المنتجات الألمانية ليست الأقل سعرًا، ولكن جودتها الفائقة وأداءها يجعلانها جديرة بالثمن.
الكاتب الأمريكي «تشارلز ويسنر».

لعلك تجولت يومًا ما في إحدى المحال التجارية، تتفقّد البضائع راغبًا في الشراء، تُعرَض عليك المنتجات ثم يتدخل البائع لإقناعك قائلًا بثقة: «هذا صناعة ألمانية».

لا شك أن هذه الجملة قد تُحفِّزك للشراء؛ المنتجات الألمانية ذات صيت واسع؛ الجودة والأداء والمتانة والعمر الافتراضي الطويل. لكن لماذا ألمانيا من أقوى بلدان العالم في عالم الصناعة والماكينات؟

الاهتمام المبكر بالتعليم

حتى القرن الثامن عشر كانت ألمانيا عبارة عن ممالك غير مُوحدة، من بين هذه الممالك كانت مملكة «بروسيا»، إحدى مناطق شرق ألمانيا، هناك تولّت إحدى الحركات اللوثرية وقتها تعليم وتنشئة الأطفال الأيتام، وبالإضافة إلى النشاط التجاري لهذه الحركة أصبحت تمتلك العلم ورأس المال، فساهم ذلك كثيرًا في تطوير الوضع العام للمملكة، وأصبحت نواة صناعية وتجارية قوية.

وبقدوم عصر النهضة إلى ألمانيا، وتزامنه مع التوسع في إنشاء الجامعات كجامعة برلين، وجعل التعليم إجباريًا لكل الأطفال، وفرض إصلاحات في القواعد العامة للمملكة، أصبحت بروسيا إحدى أهم البلدان في أوروبا كلها، مما منحها تفوقًا استثنائيًا، حتى أنها أصبحت تمتلك ثاني أقوى صناعة في أوروبا بعد بريطانيا.

حتى أن تقدم بريطانيا وقتها قد خدم بروسيا بشكل غير مباشر، ذلك بأنها كانت تستفيد من تقدم نظيرتها بريطانيا في الصناعة بأن تتفادى أخطاءها قبل أن تقع فيها. وبقدوم عام 1871 توّحدت بقاع ألمانيا لتنتشر تجربة بروسيا في أنحائها.

ورغم ذلك، فقد شهدت ألمانيا قدرًا من اللا مركزية، وهو ما قلّل من تمركز الخدمات والفرص والتعليم في بقعة محدودة، كما أدى ذلك إلى تحجيم الفجوات التعليمية بين أنحائها.

الحروب العالمية كدافع للتقدم

على الرغم من الوجه السيئ للحروب إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن عددًا غير بسيط من الصناعات والاختراعات قد بدأت إبان الحروب أو بسببها، وكذلك الحال في ألمانيا، فقد خلقت الحروب الحاجة لتطوير الكثير من الصناعات بل وحتى بدئها من الأساس. فبسبب انخراطها في الحرب العالمية الثانية، ازدهرت وتطورت صناعة آلات التشفير في ألمانيا ومن بعدها في العالم كله، آلة «إنجما» مثال على ذلك، فقد كانت أحد أهم النقلات في تطوير صناعة آلات التشفير، والتي فتحت الأبواب على مصراعيها فيما بعد للتوسع في علوم الحواسب.

وكذلك صناعة الطائرات التي شهدت تطورًا غير مسبوق، ليس فقط من حيث زيادة العدد، ولكن أيضًا من حيث تطوير المحركات والإمكانيات الجديدة.

ومن جانب آخر، عندما خسرت ألمانيا في الحربين العالميتين وجدت نفسها أمام وضع اقتصادي مزرٍ، جعل العمالة الألمانية تقبل بأجور زهيدة نظير عملهم في الصناعة؛ ولكن المساهمة في نهضة بلادهم من جديد كان شيئًا يعنيهم؛ فالشعور بالمسئولية المجتمعية جزء من ثقافة الألمان. وقد سمح هذا التحجيم من الإنفاق على الأجور في زيادة الإنفاق على الأبحاث والاستثمار فيها، وبالتالي استمرارية الإنتاج بجانب تطوير صناعاتهم.

ويمكن الإشارة هنا إلى مصطلح «الميتلشتاند»، وهي الشركات الألمانية الصغيرة والمتوسطة، ويُرمَز لها بأنها العمود الفقري لاقتصاد الدولة. وقد ساهم الانتشار الواسع لهذا النوع من الشركات –والتي وصل عددها إلى حوالي مليون شركة- في خلق تنافسية شديدة، مما أدى إلى زيادة الإنتاج في ألمانيا بشكل عام.

أنظمة التعليم الحرفي

تفتخر ألمانيا بأنها تمتلك نظام تعليم مميز يدمج بين التعليم الأكاديمي والتدريب الحرفي لاكتساب المهارات بفاعلية، يساعد هذا النظام على اكتساب المهارات وصقلها في وقت مبكر بجانب مواكبة التطورات العلمية والتقنية حول العالم، إذ يتلقى حوالي 1.3 مليون دارس هذا النظام سنويًا، وتتراوح مدة التدريب من سنتين إلى أربع سنوات، وقد تصل نسبة التدريب العملي إلى 60% والدراسة النظرية إلى 40%. كما أن نسبة كبيرة من الطلاب المتدربين يلتحقون بالشركات التي تدربوا فيها كموظفين بعد إنهاء فترة التعليم.

وتحتل العديد من الجامعات الألمانية مراكز متقدمة في مجالي العلوم والهندسة، كما أن ألمانيا تُولي اهتمامًا شديدًا بالأبحاث العلمية في مجال الصناعة، إذ إنها في عام 2016 أنفقت حوالي 53.4 مليار يورو على الأبحاث العلمية في مجال الصناعة فقط.

مبادئ العمل في ألمانيا

قد تعتقد أن التطور التقني الذي يحظى به الألمان هو نتيجة لعبقريتهم الاستثنائية، لكن الحقيقة أن تميزهم هو ثمرة ثقافتهم في العمل وبعض عاداتهم ومبادئهم أيضًا. حيث يَشتهر الألمان بالاحترام البالغ للمواعيد وللوقت بشكل عام، وبالسعي نحو الاحترافية والمعايير المرتفعة والتفاني في العمل.

والمتتبع لتاريخ ألمانيا في الصناعة سيجد الكثير من الماكينات والآلات التي كان مَهدها في ألمانيا، مثل: عداد سيارات الأجرة والذي ظهر على يد العالم الألماني «ويليام بروهن»، وأول عداد للإشعاع النووي «عداد جيجر» والذي ظهر على يد «هانز جيجر»، وأول آلة لطباعة الكتب على يد «جوتنبرج»، والميكروسكوب الإلكتروني عام 1931 على يد «ماكس نول» و«إيرنست راسكا».

كل ما سبق كان كافيًا حتى تُعتبر الصناعة الألمانية فخر ألمانيا حقًا وتتفوق فيه على نظيرتيها في بريطانيا وفرنسا، إذ إن نسبة مشاركة الصناعة في إجمالي القيمة المضافة لاقتصاد ألمانيا بلغت في 2017 حوالي 24.3% مقارنة بإنجلترا التي حققت 10.1% وفرنسا التي حققت 12.7%.

وبشكل عام فإن الصناعة متقدمة في ألمانيا، ولكن صناعة السيارات والمواد الكيماوية والصناعات الإلكترونية والميكانيكية هي أهم الصناعات، حيث وصلت إيرادات الصناعة وحدها في عام 2017 إلى 1893 مليار يورو.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.