلت الأحداث تسير بتلك الوتيرة البطيئة حتى الوصول إلى الواحة، ولم يشجعني على الاستمرار في متابعة العمل سوى أداء النبوي ومنة التي أتقنت شخصية كاثرين ببراعة، النبوي كالعادة مبهر وأفتقد الكلمات التي تصف أداءه وهو يقدم لنا شخصية تمثال أصم لرجل كان يدعى محمود عبد الظاهر.المفاجأة هنا كانت منة التي أقنعتني تمامًا بعدم إجادتها للعربية، وأصبحت مشاهدها الطريفة مع النبوي الذي يوقعها دائمًا في حيرة بين اللغة الفصيحة واللهجة العامية من مفضلاتي، الحالة الرومانسية التي عاشتها كاثرين ومحمود بقدر ما هي ماسة للقلوب بقدر ما أكدت لي أن كثيرًا من الشرقيين يستخدمون كلمات الحب لتوصيف رغباتهم لا أكثر ولا أقل، فـمحمود أبى الاعتراف بأن ما يشعر به تجاه تلك المرأة شهوة خالية من أي مشاعر لأنه تربى في مجتمع يحقر من الرغبة المطلقة، وأوضح ذلك المعنى حين قال لكاثرين في آخر حلقات العمل أنه اختارها لأنها كانت المتاحة!.


كاثرين ومليكة

كاثرين كانت روحًا متمردة عاشقة للاستكشاف، لكنها حائرة بين حب تاريخ هذا البلد العجيب بالنسبة لها وبين احتقارها لأفكار مجتمعه، وكانت تقابلها شخصية مليكة التي أبدعتها ركين سعد بالنظرات والدموع أكثر من أي أداة أخرى من أدواتها كممثلة، فـمليكة بدورها رافضة لمجتمع الواحة وأفكاره وكانت متعايشة معه فقط لأنه جمعها بحبيبها رضوان، لكن مع موته في تلك المعارك بين الشرقيين والغربيين – الشبيهة بمعارك الثأر- أعلنت العصيان التام في شجاعة أكبر من عصيان كاثرين على احتجاز محمود لها.ولم يكن غريبًا أن تتمثل تلك النقطة في إثارة مليكة لرغبات كاثرين الجنسية المحرومة من إشباعها بعد ذلك التباعد بينها وبين محمود، وكأن الحرية رغبة كليهما، تجرأت مليكة على المطالبة بها بينما جبنت كاثرين أن تفعلها فقتلوها وأبعدوا كاثرين في إشارة لأنه لا فرق بين أهل الواحة ومحمود في رفض من يختلف معهم. تلك الأحداث جميعها كانت تصلح لفيلم سنيمائي له ثقله، رغم استمتاعي الشديد بما وراء الحدث وبما قدمته الزغندي في باقي الحلقات.


نجوم الواحة

أداء الممثلين كما سبق وأشرت، مع الصورة وموسيقى تامر كروان وصوت وائل الفشني إلى جانب التتر المميز للمخرج عطية أمين، حركة الكاميرا والمشاهد الـclose التي ساعدت الممثلين على التقاط تعبيرات وجوه الممثلين في دقة؛ كل ذلك أورثني استمتاعًا حقيقيًا بالعمل.فلو كان النبوي ومنة هما بطلا العمل فهناك عشرات الأسماء التي لمعت كل منها بمشهد محوري أو جملة مأثورة أو حتى بتعبير على ملامح الوجه، فلدينا أستاذ الأداء سيد رجب (الشاويش إبراهيم) الشاهد الصامت على اختلاف الثقافات والذي يعلم أكثر كثيرًا مما يُبدي، وأحمد كمال (الشيخ يحيى) الذي تعلم وفهم لكنه لم يقوَ وحده حتى على إنقاذ ابنه رضوان من خوض معركة ثأر راح ضحيتها أو إنقاذ ربيبته مليكة من أهلها الذين قتلوها.هناك أيضًا رشدي الشامي (الشيخ صابر) الذي كره شركاءه في الوطن لأنه فقد بصره بسبب خيانة أحدهم ولم يجد غضاضة في توريط عشيرته بالكامل في معارك ثأر ليروي حقده هذا، وهناك الشيخ أيوب، الدليل العاشق للصحراء رغم قسوتها والذي يدفع حياته ثمنًا لغدرها عن طيب خاطر والذي قام بدوره النجم منذر ريحانة.القديرة رجاء حسين (الجدة) في الواحة التي تمزقت نياط قلبها مع فقدان حفيديها بسبب عادات أهل الواحة دون أن تتحرك لنجدتهما، بل على العكس كانت هي من دفعت ولدها الشيخ يحيى لإرسال رضوان المتزوج حديثًا من مليكة إلى المعركة، وفي مشهد قتل مليكة الذي شاركتها فيه ناهد رشدي ودنيا ماهر كان الجميع أعلى من الروعة بمراحل، ومشهد محمود مسعود الذي أدى شخصية معبّد المصدوم من رفض زوجته له وقراره أن يتخلى عنها لكن يبدو أن رجولته لم تتحمل ذلك النأي فيموت قبل أن يمنحها حريتها لتعود «غولة» من جديد.وأخيرًا كارول الحاج التي قامت بدور فيولا شقيقة كاثرين، تلك الرقيقة التي تمتلك قلبًا يسع الكون حقًا ويقدّر اختلاف المجتمعات ويتقبل الآخر حقًا، للدرجة التي جعلتها تصادق البدوية التي أدت دورها في براعة د. ليلى العزب دون كلمات تقريبًا والتي لا تفهم من لغتها شيئًا وإن كانت أحبتها وسعت لتطبيبها من مرضها الشديد، تلك التي يقع محمود في غرامها ليعي الفرق بين شهواته وإنسانيته، ورغم ذلك تركها ترحل عنه لأنه أدرك أنه لم يعد إنسانًا سويًا يستطيع متابعة الحياة.


الغروب الأخير

هنا ترددت في ذهني عبارة كاثرين التي رأت فيها أن الواحة سوف تغير ما بينهما بكل تأكيد، وقد فعلت، ولكن بصورة لم تكن تتصورها، وعادت تتردد من جديد في رأسي «والله فراق الحبايب مر يوجعني» وأنا أشاهد محمود وقد قرر التمرد على سلامه الداخلي الزائف بإنهاء حياته التي بلا جدوى، وكأن الفشني كان طوال 30 حلقة ينعي لنا الرجل الذي ذهب ليلتقي بروحه في آخر غروب له في الواحة، ويخبرنا أيضًا أن الرجل لا يمكنه العيش إذا ما تخلى عن مبادئه.محمود الآن فاقد لجزء من نفسه تذكَّرَه حين عرف فيولا، لذلك قرر القصاص ممن أوصله إلى هذا، ذهب محمود وأوجع النظام الموالي للإنجليز حين فجر مبنى قسم الشرطة في الواحة في إشارة لرفضه ما يفعلونه باهل الواحة، لنعلم أن النفس البشرية لها جبروت يمكنها من تحقيق أي شيء لو أرادت.. فقط لو أرادت!.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.