الأخَّاذ أو الساحر… هكذا سمَّى «جوزيف جوبير» الروائي «الفيكونت دوشاتوبريان»، فهو من أسر عقول وأفئدة ملايين البشر، وانحنى له العباقرة قبل عامة القراء تقديراً وإجلالاً، أو لم يدِّون «فيكتور هوغو» في كتابه المدرسي وهو في الرابعة عشرة من عمره:

أريد أن أكون دوشاتوبريان، أو لا شيء.

إن المشاهد التي يخطها شبيهة برؤى الحلم، تجعل قارئها ينظر بعين قلبه. أمَّا شخصيات رواياته، وكأنها تنبجس من تربة الشرق، مُشابهة في ظمئ روحها للمغامرة وميول أمانيها إلى عالم ما وراء المرئيات لتلك الشخصيات التي تحرك خيوط الحكايات الشرقية.

يتناول كل هذا بعبارات رومانسية، موسيقية الإيقاع، تهز أوتار العواطف وتطرق باب المشاعر النبيلة السامية. هذا ما جعله في النثر الفرنسي حلقة ذهبية موصلة، بين دقة وجلاء كتابات فولتير ورينان من جهة وشاعرية وملنخوليا (وهو اضطراب نفسي عقلي تسببه شدة الحزن والغم) الرومانسيين من جهة أخرى.

الطريق إلى إسبانيا ووحي القلم

بعد أشهر من نشر «عبقرية المسيحية»، بدأ دوشاتوبريان في كتابة رواية «الشهداء»، وقد دأب الروائيون الكبار، كما تعرف عزيزي القارئ، ومنذ أمد بعيد على أن يسبحوا في هذا العالم الفسيح، حتى يتسنى لهم أن يصوغوا عُصارة تجاربهم صادقين، وأن يخطوا بريشة الرسام مآثر الشعوب وخصائص المجتمعات وأنظمتها، معتصمين برهافة الحس ودقة الملاحظة تارة، ومستعينين بربات الإلهام وشاعرية الخيال تارة أخرى.

باحثاً عن فضاء لشخصياته، قرر دوشاتوبريان أن يزور اليونان والشرق؛ فشق عباب البحر عام 1806 إلى البندقية، ولم يعد إلى فرنسا حتى 3 مايو/آيار 1807، بعد أن توقف زمناً في إسبانيا، لتظهر روايته «الشهداء» عام 1809، وكتاب «رحلة من باريس إلى بيت المقدس» عام 1811. فجاءت رواية «آخر بني سراج» كتكملة طبيعية لرحلته، والتي لم تعرف سبيلاً إلى الوجود حتى عام 1826، وقد فسَّر الروائي السبب وراء هذا التأخير بالآتي:

لقد كتبت مغامرات آخر بني سراج، قبل عشرين عاماً تقريباً، والبورتريه الذي رسمته عن الإسبانيين كفيل أن يُفسر لماذا لم تُطبع هذه القصة القصيرة تحت سلطة الحكومة الإمبراطورية. ففي مقاومة الإسبان لبونابرت، شعب أعزل أمام غازٍ هزم أفضل الجيوش الأوروبية، ما يثير الحماسة في القلوب التي تصبو إلى ذلك القدر الكبير من التفاني والتضحيات النبيلة. [1]

«بني سراج» بين الحقيقة التاريخية والخيال الأدبي

اقترن اسم بني سراج بالأندلس ودواليب السلطة في مملكة غرناطة، واعتبر الباحثون أن العائلة من أعرق الأسر الأندلسية العربية، وذهب باحثون آخرون إلى أنها إحدى القبائل الأمازيغية التي تنحدر من المغرب.

في عهد أبي الحسن، الذي سيُدَق فيه آخر مسمار في نعش حكم المسلمين في الأندلس، والذي عرف ثورات ونزاعات وصراعات كانت من مظاهر التداعي الذي سينتهي بسقوط غرناطة عام 1492 ميلادية.

كان من بين تلك النزاعات صراع بني سراج وبني الثغري وبني أضحى للظفر بالوزارة، كما اشتعلت دهاليز القصر آنذاك بالمؤامرات والمنافسة بين زوجتي الملك، الإسبانية «إيزابيلا دي سوليس» و«عائشة الحرة» أم أبي عبد الله الصغير. بعد أسر هذه الأخيرة من طرف أبي الحسن، تحت طلب إيزابيلا، عمل بني سراج آنذاك على تخليص الحرة من الأسر، الشيء الذي أثار غضب الملك، فانتهى أمرهم بالإبادة في إحدى قاعات قصر الحمراء.

ألهمت هذه الحادثة أقلام الروائيين وحكايات التراث الشعبي وألهبت مخيلة الشعراء. وإلى اليوم، ما أن تحط قدميك في قصر الحمراء حتى تجد نفسك مشدوهاً أمام قاعة بديعة الزخارف ما زال على بلاطها بقع يزعم أنها من دم بني سراج، وأنها تأبى الزوال رغم تكرار الشطف والغسل.

استثمر دوشاتوبريان هذا المعطى ليدوِّن قصته، حاكياً أخبار آخر سلالة بني سراج بعد فرار من تبقى منهم إلى تونس، ناصبين خيامهم على أنقاض قرطاج التليدة.

محاكاة الأدب للتاريخ

بعد ربع قرن من سقوط الأندلس، يحج «ابن حميد» Aben-Hamet، آخر نسل بني سراج، إلى غرناطة، حيث عاش أجداده. هناك يلتقي ببلانكا Blanca، ابنة «إل سيد الكمبيادور» Cid Campeador.

يقع الشابان ذوا السلالة النبيلة في الحب. لكنها مسيحية وهو مسلم وكلاهما مخلص لإيمانه. هي الجميلة المنتصرة وهو الملاك الساقط الذي نُفي أجداده من جنة الأندلس. انطلاقاً من هذه المفارقات، يخط دوشاتوبريان قصته القصيرة في سياق رومانسي تشهدها العاطفة المستحيلة، والخيال الوثاب، وشجون الماضي وأسقام الحاضر.

تضارب الآباء وتواؤم الأبناء

إن قصة ابن حميد وبلانكا هي في الواقع قصة شخصين ينتميان لتاريخ متشابك متصارع. يقيمان في دارين يُفرقهما التاريخ والدين والبحر. حتى غرناطة التي جمعتهما لا تُرى بنفس العين، ورغم أنها داعبت بأناملها أوتار قلبيهما، إلا أنها لم تنشد نفس النغم. تعيشها بلانكا بالإيمان الراسخ في حق أبناء جلدتها في الوطن الأم، دون أن تبلغ شوفينية أخيها دون كارلوس؛ أما ابن حميد وريث الطائفة المهزومة، الذي وُلد في المنفى، لم يتعرف إلى أرض أجداده حتى بلغ 22 عاماً، فهو الباحث في أبجدية المكان عن حروف السقوط، والمتأمل في القلاع المشيدة عن مجد آبائه.

فكيف تحب بلانكا من تعتبر أن أجداده غازين لقومها؟ وكيف يحب سليل بني سراج ابنة من طرد قومه بالقتل والتشريد؟

إنه الحب، وحده قادر على إسقاط كل الاختلافات، عندما يستأثر بالفؤاد ويقود دفته، تنهار كل الأحقاد والضغائن، وتخلو النفس من كل الشوائب، فيفيض الأنس والعطف وتتطهر القلوب. ولنا في تراجيدية وليام شكسبير «روميو وجولييت» أجلى مثال في سقوط شقاق الآباء أمام بهاء الصبابة، عندما تخترق روح الأبناء.

الحب بين جموح العاطفة وسلطة الدين

رغم بزوغ شمس المحبة بين الشابين، ظلَّ إخلاص كل واحد منهما لديانة أبائه قائماً لا يترنح، فمحبة الإله أسمى، ولكلٍّ طرائقه.

تقول بلانكا: تذكَّر هذه الكلمات جيداً: وأنت مسلم، سأكون حبيبتك بلا أمل؛ وأنت مسيحي، سأكون زوجتك المحظوظة. فيجيبها ابن حميد: مسيحية، سأكون عبدك الآسف؛ مسلمة، سأكون زوجك البهي. [2]

إن الترح والأسى الذي تكهنه العاشقان لم يجعلهما يتراجعان، وهما على حافة الهاوية، أمام لهيب الوصال ووجع الغرام. وكلما اشتد بهما الجوى الأرضي، وتخلصت محبتهما من عقال الأرزاء، نادت شرائع السماء، لتهتز قلوبهما أمام المطلق، وتتصاعد أنفاسهما لترتبط بما وراء الغيوم. فينادي الواحد منهما الآخر لدينه، كشرط جوهري لاكتمال المودة.

ضرورة الإخلاص لله، ضبط توتر العقدة في نقطة ثابتة: هل يتنازل المرء عن إيمانه وعقيدته أمام جموح العاطفة؟

يقف الحب خائباً أمام سلطة الدين التي فصلت بين العاشقين؛ وأمام شغف لا يُقهر، ارتأى الطرفان أن يتمسكا بالإيمان حتى يظلا مخلصين للمثل العليا والقيم التي نصبوها كخيط رفيع سيكون مسلكهم إلى النجاة.

من خلال مغامرات آخر بني سراج، يبيِّن دوشاتوبريان أن المحبة الصادقة، والعلاقة المجردة مع المقدس تُولد من خلال التأمل في الطبيعة والعمل الحثيث في تهذيب النفس، حتى ترتقي في عالم الأرواح. كما يثبت دوشاتوبريان مرة أخرى، أن رواياته وكتاباته لا تقرأ بأحداق العيون بل بعين القلوب.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. The Complete Works of Chateaubriand. Edition Garnier frères, libraires editors. P 99.
  2. The Complete Works of Chateaubriand. Edition Garnier frères, libraires editors. P 166.