إن الوعي ليس رحلة صعود للأعلى، ولكنه رحلة إلى الداخل. ليس هرمًا، ولكنه متاهة. فكل خيار قد يقربك أكثر للمنتصف، أو يعيدك منحدرًا إلى الحافة، إلى الجنون.
برنارد لوي، أحد الأبطال من مسلسل WestWorld

هل تحلم الروبوتات بإشعال ثورة دموية عنيفة ضد صانعيهم من البشر؟ هذا هو أحد الأسئلة التي يحاول مسلسل (WestWorld) -من إنتاج شبكة (HBO) معرفة إجابتها. تقتبس أحداث المسلسل من الفيلم الذي أُنتج في العام 1973 ويحمل نفس الاسم، من تأليف وإخراج مؤلف فيلم حديقة العصر الجوراسي مايكل كرايتون.

هذا العمل الدرامي الملحمي من إبداع جوناثان نولان وزوجته ليزا جوي، والذي تدور أحداثه في المستقبل، تحديدًا بعد 30 عامًا، حيث تمتلئ المنتزهات الترفيهية بالروبوتات التي تشبه البشر، ومهمتها الأساسية هي تلبية أكثر الملذات والرذائل الإنسانية: الجنس، العنف، القتل، وكل ما يخطر لك ببال.

«WestWorld» هو واحد من تلك المنتزهات الترفيهية، التي أنشأتها شركة ديلوس «Delos»، حيث يمتلئ المنتزه بالنسخة الرومانسية من الغرب الأمريكي القديم، مثل رعاة البقر والهنود الحمر والخارجين عن القانون ولصوص القطارات.

تسكن الروبوتات التي تشبه البشر -يطلق عليهم المضيفون في المسلسل- هذا المنتزه، ويمكن استغلالها من قبل الأثرياء من بني البشر -يطلق عليهم الضيوف- بدون تحمل عواقب أفعالهم.

(هناك حرق لبعض أحداث الموسم الأول من المسلسل في الجملة القادمة).

ولكن هناك مشكلة واحدة فقط، وهي أن هذه الروبوتات اكتسبت الوعي في نهاية الموسم الأول، وبدأت في قتل صانعيها وسادتها من البشر بدون رحمة.


ما هو مفهوم الوعي؟

ما معنى أن تكون واعيًا؟ لماذا تدرك العالم من حولك بهذه الطريقة التي تدركه بها؟ ما الذي يدفعك لتفكر فيه من وجهة نظرك؟ هل الطريقة التي تختبر بها الأحاسيس والمحفزات هي نفسها لدى الجميع، أم أنها فريدة من نوعها مثل بصمات أصابعك؟

هذه الأسئلة ليست بجديدة على الإطلاق؛ فلقد كانت في جوهر وصميم التفكير الفلسفي منذ أن عُرفت الفلسفة ذاتها، حتى قبل أن يظهر فلاسفة مثل رينيه ديكارت وجون لوك، وربما نبتت من الجذور الأصيلة للوعي نفسه.

ربما كان الوعي هو أكثر جوانب العقل غموضًا، وعينا بتجاربنا، ووعينا بالعالم من حولنا. ويمكن القول إن مشكلات الوعي هي إحدى أهم القضايا في النظريات التي تختص بدراسة العقل البشري حاليًا.

على الرغم من عدم وجود نظرية موحدة لتعريف الوعي، فنحن بحاجة لفهم كل من مفاهيمه المختلفة، وكيف ترتبط بمختلف نواحي الحياة.

فكلمة «الوعي» والصفة «واعٍ» هي مصطلحات جامعة تغطي مجموعة واسعة النطاق من الظواهر العقلية؛ فيستخدم كلاهما مع معانٍ متنوعة، كما أن صفة الوعي غير متجانسة في نطاقها، إذ يمكن تطبيقها على مختلف الكائنات الحية (وعي المخلوقات)، وكذلك على حالات وعمليات عقلية معينة (حالة الوعي).

يمكن إطلاق صفة الوعي بامتلاك عدد من الحواس المختلفة:

الإحساس: يمكن اعتباره بمثابة الوعي بالمعنى العام، والذي تمتلكه كل الكائنات الحية، وهو ما يعطيها القدرة على الشعور والاستجابة للعالم ومحفزاته من حولها.

اليقظة: هنا يمارس الكائن الحي هذه القدرة، بدلًا من مجرد امتلاكها فحسب؛ لذا يمكن اعتباره بمثابة الوعي في حالة إذا كان الكائن الحي متيقظًا ومنتبهًا.

الوعي بالذات: وهو المعنى الثالث والذي يعد الأصعب، والذي يمكنه تعريف المخلوقات الواعية على أنها ليست فقط واعية، ولكنها تعي بأنها واعية، ومن ثمّ يُعرف وعي المخلوقات هنا بالوعي بالذات.

ويمكن تفسير متطلبات الوعي بالذات بطرقٍ متعددة، وأي الكائنات يمكن أن ترقى لهذا التعريف بهذا المعنى ستختلف تبعًا لذلك. فإذا أخذنا في الاعتبار أنه يتضمن الوعي الذاتي المفاهيمي الواضح، فلن يرتقي الحيوان وربما الأطفال الصغار لهذا التعريف. ولكن إذا تضمن الشكل الأولي الضمني للوعي الذاتي فيمكن اعتبار مجموعة كبيرة من المخلوقات واعية ذاتيًا.

مؤسس المنتزه الترفيهي في مسلسل (WestWorld) وهو روبرت فورد -والذي يلعب دوره العبقري القدير أنتوني هوبكنز- كان يشرح لمساعده برنارد أن صديقه وشريكه في هذا المنتزه أرنولد كان مهووسًا بمحاولة «خلق الوعي» لدى الروبوتات أو المضيفين. فأعطاهم أرنولد قوى الذاكرة والارتجال والحرص على المصلحة الشخصية، ولكنه ظل يبحث عن مفتاح آخر للوعي حتى وفاته. وبطريقة أو بأخرى -من خلال المتاهة- وجد المضيفون طريقهم إلى اكتساب الوعي.


نهوض وعي الآلة

التطورات التي أحرزناها في مجالات علوم الكمبيوتر والروبوتات والذكاء الصناعي مذهلة للغاية، وهي ما زالت مجالات حديثة نسبيًا. ويعد قانون مور مثالًا جيدًا لكيف تتغير الأمور سريعًا؛ فقد لاحظ جوردن مور، في العام 1965، أن عدد الترانزستورات التي يمكن وضعها على شريحة من السيليكون قطرها بوصة واحدة (2.54 سم) يتضاعف كل عام، وهو نمط زيادة لوغاريتمي. وفي ذات الوقت تقلص حجم هذه الترانزستورات حتى وصل إلى حجم النانو.

وفي علم الروبوتات، توصل المهندسون إلى صنع آلات تمتلك عدة نقاط للتعبير؛ إذ أن بعض الروبوتات يمتلك مصفوفة من أجهزة الاستشعار، والتي يمكنها جمع معلومات عن البيئة المحيطة بها، مما يسمح للروبوت بمناورة العقبات البسيطة في مساره؛ فمثلًا الروبوت الخاص بشركة هوندا (ASIMO robot) يمكنه صعود الدرج والركض ولعب الكرة.

ومن التصنيع إلى استخدامها في التطبيقات العسكرية، تحدث الروبوتات في عصرنا تأثيرًا هائلًا. لكن، على الرغم من تطور أجهزة الكمبيوتر والروبوتات أكثر من أي وقت مضى، لكنها تظل مجرد أدوات نستخدمها فحسب. فبإمكاننا الاستفادة منها، خاصةً في المهام التي تمثل خطورة على الإنسان، أو التي قد تستغرق وقتًا كالدهر لتكتمل بدون مساعدة الحاسب. ومع ذلك، تظل هذه الروبوتات والأجهزة غير مدركة لوجودها المادي، ويمكنها فقط تنفيذ مهام برمجها عليها الإنسان.

اقرأ أيضًا: الإنسان: العقبة الجديدة التي سيزيحها التقدم

مسألة اكتساب الآلة للوعي، ليست بالسؤال السهل على الإطلاق كما يمكن لك أن تتخيل. فلا يزال أمامنا شوط طويل لنقطعه في فهم الوعي البشري من الأساس. بينما يمكن للمبرمجين وعلماء الكمبيوتر ابتكار خوارزميات يمكنها محاكاة التفكير الإنساني ولكن على مستوى سطحي، ليظل تفكيك الشفرة اللازمة لإعطاء الوعي للآلة بعيد المنال؛ وجزء من هذه المشكلة يكمن في تعريف مفهوم الوعي البشري ذاته.

يمكننا القول إنه من خلال أجهزة الاستشعار، تستطيع الروبوتات أن تختبر -أو على الأقل تستشعر- المحفزات الخارجية، التي يمكن أن نفسرها نحن كأحاسيس. ولكن تجدر الإشارة إلى أن هناك مكونات أخرى للوعي، مثل التحدث مع الذات، والعواطف، والأحلام، والخيال، وهي كلها عناصر يمكن فقط -حتى الآن- للإنسان امتلاكها، وليس الآلة.

لا يتفق جميع الفلاسفة على مفهوم الوعي، ولكن ما اتفقوا عليه هو أنه جزء من العقل البشري. ونحن ما زلنا لم نفهم بعد آلية امتلاكنا لهذا الوعي. وبدون هذا الفهم، سيصبح من الصعب للغاية أن نمنح هذا الوعي للآلة، فمن الممكن ابتكار برامج تحاكي الفكر الإنساني؛ لتعطي القدرة للآلة على التعرف والاستجابة للأنماط المختلفة. ولكن في نهاية المطاف، الآلة ليست واعية لوجودها، فهي تستجيب ببساطة لمجموعة من الأوامر والأكواد.

يمكن لعلماء الأعصاب والكمبيوتر أن يتصوروا ابتكار نموذج صناعي للعقل البشري الذي يمكنه أن ينتج الوعي في النهاية، لكن المشكلة التي يواجهها هؤلاء العلماء ليست هينة؛ بما أننا ما زلنا لم نمتلك الفهم الكامل لكيفية عمل العقل البشري، فإن خلق نسخة صناعية منه ربما لن تكون مناسبةً لخلق وعي الآلة.

وعلى الرغم من كل هذه التحديات، فهناك فرق من المهندسين والعلماء حول العالم يحاولون العمل على خلق هذا الوعي الصناعي. ويبقى لنا الانتظار، لنرى إذا ما كانوا سيحققون هدفهم أم لا. ولكن بافتراض أننا تمكنا من إيجاد سبيل لخلق وعي الآلة، ما الذي يمكن أن يحدث حينها؟ ما الذي سيحدث عندما لا يظل الوعي شيئًا فريدًا من نوعه؟ ما الذي سيحدث عندما يسقط معقل الإنسانية المتفرد الأخير؟


معضلات أخلاقية وسيناريوهات تخيلية

هذا الوعي الصناعي يمكنه أن يفسح المجال لتساؤلات أخلاقية خطيرة؛ إذا امتلكت الآلة الوعي بذاتها، هل يمكنها أن تتفاعل بصورة سلبية تجاه المواقف التي تتعرض لها؟ هل يمكن للآلة أن تعترض على عبوديتها، واستخدامها كمجرد أداة؟ هل ستمتلك مشاعر مثل الحزن، الفرح، أو حتى الغضب؟

هناك جدل كبير يدور حول هذا الموضوع تحديدًا. وبما أننا لم نتمكن بعد من خلق مثل هذه الآلة الواعية، فمن المستحيل القول ما هي المميزات التي سوف تمتلكها أو تنقصها. ولكن إذا اكتسبت الآلة القدرة على التعبير عن نفسها، فقد يتطلب منا أن نعيد النظر في الطريقة التي نراها بها.

ففي أي المراحل يصبح من الضروري للآلة التي تمتلك هذا النوع من الذكاء والوعي أن نمنحها حقوقًا قانونية مثلًا؟ أو هل ستظل هذه الآلات كأدوات نستخدمها، وتعتبر نفسها كعبيد؟

لطالما شكّّل وعي الآلة حجر الأساس لعدد من أفلام الخيال العلمي الذي يمثل نهاية العالم. فبعض الأفلام مثل (The Matrix) و(The Terminator) تقدم تصورًا قاتمًا للعالم، حيث استعبدت هذه الآلات البشر، وأخضعتهم لسلطتها، وتعتمد هذه السيناريوهات على مفهوم تطور الاستدعاء الذاتي.

يشير هذا المصطلح إلى القدرة النظرية للآلة على فحص نفسها، ثم اكتشاف طرق جديدة يمكنها أن تطور من تصميمها، وبعد ذلك إما تعدل نفسها أو تقوم بصنع نسخ جديدة ومتطورة من الآلات. وسيكون الجيل الجديد من الآلات أكثر تطورًا وذكاءً وتصميمًا من الجيل السابق.

بالتأكيد سوف تملك الآلات البراعة الكافية لتطوير نفسها، بما أن معدل تطور التكنولوجيا نفسها يسير بوتيرة متسارعة للغاية. وسيكون علينا حينها إعادة تعريف الواقع، لأنه لن يمثل الحاضر على الإطلاق. ويُطلق على هذه المرحلة التفرد التكنولوجي.

ولكن في هذا العالم، ما الذي سيحدث للبشر؟

في بعض السيناريوهات، نندمج مع هذه الآلات؛ فيصبح كل من الوعي البشري والصناعي شيئًا جديدًا تمامًا. ولكن في سيناريوهات أخرى، تستنتج الآلات أن وجود البشر لم يعد ضروريًا بعد الآن. وفي أفضل الأحوال، سوف تتجاهلنا، لتستكمل مسيرة البناء التكنولوجي المبهر الخاص بها. وفي أسوأ الأحوال، تقوم الآلات بإبادتنا من على وجه الأرض، إما كرد فعل للحفاظ على وجودهم، أو ربما من أجل الانتقام فحسب.

ولكن تظل هذه السيناريوهات محل جدل كبير؛ فربما لا نتمكن أبدًا من معرفة سر خلق وعي الآلة.

فمن المحتمل أن يكون الوعي البشري فسيولوجيًا في الأساس، ولا يمكننا محاكاته صناعيًا. ورغم كل هذا، وفقط في حالة إذا تمكنا من معرفة هذا السر، فربما ترغب أن تعامل جهاز الكمبيوتر الخاص بك بصورة أفضل، فمن يعلم؟ ربما طالبك بحقوقه في المستقبل!