وتكلمت مها

أما البشر فما راعهم دائمًا إلا وصف الزمان بكل قبيح، فهو سبب الشرور وأصلها، والزمن لم يعد كما كان هي كلمتهم الأثيرة يخففون بها حالهم، وينتقلون بها من وهم إلى وهم فهو ملاذهم الأخير الأوحد. وكان تميم البرغوثي هناك يصف ما يشعر به الجميع ويحاول أن يصل معهم لحل، لعل الخلل ليس في الزمان هذه المرة. والبداية كانت مع مها التي ربما رمزت لأمة، رمزت للحرية المفقودة، وربما كانت رمزًا لكل هذا ولغيره، فهي تلهي عن حالها بالسؤال عن حالنا، كأنما ليس الاثنان توأمًا لا ينفصل.

قالتْ مها مالَهُ؟ ما همُّها مالي – وهمُّها الهمُّ لكنْ دّمعُها غالي تَرُدُّ عن عينها عيني وتَشغَلُني – عن حالها بسؤالي كَيفَ أحوالي؟

هل العيب في الزمن؟

لربما كانت العادة هي سب الدهر، ولكن ألا يصنع الناس دهرهم؟ ألا يكونوا هم أدواته ومن يحرك نهره الجاري؟ فهو يأخذ منهم وهم بالطبع يأخذون منه، ويكون الحال هو نتاج بعضهم لبعض، فلا يُلام الدهر إلا بقدر ما يقع اللوم على الناس فهم أصل الحركة كلها.

ويا مها دَعْكِ مِنَّا إنَّهُ زَمَنٌ – تَداولَ الناسُ فيهِ الموتَ كالمالِ تَدَاولوهُ إلى أنْ أشبَهوهُ فهُمْ – صُمُّ الملامحِ من شيبٍ وأطفالِ تّكَرّرَ الأمرُ حتى لم يَعُد خَبَرًا – يُرى ويُسمعُ لكنْ ليسَ في البالِ

ثم كان الوهم

ولما قسا الزمان على أهله، كان لا بد لهم من الفرار ولكن أين المفر من هذا. ففي أيامنا في كل ناحية أينما توجهت تجد ما يسوؤك، حتى لو ابتعدت إلى أقصى الأرض فهو يطاردك باهتمامك وقلقك، ومن ثم كان الوهم هو الحل فلا أيسر منه ولا أبسط سواء كان وهم انصلاح الحال، وهم المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض عدلاً وما علينا إلا انتظار خروجه، وهم أن هذا هو أفضل الأحوال المتاحة حتى لا نصير إلى ما صار إليه غيرنا مما نرى أنه أسوأ، أيًا كان العالم الذي ستفر إليه فهو خيالك الذي تعيش فيه، والدواء المسكن الذي تلجأ إليه ولو كان لن يحدث.. حتى وإن كان غير منطقي في كثير من أموره، إلا أنه لا فكاك منه إلا الواقع الأليم، ومن هذا الذي يبغي العيش في الألم إلى آخر الدهر؟

ما أعرضوا عنهُ إلّا قابلينَ بهِ ـــ لا فَرقَ ما بينَ إعراضٍ وإقبالِ وَهمُ الدوامِ ضروريُّ يُعاشُ بهِ ـــ ورُبَّما رَوِيَ الظمآنُ بالآلِ

اليأس والأمل

ولكن إن كان الوهم طريقة الفرار لما اشتد اليأس، فكأنه أمل في النفس يبشرها بأن الخلاص قريب، ولربما كان أحد هذه الأوهام قابلًا للتحقيق إذا اعتقدت فيه النفس ووثقت به. وإن كان الاعتقاد مع العمل والعقل فلعل هذا فعلًا أن يكون حقيقة تُرى وتُلمس وتعيها أذن واعية، ربما، لم لا؟

ألم يحدث ذلك يومًا قبل أن تنقلب أمور؟ ألم يكن الحُلم حقيقة وصلت بالآمال إلى عنان السماء؟ وكان ذلك من رحم يأس كذلك أغلق الأبواب حتى ضاقت حلقاتها، وإن كان الوضع بعدها قد تغير إلا أنها ظلت حقيقة جلية واضحة.

إنّي لَيُتعِبُني يأْسي وأُتعِبُهُ ـــ إذْ أَنَّ ما زادَ يأسي زادَ آمالي نحنُ الذينَ مشينا للجيوش وقد ـــ مَشَتْ لنا، مَشْيَ أهوالٍ لأهوالِ بلا سلاحِ سوى حبرٍ على ورقٍ ـــ ولا دُروعِ سوى خَلٍّ على شالِ.

حتى لو انقلبت الأمور

نعم تغيرت الدنيا، وبدا أنه لا حل، فإن كان الدهر هو صنيعة أهله فهم أيضًا من يتأثر به، وإذا ما انتشر الخوف والقهر توارى الخلق فكلُ يبغي النجاة لنفسه، فما كل الناس قد خلقت أبطالًا، وإلا لما ذكرت سيرهم بالمديح والأساطير، ولكن الناس هم الناس في كل زمان ومكان إذا اجتمعوا قهروا وبطشوا وكانوا كالسيل الجارف لا يقدر أحد على الوقوف في وجهه. وإذا سرى فيهم الخوف وتساءلوا عن الجدوى واستسلمت نفوسهم فقد انقضى أمرهم ومضوا يتخبطون ولا يهتدون سبيلًا، والهرب هو منتهى أمرهم، فضعفت النفوس وتغلب عليهم من يتغلب مهما كان، وصارت أمورهم دومًا نهبًا لمن غلب بأي وسيلة كانت وأي أمر يصلح.

والناسُ إن وَجَدوا الأحرارَ في كُرَبٍ ــــ تَناذلوا وهُمُ لَيسوا بِأنذالٍ فالناسُ كالناسِ إلّا أنّهُم يَئِسوا ـــ مِن صَدِّ أرتالِ هَمٍّ بَعدَ أرتالِ مِنَ المصائبِ لاذوا بالمصائِبِ كالْـ ـــ أسماكِ فَرَّتْ من المِقلاةِ للقالي والمَرءُ يَيأسُ من إبراءِ عِلَّتِهِ ــــ إنْ عاوَدَتهُ مِراراً بعد إبلالِ

أين الخلل؟

لربما كانت التساؤلات في هذا الموقف مجدية، فما الذي يزعزع ثقة الناس ويجعل أمرهم كمن نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، فيرتدون ويهربون، وبالأمس القريب كانوا قاهرين على عدوهم غالبين ولأمرهم حاكمين.

لا بد من خلل واضح يزرع الجبن في النفوس فيكون على أمرها قاهرًا، يجعل ماضيها بعيدًا وحاضرها يائسًا، ولعمري إن عُرف ذلك السبب فقد بات الماضي حاضرًا وليكونن المستقبل زاهرًا، ولكن أهو الطغيان؟ القهر؟ الخوف من الضيعة؟ أم الخوف على الذرية والأولاد؟

فإن كان فلربما كان الحل في الأمل، ذلك الذي يظهر في النفوس إذا ما استغلق حولها اليأس، فتكون رغبة الفرار أملًا ينمو ليصبح شجرة قوية الجذور عظيمة الفروع يومًا وإن طال الزمن.

أبشِر إذا ما رَأَيتَ اليأسَ مُكتَمِلًا – ولَم تجِدْ حيلةً فيهِ لِمُحتالِ فإنَّ في كلِّ يأسٍ كاملٍ أملًا – وكَمْ نبيٍّ خَفِيٍّ تحتَ أسمالِ نرى القديمَ جديدًا من بَراءتنا – وهوَ المُعادُ لِأجيالٍ وأجيالِ

ثم يكون الغد

نعم إن الذي أظهر الأمل مرة قادر على أن يظهره أخرى وإن استحكم اليأس ثم أظلم الليل وصار حالكًا، هو ما يخبرنا به تميم من قصيدته حينما عَبَر بنا في كافة مراحل العمر بين اليأس والرجاء، وقد يكون صدقًا ما قال تميم يومًا:

سَيُهزِمُ الوَغدُ مُختالًا بِنَصرَتِهِ – فَلَيسَ أسهلُ منْ إهلاكِ مُختالِ أَجدِرْ بما كانَ يَومًا أن يكونَ غدًا – فالدَهرُ بعدُ خيوطٌ فوقَ أنوالِ قد يلحقُ الذُلُّ غَلّابًا بلا شَرَفٍ – والنصرُ يُهدى لمغلوبينَ أبطالِ

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.