كان المارة في هذا الشارع الرئيسي من تلك المدينة الساحلية الساحرة قد بدأوا يعتقدون أنه مجذوب كسائر المجاذيب الذين تلقي بهم الحياة في مدينتهم، رجلٌ ضخم الجثة رث الثياب يبدو شعر رأسه ولحيته كالطحالب الكثيفة التي يلقي بها البحر على شطآن مدينتهم، يبيت ليله على رصيف الطريق في سلام ويقضي نهاره شاردًا يقلب فيما يبدو أنها كتب قديمة، وينتظر من المارة ما يلقونه له من عملات فضية لا تكاد تكفي وجبة من مطعم شعبي مجاور لرصيفه، فيعطيه أحد العاملين هناك ما يزيد عن قيمة عملاته ليسد رمقه.

مرت شهور طويلة وهو على هذه الحال وقد اعتاده الناس حتى بات في أنظارهم كحجر من أحجار الرصيف الذي يرقد عليه لا يلفت أنظار أحد ولا يثير اهتمام أي مخلوق، حتى القطط والكلاب الضالة كانت قد اعتادت رائحته المنفرة.

ذات صباح مرّ صاحبنا بجوار هذا الرجل، كالمعتاد مثلما يمر به كل يوم وهو في طريقه للجامعة التي يدرس بها الرياضيات والفيزياء، لكن هذا الصباح كان مختلفًا؛ فقد كان «المجذوب» إن جاز لنا أن نطلق عليه ذلك يقرأ بصوتٍ مسموع فيما بدا له أنه كتاب ما، وتسربت بعض كلماته إلى أذني صاحبنا وهو يمر به مسرعًا..

لمفاجأته الشديدة فقد ميّز منها مصطلحًا متقدمًا للغاية في فيزياء الكم! كان قد سمع هذا المصطلح في أحد المؤتمرات التي حضرها في فيينا العام المنصرم، حينما كان تحدث باحثٌ روسيٌ معروف عن إمكانية السفر في الزمن من خلال أبعاد كمومية تقترحها نظرية الأوتار الفائقة، اقتحم هذا المصطلح أذني صاحبنا بلغة إنجليزية متقنة أثارت دهشته لدرجة أنه شك أن المجذوب قد نطق بهذا فعلًا!

مضى في طريقه مسرعًا لأنه قد تأخر كالمعتاد على موعد محاضرته، لكنه ظل طيلة اليوم يفكر في المجذوب وكتبه وذلك المصطلح الجديد.. من عساه يكون ذلك الرجل؟ هل كان يهلوس بكلمات غير مفهومة خيل له أنه قد نطق بذلك المصطلح؟ الوقت لم يسعفه حقًا، فقد مر بجواره بسرعة وكان المجذوب منكفئًا على كتابه خافضًا رأسه يقرأ، أو يتمتم.. ربما كان هذا ما حدث بالفعل، أجل، يستحيل أن يكون هذا المجذوب قد نطق بمصطلح كهذا.. ما أدراه هو بفيزياء الكم والأوتار الفائقة! لابد أنه كان يهذي.. ارتسمت على وجه صاحبنا ابتسامة ساخرة؛ كيف صور له عقله هذا الوهم!

عاد صاحبنا إلى منزله وكان قد نسي الأمر برمته، عكف على إعداد عشاء شتوي دسم، لطالما كان يتمنى أن يعمل طاهيًا محترفًا، ولطالما راوده شغف شديد بالطهي وفنونه، تنهد بقوة ليطرد هذه الأفكار التي طالما حدثته نفسه بأنها سبب تعطل أبحاثه التي يقضي وقته فيها تتنازعه الأهواء والأحلام، اكتشف أن زيت الزيتون قد نفد، سيضطر أن يرفع الطعام من فوق الموقد حتى يطلب زجاجة جديدة من السوبر ماركت الذي يحتل ناصية شارعه، دقائق قليلة وكان قد اكتشف أن عامل التوصيل غير موجود الليلة، ويجب عليه أن يذهب ليشتري الزيت بنفسه..

تردد قليلًا؛ الطقس في نوفمبر بارد ليلًا في مدينته، وهو لا يحبذ الخروج بملابس المنزل هذه.. لكن عليه أن ينتهي من العشاء الذي قد شرع في إعداده، لاحت له من بعيد أحلام الطهو فعزم على الخروج، دثر نفسه جيدًا بغطاء رأس ثقيل وكوفية من الصوف، سيخرج بملابس البيت على أية حال، فيجب أن يسرع حتى لا يقابل أيًا من معارفه أو جيرانه الذين قد يظنون به الظنون؛ أستاذ جامعي مرموق يخرج في منتصف الليل ببيجامة النوم والروب! لكنه سيعود مسرعًا، هي دقائق فقط..

حالفه الحظ فلم يقابل أيًا من جيرانه في المصعد، وكان حارس المبنى قد اختفى من مكانه كالمعتاد في هذا الوقت المتأخر من المساء، انطلق في طريقه مسرعًا، هناك طريق مختصر إلى السوبر ماركت من ممر جانبي يؤدي إلى ناصية الشارع الرئيسي مباشرة، أجل سيسلك هذا الطريق، انعطف مسرعًا في الممر ثم تسمّر مكانه من فرط الذهول لما رآه..

رأى ذلك المجذوب وقد أشعل نارًا في برميل صدئ وأخذ يكتب على الحائط المقابل له.. لم يكن هذا ما أصابه بالذهول، بل إن ما سمّر أقدامه وأفقده عقله هو ما كتبه المجذوب على الحائط.. هذه معادلات «شرودنجر» في صورتها التفاضلية، وهذه معادلات «بيكنشتين» و«هوكينج»، وهذه إجراءات «ساسكيند» الاحتمالية.. إن المجذوب لم يكن يهذي!

أفاق من ذهوله عندما انتبه له المجذوب، ربما مكث هكذا في مكانه دقائق كاملة لا يدري ماذا يفعل.. التقت عيناه بعيني المجذوب الذي يقضي ليله في أبحاث لم يكد هو يفهمها إلا منذ سنوات قليلة بعد عقد كامل من حصوله على الدكتوراه في فلسفة الفيزياء من أكبر الجامعات الأمريكية! لم يجد أي كلمات..

أخذ يتهته مشدوهًا بهذا القدر من الرياضيات المتقدمة والفيزياء الحديثة الذي يراه مكتوبًا بطبشور قديم على حائط بالٍ: «أأنا.. حححضرتك.. الننظرية»، هكذا أخذ يتمتم كطفل بائس.. «لا تقل شيئًا»، نطق المجذوب بهذه الجملة بلهجة مطمئنة ثابتة، ليس فيها أثر لأي جنون أو اضطراب.. «فقط انظر»، استطرد المجذوب مكررًا: «انظر بدقة»..

نطق صاحبنا أخيرًا: «أنا أنظر.. أنا أرى هذه المعادلات بوضوح، وأعرف ما هي، هي تصف الاحتمال الوحيد لإمكانية السفر عبر الزمن، أليس كذلك؟»، أجابه المجذوب: «أنا لا أريدك أن تنظر إلى المعادلات، أنا أريدك أن تنظر إلى ملابسي»، ثم اقترب من جذوة النار المضطرمة في البرميل حتى يتمكن صاحبنا من أن يرى ملابسه، أخذ صاحبنا يتأمل ملابس المجذوب بذهول..

لقد كان المجذوب يرتدي نفس الملابس التي يرتديها هو بالضبط في نفس اللحظة، لكن ملابس المجذوب كانت مهترئة ومتسخة كما لو كان لم يغيرها منذ عشرين عامًا.