يُقال إن الفن الشعبي هو مرآة الشعوب ووعيها الدفين، فهو لم يكُن ليجد مُستقرًا له في أفئدة الناس بمُختلف شرائحهم الاجتماعية إلا لكونه ينطلق من مشاغل الناس اليومية وآمالهم وأحلامهم. وإذا ما مررنا بـ «راي» الجزائر و«مزود» و«راب» تونس و«راي» و «عيطة» المغرب، ودققنا في كلمات الأغاني الخالدة التي وقرت في الأذهان والذاكرة الجمعية جيلًا بعد جيل، فسنجد حتمًا احتفاءً بالهجرة كما تحتفي بها أحلام الشباب المغاربي التائق للهجرة إلى ضفة المتوسط الأخرى، الجنة المأمولة.تتشابه الأحوال في الدول المغاربية، سواء من ناحية الظروف الاجتماعية والتركيبة الديموغرافية أو الأوضاع الاقتصادية وحتى في إطلالها على ضفة المتوسط الذي يفصل شمال القارة الأفريقية عن جنوب أوروبا، فصلًا جغرافيًّا فرضته الطبيعة، وفصلًا بين مُستويات الكسب وإمكانيات العيش فرضه التاريخ والسياسة.وكما تتشابه الأحوال، يتشابه التعبير العامي عن الهجرة السرية، فالكل يتحدّث عن «الحرقة» و«الحرّاقة». قد يصعب على النحويين العرب إيجاد رابط بين هذا الجنس من الهجرة ومُرادفه الاصطلاحي، إلا أن هذه الصّلة تتجلّى متى عرفنا أن هؤلاء الحالمين بغد أفضل في دول القارة العجوز دأبوا دائمًا بمُجرّد وصولهم إلى إحدى الدول الأوروبية على حرق أوراق الثبوتية من جواز سفر وبطاقات الهوية المحلية حتى لا تتمكن سلطات الهجرة في البلد المقصود من طردهم وإعادتهم إلى بلاد إقامتهم، فتضطر لاحقًا لإطلاق سراحه.وتطوّر هذا المفهوم ليشمل كل عمليات «الحرق» الرمزي للقوانين السارية وتخطي كل الصعاب أيًا كان حجمها. فالحرّاق هو الشخص الذي يحرق (يقفز) كل الخطوات ويهجر بلده دون أن يرضخ للإجراءات البيروقراطية التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق حلمه بالسفر إلى بلد أوروبي.


ارتفاع نسق الهجرة غير النظامية في تونس

لقي أكثر من 84 شخصًا حتفهم غرقًا على السواحل التونسية في شهر يونيو/حزيران الماضي لتكون الحصيلة الأثقل على الإطلاق في تاريخ الهجرة السرية في تونس، وثاني أكبر حصيلة ضحايا في المنطقة منذ أن أعلنت الوكالة الأممية للهجرة في شهر فبراير/ شباط من هذه السنة أن نحو تسعين مهاجرًا لقوا مصرعهم حين غرق مركبهم قبالة السواحل الليبية.ورغم ما أتت به ثورة تونس من مناخات جديدة من الحريات، تصاعدت ظاهرة الحرقة في تونس بشكل غير مسبوق منذ سنة 2011، خاصة مع عجز النخب عن الاستجابة لشعارات الشغل والكرامة التي رفعتها جموع المُحتجين على نظام بن علي، والتي انتهت بإسدال الستار على فترة حكمه وأعلنت عن بداية فصل جديد من تاريخ تونس، كان مردوده دون المأمول عند هؤلاء الشباب.بحسب بعض التقديرات؛ أحبطت السلطات التونسية خلال الفترة الممتدة بين سنتي 2011 و2017 نحو 950 عملية هجرة غير نظامية عبر مراكب تتضمن في المعدّل 25 شخصًا، أي أكثر من عشرين ألف شخص، فيما تظل التقديرات حول المراكب التي نجحت في الوصول إلى السواحل الإيطالية – الوجهة الأقرب للسواحل التونسية – غير ثابتة.في السياق ذاته، أكّدت دراسة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (غير حكومي) أنجزها نهاية 2016 حول الهجرة غير النظامية في تونس، أن 54.6% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 سنة يفكّرون في الهجرة، 31% منهم لا يُعارضون فكرة الهجرة غير النظامية متى سنحت لهم الفرصة.وتشير تقديرات المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية (مُؤسسة حكومية) إلى أن عدد المهاجرين غير النظاميين بلغ منذ سنة 2011 إلى حدود شهر أكتوبر/ تشرين الأول لسنة 2017 زهاء 38 ألف مهاجر، غالبيتهم قصدوا السواحل جنوبي إيطاليا، بمعدل ستة آلاف سنويًا، فيما تشير تقديرات أخرى إلى أن عام 2011 فقط شهد وصول 22 ألف تونسي.


سردينيا لا ترحب بـ «الحراقة» الجزائريين

في منتصف شهر يونيو/حزيران الماضي أعلن خفر السواحل الإيطالي في سردينيا إنقاذ 15 حرّاقًا جزائريًا في عرض سواحل الجزيرة بعد جفاف أجسادهم. وأفادت وسائل إعلام محلية أن خفر السواحل لمدينة كاغلياري، عاصمة الجزيرة، تدخلت لإنقاذ المهاجرين الجزائريين قرب منطقة سولتشيس، لتتم العملية على مرحلتين، أُنقذ في الأولى خمسة أشخاص وفي الثانية الـ 10 المتبقين.وعبّرت الحكومة الإقليمية لسردينيا عن انزعاجها من تواصل تدفق الحراقة الجزائريين على الجزيرة دون أن تتدخل روما لإيجاد حل لهذه الظاهرة، بالتزامن مع تصعيد سياسيين لخطابهم ضد الحكومة مُطالبين بألا تتجاوز فترة مكوثهم على التراب الإيطالي الثلاثة الأشهر، وبضرورة تجميد منح وثيقة الخروج والمغادرة التي كانت تمكنهم من بلوغ البر الإيطالي عبر الباخرة.ووفق تقارير محلية، لا تُعدّ إيطاليا الوجهة الوحيدة للجزائريين الذين يقررون الهجرة بطريقة غير نظامية إلى أوروبا، إذ يتوجه جزء كبير منهم نحو شواطئ ولايات الطارف، عنابة شرق الجزائر، والشلف ومستغانم ووهران غربًا، وعين تموشنت، تمهيدًا لركوب البحر نحو الشواطئ الإسبانية لسهولة الوصول إليها وقربها من الجزائر، مقارنة بالشواطئ الإيطالية.في هذا الصدد، أشارت دراسة لظاهرة الهجرة السرية في المجتمع الجزائري، صادرة عن جامعة تلمسان غربي الجزائر، إلى اعتماد الحراقة مسالك جديدة في مدن الساحل الغربي للجزائر، مستعملين قوارب طولها يتراوح بين 4 و5 أمتار، وعرضها 5.2 متر. وبحسب ذات المصدر، تشترك مجموعات تضم ما بين 10 أشخاص و12 شخصًا في شراء تلك القوارب بمحرك قوته بين 40 و60 حصانًا، بمبالغ مالية تتراوح بين 1000 و4500 دولار أمريكي للإبحار نحو مدينة ألميريا الإسبانية.


للمغاربة في إسبانيا نصيب

حتى وقت قريب كانت المغرب المنصّة المُفضلة لأفارقة الساحل الغربي الأفريقي وأفارقة دول جنوب الصحراء لركوب البحر نحو أوروبا، إلا أن الشباب المغربي التحق بالركب وبات يرقب بشغف لحظة وطء أقدامه التراب الإسباني، الذي يُلمح بالعين المجرّدة في بعض المناطق.وبحسب تقرير رسمي لوزارة الداخلية الإسبانية، تجاوز عدد المغاربة الذين هاجروا بطريقة غير نظامية إلى إسبانيا خلال الثلاث السنوات الأخيرة، شيبا وشبابا، العشرة الآلاف.تتنوّع سبل الدخول إلى التراب الإسباني بالنسبة للمغاربة، ومن بين هذه السبل التسلل إلى مليلية أو سبتة، وهما مدينتان مغربيتان مازالتا تحت الاحتلال الإسباني، من خلال تسلق السياج الحدودي الذي أنشأته السلطات الأمنية الإسبانية على طول حدودها البرية مع المغرب. بحسب أرقام رسمية تفشل 90 بالمائة من محاولات التسلل عبر هذا الجدار بالنظر للحضور الأمني المغربي والإسباني المُكثف على حد السواء.ولا تُعتبر هذه الطريقة في الحرقة الأكثر جذبًا للمغامرين، حيث لا تتعدى نسبة المرور بها العشرين بالمائة. بالمُقابل؛ تحتل قوارب الموت المرتبة الأولى في ترتيب مسالك الهجرة غير النظامية في المغرب بنسبة 60 بالمائة، بحسب تقديرات مرصد الشمال لحقوق الإنسان المغربي.ولقوارب الموت وجهتان نحو إسبانيا: بعضها يشق عباب الساحل الشمالي حيث لا تفصل بين القصر الصغير أو طنجة مثلًا والشواطئ الإسبانية سوى 15 كيلومترًا تقريبًا، وبعضها الآخر يتوجّه غربًا نحو جزر الكناري عبر المحيط الأطلسي. قوارب أغلبها مطاطي بدائي التكنولوجيا، وبعضها الآخر أفضل وضعًا، خاصة مع ظهور اعتماد «الجيت سكي» مُؤخّرًا.


الحرقة.. وثنائية الهروب والمواجهة

الأوضاع في ليبيا وموريتانيا ليست أفضل حالًا، مع فرق بسيط وهو أن أغلب من يركبون قوارب الموت انطلاقًا من شواطئ البلدين هم أجانب قادمون من دول أفريقية.وحول هذه الظاهرة، تتطابق التوصيفات والتحليلات، فالدوافع عمومًا واحدة، تتعلق أساسًا بضيق الحال الاجتماعي وتراجع فرص التشغيل، بالإضافة إلى وضع عام يشوبه الإحباط والقلق من مستقبل لا تلوح في نهاية النفق الذي يتمثله نقطة ضوء.ويذهب بعض المحللين للقول بأن ما يدفع هؤلاء الشباب للمغامرة قد يكون اليأس أحيانًا، وقد يكون أيضًا بحثًا عن الربح السهل كما يتوقعونه، فحتى في صورة وجود فرص للعمل بأجر مقبول، كحال بعض الحرفيين، يظل المنشود أكبر من الموجود. يركب هؤلاء الشباب إذن قوارب الموت هربًا من بيئة طاردة لم يعُد يحل فيها العيش ولا يستقيم فيها الحُلم. مصاعد اجتماعية مُعطّلة وأوضاع سياسية مُتوتّرة وأسئلة كثيرة مُعلّقة تنتظر إجابة قد لا تأتي. مُقابل هذا الهروب تكون المُواجهة. بمُجرّد أن يتقدم المركب في اليم بضعة أمتار يصبح الحارق أو الحرّاق في مُواجهة المجهول بتمثيلات وصيغ مُختلفة. يُواجه الطبيعة التي قد تثور بموجها على قارب مهترئ فتُغرقه وتُغرق من فيه، وإن كانت الطبيعة حليمة فخفر السواحل التابع لبلده أو للبلد المقصود قد لا يكون بذات الحلم.في حادثة قرقنة التي ذكرت في التقرير آنفًا، اتهم الناجون من الغرق الخافرة العسكرية التونسية التي تفطنت لهم ومنعتهم من مواصلة سيرهم بأنها كانت ورُبانها وراء تعمد الصدام مع قاربهم وعدم المُسارعة بإنقاذ الأجساد التي رميت في البحر بعد الاصطدام وانقلابه.وإذا لم يكن هذا ولا ذاك، وإذا ما وصلوا إلى السواحل الأوروبية، يجد «الحراقة» أنفسهم في مُواجهة سلطات لا تُرحب كثيرًا بالمهاجرين غير النظاميين، خاصة مع صعود اليمين المُـتطرّف مُؤخرًا، فإما يتم حبسهم في مراكز احتجاز قبل ترحيلهم إلى بُلدانهم، ومن يفلت من رقابة هذه السلطات، قد يتم توظيفهم من طرف عصابات إجرامية، أو قد يُمضون أشهرًا في العراء، آملين أن تُسوّى وضعيتهم بشكل أو آخر.