لم تفاجئ تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون المسيئة للإسلام أحداً لا في بلدان العالم الإسلامي، ولا في أوساط الجاليات المسلمة في المجتمعات الأوربية والأمريكية، وظهر الجميع وكأنهم في خضم مآزق متعددة الأبعاد ومتشابكة الأطراف. وحديثي ها هنا عن «المفاجأة»، وليس عن «الاستنكار»، أو «الترحيب». وفعل تفاجأ في اللغة يعني: بُغت بما لم يتوقعه. و«عدم المفاجأة» في تصريحات ماكرون هو «المفاجأة بعينها» في هذه المسألة، وهذا هو ما أناقشه ها هنا.

تصريحات ماكرون بشأن الرسوم الكاريكاتورية المسيئة إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم)؛ كانت متوقعة لدى الغالبية العظمي من أبناء الأمة الإسلامية لأنها -في نظرهم- امتداد لعداء «فرنسا» التاريخي طويل الأمد للإسلام وحضارته وشعوبه، ففرنسا كانت دوماً في مقدمة الهجمات «الصليبية» على الشرق الإسلامي: بدءً بالحملة الصليبية الأولى (1096/1099م) -التي جاءت تلبية لدعوة البابا أوربان الثاني عامة 1095م في كليرمونت جنوب فرنسا من أجل انتزاع القدس وعموم الأراضي المقدسة من أيدي المسلمين وإعادتها للسيطرة المسيحية- وصولاً إلى حملة «ماكرون» بتلك التصريحات المسيئة للإسلام، وقوله إن الإسلام في أزمة، مروراً بموقف فرنسا الرافض لانضمام تركيا للاتحاد الأوربي بحجة أن تركيا مسلمة وأن الاتحاد «ناد مسيحي» على حد تعبير «جيسكار ديستان» الرئيس الفرنسي الأسبق، ومروراً أيضاً بالمذابح المروعة التي ارتكبتها فرنسا في حملتها الهمجية على مصر بقيادة نابليون، وسياساتها الوحشية في مستعمراتها في أفريقيا وبلدان المغرب العربي، وبخاصة في الجزائر التي رزحت تحت الاحتلال الفرنسي وراحت ضحية سياسات النهب والقتل على مدى 130 عاماً متواصلة، ودفعت مليوناً ونصف المليون من الشهداء في سبيل الحرية والاستقلال.

ولكن، كان المفترض -نظرياً على الأقل- أن تصريحات ماكرون سوف تُفاجئ عموم أبناء الأمة الإسلامية، وخصوص الجالية المسلمة في فرنسا؛ باعتبار ما بذله من وعود انتخابية، أكد فيها على وجوب احترام التعددية وحقوق الإنسان ودغدغ مشاعرهم عندما ذهب إلى وجوب الاعتذار للجزائر عما اقترفته فرنسا في حقها إبان الحقبة الاستعمارية. كان المتوقع أن يفي ماكرون بوعوده تلك، فإن لم يفعل فليس أقل من أن يصمت ولا يأتي بمثل تلك التصريحات المشينة والتي تنقض كل ما وعد به في حملته الانتخابية.

لم يتفاجأ بتلك التصريحات أيضاً أغلب أصحابَ التوجهات العلمانية (الليبرالية واليسارية والقومية) من أبناء الأمة؛ سواء منهم الذين يعيشون في بلدان العالم الإسلامي أو أولئك الذين يعيشون في بلدان المهجر الأوروبي أو الأمريكي. وكان من المتوقع مثلاً أن نجدهم يعبرون عن خيبة أملهم في الخطاب الشعبوي الفج لماكرون، وفيما يسمونه «القيم المدنية»، وفي «العلمانية» و«حقوق الإنسان»؛ التي يعتقدون أنها لا تعادي الأديان وتحترم الحريات الدينية. وكان من المتوقع أن نسمعهم يصرخون بأعلى صوت لإدانة تلك التصريحات بعد أن كشفت خديعة ماكرون والشعارات البراقة عن «الحرية» و«حقوق الإنسان»، وحيادية «الدولة» العلمانية تجاه الأديان والمعتقدات والمذاهب.

والمفاجأة ها هنا أن أحداً من هؤلاء العلمانيين لم يشعر بالمفاجأة!، ولم ينبس ببنت شفة؛ لا دفاعاً عن الإسلام أو عن رسول الله فهذه قضية لا تعنيهم، وإنما دفاعاً -على الأقل- عن القيم التي يزعمون أنهم يؤمنون بها بشأن احترام «الآخر»، وحرمة الاعتداء على مقدساته، وعدم الخلط بين الدين والسياسة، وأن «الدين» شأن خاص بين العبد وربه، ومبدأ حيادية الدولة، إلى آخر هذه المعزوفة التي فضحتها تصريحات ماكرون ولم يستر منها شيئاً.

المفاجأة مرة أخرى تمثلت في: أن العلمانيين في بلادنا -بمجموعاتهم المختلفة- صمتوا حيث كان عليهم أن ينطقوا رفضاً لتلك الإهانة المعنوية التي من المفترض أن تصيبهم في صميم وعيهم المدني ذاته، لا الديني. والمفاجأة أنهم نطقوا حيث كان عليهم أن يصمتوا بشأن دعوات مقاطعة فرنسا اقتصادياً، وبشأن مظاهر الاحتجاج التي عبر بها بعض المسلمين عن الغضب من تلك الرسوم والتصريحات المسيئة.

وبدلاً من أن يلتزم العلمانيون والحداثويون في بلادنا الصمت في الحد الأدنى، وجدناهم ينطقون بعبارات السخرية والاستهزاء من تلك الدعوات السلمية لمقاطعة البضائع والسلع كنوع من «حرية التعبير». وكان الأجدر بهم أن يقبلوا بتلك الاحتجاجات ويرحبوا بها باعتبارها من قبيل حرية التصرف أيضاً، وليس التعبير فقط، طبقاً لقواعد السوق الرأسمالي «الحر»!؛ فمن قواعد هذا السوق: حرية الدخول والخروج إنتاجاً واستهلاكاً، بيعاً وشراءً، بلا ضغط أو إكراه!، وقد انضم إلى أولئك «الحداثويين» بعض «علماء السلطة» في هذا النطق العبثي اللامعقول، وجميعهم ذهبوا إلى قول واحد هو: أن حرية التجديف (ارتكاب الخطأ في العقائد) مكفولة في ظل علمانية الدولة التي تفصل الدين عن السياسة. وبعضهم كتب ما كتب وهو يتحسس جواز سفره طمعاً في استمرار تمتعه بتأشيرة الشنغن لا أكثر ولا أقل.

ما يستحق المناقشة في هذه المسألة بحق هو «الحجة» التي استند إليها ماكرون في تصريحاته المسيئة وهي: أن فرنسا لن تتخلى عن «حرية التعبير»، وأن المدرس الذي عرض الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم «كان يجسد الجمهورية الفرنسية». وقال إن بلاده «لن تتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية». وقال أيضاً: «تعرضنا للهجوم بسبب قيمنا وحريتنا ولن نتخلى عنها» (سي.إن.إن 29 أكتوبر 2020). ولم يفلح ماكرون في سحب هذه التصريحات في حواره الفاشل مع قناة الجزيرة يوم 31 أكتوبر 2020م؛ أي بعد يومين فقط من تصريحاته، وكان حواره محاولة لكبح جماح حركة مقاطعة البضائع الفرنسية في كل أرجاء العالم الإسلامي، وكان محاولة أيضاً لامتصاص مشاعر الغضب المتصاعد بالتأكيد على أنه «يتفهم صدمة المسلمين من الرسوم الكاريكاتورية»!

الموضوع الذي دافع عنه ماكرون ورفعه إلى مستوى «سياسة الجهورية» هو: «رسوم كاريكاتورية» تسيئ للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتسخر من عقيدة أخرى غير عقيدة ماكرون وجمهوريته، وغير العقيدة التي يعتنقها صاحب تلك الرسوم، وغير عقيدة المدرس الذي عرضها على تلاميذه وراح ضحية لهذا الفعل على يد شاب شيشاني غاضب لا يمثل إلا نفسه.

وبحسب منطق ماكرون ومشايعيه فإن المطلوب هو أن «يصمت» أصحاب العقيدة المعتدى عليها احتراماً لـ «حرية التعبير». حسناً: ولكن السؤال الآن هو: هل يعني ذلك أن يكون من حق بعض المسلمين أن يسخروا من عقيدة صاحب تلك الرسوم ومن مبادئ وقيم جمهورية ماكرون ومن ماكرون نفسه؟ وهل عليه أن يصمت ويصمتوا على تلك السخرية باعتبار أن ذلك من باب حرية التعبير المقدسة، وأن العين بالعين؟ لو كان الجواب نعم -وهو مؤدى الحجة التي يستند إليها ماكرون- لكنا بصدد حالة عبثية لا معنى لها سوى التمهيد لحرب شعواء، تراق فيها الدماء على الدماء؛ وتكون فيها طموحات ماكرون السياسية ورغبته في جذب أصوات اليمين المتطرف لتأييده في الانتخابات المقبلة أغلى من هذا الثمن الكارثي الباهظ من دماء الأبرياء جراء مثل تلك التصريحات؟!

وإذا كان ماكرون يرى أن حجته هي «حرية التعبير»، وأن هذه الحرية مطلقة بلا قيد ولا شرط؛ لأنها تلخص «الجمهورية» على حد قوله، وأن له أن يمارسها من طرفه ضد طرف أو أطراف أخرى، وأنه لا حق لهذه الأطراف في ممارسة مماثلة، وبخاصة إن كانوا «مسلمين»؛ فبمَ نُسمي هذا المنطق؟، ومنْ من فلاسفة التنوير الأوربي قال به؟ وأين هذا كله مما ذهب إليه فلاسفة التنوير وآباء الحداثة في أوروبا التي يدّعي ماكرون أنه يدافع عنها وعنهم، من أمثال: مونتسكيو، وجان جاك روسو، وديكارت، وجون ستيوارت ميل وغيرهم؟

هؤلاء رغم إيمانهم بالحرية الشخصية والاستقلال الفردي؛ إلا أنهم -بلا استثناء- أقروا بأن بعض الأحوال تقتضي تقييد حرية الفرد، ومن ذلك على سبيل المثال قول جون ستيوارت ميل:

أُقررُ أن المصالحَ لا تبيح إخضاعَ حريةِ الفرد للتحكم والإرغام إلا بالنسبة للتصرفات التي تتناول شئون الغير؛ فإذا أتى المرء فعلاً ضاراً بغيره استحقَ الجزاء بلا نزاع؛ إما بصولة القانون، أو بحكم الرأي العام حيثما لا يؤمن تدخل القانون.
(كتاب: الحرية، ترجمة طه السباعي باشا، 1922، ص31).

ونحن نقرر أيضاً أن «حرية التعبير» من صميم الحرية ولباب مقرها في الضمير الإنساني، وأن أعلى درجات الالتزام بهذه الحرية هي التي تدفع الفرد إلى التشدد في محاسبة نفسه، حتى يلجمها عن التعرض بالأذى للغير في مصلحته أو عقيدته؛ حتى لا يقع تحت طائلة القانون أو طائلة الجزاء الذي يقرره الرأي العام.

لو أن ماكرون –وأمثاله- يؤمنون حقاً بالحرية بهذا المعنى المتأصل في فلسفة الأنوار الأوربية، لكان عليه أن يبادر إلى مطالبة الجهات المسئولة بمعاقبة الذي رسم الرسوم المسيئة أول مرة، والصحيفة التي أعادت نشرها، والمدرس الذي عرضها على التلاميذ، وكل من روجها، لا دفاعاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن دفاعاً عن قيم «الجمهورية» الفرنسية ذاتها؛ بدلاً من أن يهرول لبسط حماية «الدولة» على تلك الانتهاكات، والمطابقة بينها وبين «الجمهورية»، وكأننا أمام زعيم من زعماء العالم الذي يسمونه «الثالث».

هب أن ماكرون امتثل لقانون الحرية وطالب القضاء بمعاقبة المدرس الذي استفز بتلك الرسوم مشاعر مليار ونصف المليار من المسلمين قبل أن تقع واقعة الاعتداء الآثم الذي أودى بحياته؛ أكان ذلك يعني أن فرنسا قد تخلت عن قيمها؟ أو أنها قد أهدرت «حرية التعبير»؟! هل كان لأحد سليم المنطق أن يتهم ماكرون بأنه أهدر حرية التعبير وأطاح بقيم جمهورية فرنسا؟ ومتى كان السباب والاستهزاء جزءاً من حرية التعبير؟ وكيف يُحاجج من يتبنى مثل هذا الرأي ليبرهن على صواب موقفه؟ اللهم إن كان الهجوم على الإسلام تحديداً هو كل ما تبقى من موضوعات «حرية التعبير»، فإذا منعنا هذا الهجوم، زالت حرية التعبير!

قبل الحادثة المؤسفة لمقتل المدرس الذي عرض الرسوم المسيئة على تلاميذه، كان ماكرون قد صرح بتصريحات أدان فيها ما سماه «الإسلامية الانفصالية» في فرنسا، وأن «الإسلام يعيش في أزمة في كل مكان في العالم». ولم تخرج تلك التصريحات عن «الخط» الهجومي الذي يتبناه اليمين الأوروبي منذ أعوام تجاه الإسلام والجاليات المسلمة التي تعيش هناك. وأمام تكرار هذا الهجوم علينا أن نسأل: هل المسألة تتعلق فقط بالشعبوية والمنافسات الانتخابية في الدول الأوربية ومنها فرنسا كما يعتقد البعض، ومنهم فضيلة شيخ الأزهر بحسب ما ظهر في ردوده على تصريحات ماكرون؟ أم أن المسألة لها أبعاد أخرى تتعلق بعمق الأزمة التي تعيشها «الحضارة الأوربية» برمتها؟

ما سماه ماكرون «الإسلامية الانفصالية»، وما أدعاه من أن «الإسلام يعيش في أزمة»، قولان يعبران بوضوح عن عمق أزمة الحضارة الأوربية من جهتين: الأولى أن هذه الحضارة فشلت في قبول «الآخر» الذي يمثل جزءاً لا يتجزأ من تكوينها المجتمعي؛ فالجاليات الإسلامية في أوروبا «مندمجة» بدرجات مختلفة في المجتمعات التي تعيش فيها، ولها إسهامات بارزة في الحياة العامة، ولكنها «غير منصهرة» في تلك المجتمعات. نعم هي غير منصهرة ولن تنصهر في تلك المجتمعات.

ويبدو أن ماكرون لا يميز بين الاندماجIntegration  والاستيعاب أو الانصهارAssimilation . والاندماج هو أقصى ما يمكن عمله من جانب الجاليات المسلمة في المجتمعات غير المسلمة باعتبارها أقليات فيها، وهو يعني أن عليها الانخراط في الحياة العامة واحترام النظم والقوانين والقيم السائدة دون الذوبان فيها، والاحتفاظ بهويتهم الخاصة وعقيدتهم التي يؤمنون بها، وهو ما تقوم به الجاليات المسلمة خير قيام في فرنسا وفي غيرها من البلدان الأوربية والأمريكية. أما الاستيعاب فهو يعني الانصهار الكامل والذوبان في هوية تلك المجتمعات والتنكر لأية أصول أو خلفيات ثقافية أو عقائدية أو قيمية أو أخلاقية، و«إحلال» بدائل لها من معطيات هذا المجتمع الأوربي أو ذاك.

إن عدم نجاح سياسة «الاستيعاب» هو ما يُقلِق اليمين الأوروبي والأمريكي على السواء، وهو ما سماه ماكرون «الانفصالية الإسلامية»؛ بمعنى أنه لا اعتراض لديه، أو حتى لدى اليمين المتطرف، في بقاء الجاليات المسلمة في فرنسا أو في غيرها، بشرط أن تنصهر في المحيط الاجتماعي الذي تعيش فيه، وإلا فإنها ستكون موضع «تمييز» صريح على أساس ديني، حتى لو كان ذلك على حساب فقدان «حيادية الدولة» تجاه الأديان المختلفة؛ أي حتى ولو كان ثمن ذلك هو التضحية بركن أساسي من أركان «علمانية» الدولة، وقيم الجمهورية.

وتشير تصريحات ماكرون إلى أن بعض أقسام الطبقة السياسية الأوربية من اليمين ويمين الوسط وبعض اليسار؛ باتت مستعدة لدفع هذا الثمن، وهنا مكمن المأزق، وموطن الخطر على قيم الحداثة والتمدن في حاضر الحضارة الأوربية ومستقبلها. أما الإسلام والمسلمون، فلا خشية عليهم إلا في اللحظة التي ينام عنهم خصومهم وخصوم دينهم.