كنت جالسًا في حديقة المنزل ننتظر سماع بيان عبد الناصر وأمامنا جهاز التليفزيون، وبينما نحن جالسون وصلت إلى أسماعنا أصوات جماهير تتحرك وتهتف «عبد الناصر»، ولم يكن البيان قد أُذيع بعد، أرسلت السائق لاستطلاع الأمر فأبلغنا أن لوريات تحمل المئات من الشباب تنزلهم في فناء مدرسة على مسافة مائتي متر من منزلي، وبدأت إذاعة البيان، وعندما جاءت فقرة قراره بالتنحي فوجئنا بأصوات الهتافات والمئات الذين كانوا مجتمعين في فناء المدرسة يخرجون راكضين متجهين ناحية منشية البكري حيث منزل الرئيس.
من كتاب «سامي جوهر» عن مظاهرات رفض تنحي

ديسمبر/كانون الأول من عام 2017، نهار شتوي خفيف البرودة يضرب وسط العاصمة المصرية، الآلاف من الجماهير تتوافد على مقر النادي الأهلي بالجزيرة. منذ شهور، تكتسي القاهرة بالأحمر، حيث لافتات إعلانية تدعو العامة للميل لأحد الاتجاهين: إما مجلس إدارة بروح «الفانلة الحمرا»، أو معًا وراء «حكومة الأهلي». أينما ذهبت بعينيك ستجد صورة تقتحم آفاق نظرك لتؤكد لك: أن ذلك، دون سواه، هو الأصلح.

شهدت تلك الفترة إثارة أكثر مما اعتاد المصريون في أغلب الانتخابات على مقعد رئيس الجمهورية، الحديث عن ملايين تصرف من جانب، ورغبات ملحة تحرك الجماهير نحو مستقبلها الذي تكتبه بأيديها. من جانبٍ آخر، جملة ربما مكررة، لكن شيئًا ما جعل فيها من التصديق ما يمررها على الآذان دون استياء، أو بالأحرى شخص ما يملك شعبية جارفة يترأس كل هذا، إنه «محمود الخطيب».


في دولة بلا آراء

مساء يوم الـ9 من يونيو/حزيران لعام 1967، أعلن الرئيس «جمال عبد الناصر» تنحيه عن الحكم، بعد ما جرى في 5 يونيو. وعلى عكس توقع الأوساط السياسية العاقلة، وتوقع الزعيم ناصر نفسه، نزلت الجماهير، عن جهل كبير حسب تقدير كافة المؤرخين -المحايدين- لتلك الفترة، لترفض تنحي قائدها المهزوم، طالبة منه أن يكمل مسيرته فوق حطام اليأس وأكوام من الخذلان.

إنني لا أستطيع أن أتصور ما سيفعله الناس، والله لو أنهم أخذوني إلى ميدان التحرير وشنقوني فيه لما اعترضت عليهم، لهم الحق.
توقع عبد الناصر لرد فعل الشعب بعد النكسة

اقرأ أيضًا: مظاهرات 9 يونيو: لماذا رفضت الجماهير تنحي القائد المهزوم؟ مظاهرات زلزلت البلاد في عدة محافظات ليومين متتاليين، تأبى أن ترى في مقعد الرئيس أحدًا غير الذي عرفوه طوال 15 عامًا ومن بعد ثورة يوليو 52.

أدخلت جموع الشعب، التي ملأت الميادين في ستينيات القرن الماضي، المؤرخين والمطلعين في حالة من الجدل حول ماهية الأعداد التي قررت النزول إلى الشارع قبل حتى أن يُنهي الزعيم الراحل خطابه الشهير. وبين متواطئين ومتعاطفين، كان للباحث «شريف يونس» الرأي الأكثر منطقية بين كل المتاح، حيث وصف تلك المظاهرات،في كتابه «الزحف المقدس»، بأنها: «عفوية نتجت عن تعبئة».

في دولة كمصر لا يمكن أن يُمَلك الشعب مقاليد الحكم بنفسه في أي جهة كانت. عودة إلى خطاب ناصر للتنحي تكشف أنه ردد في جملته الشهيرة: «لقد قررت أن أتنحى تمامًا ونهائيًا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير»؛ ما يعني أن الجماهير ما هي إلا متفرج لا تشارك بأي دور مهما كان، مع الإشارة إلى أن الانتخابات والمشاركة بها تعتبر دورًا سياسيًا واضحًا لفئات الشعب العادية.

فلا شك في أن خسارة طاهر كانت محسومة في تلك المواجهة، لكن يظل الطريف فقط أنه خسر لنفس الأسباب التي نزلت من أجلها الجماهير في ليلة الـ9 من يونيو؛ أن الجمهور لا يرى ولا يعرف إلا الخطيب!


مبادئ النكسة

«محمد حسنين هيكل»، كلام في السياسة

تولى «صالح سليم» رئاسة مجلس إدارة الأهلي للمرة الأولى في عام 1980، وباستثناء 4 سنوات بعد فترته الأولى، لم يغب عن ذلك المنصب حتى وفاته في 2002. وكما نجح «حسنين هيكل»، كاتب خطاب التنحي، في ترسيخ كلمة «نكسة» في عقول الجميع بدلًا من هزيمة، تمكن عديد الصحفيين، على رأسهم «ياسر أيوب»، خلال فترة سليم، من زرع جذور «مبادئ الأهلي» بين الناس، وتناقلتها الأجيال بلا توقف حتى باتت معيار الحكم الدائم مهما كانت المغريات.

الواقع يؤكد أن مقدار الخطأ الذي ستقترفه بسؤالك عن ماهية المبادئ التي ينادي بها النخبة والعامة معًا، لن يقل في وطأته عن خطئك بذكر كلمة «الأهلي» دون أن تسبقها بـ«النادي»، وكذلك فهو يتساوى مع جسامة ما ستواجهه إن سألت: لماذا باتت نكسة، ولم تتوقف عند وصفها الطبيعي: هزيمة؟ والحقيقة أن جميعهم بلا طائل.

اعتادت الجماهير الترديد بلا قدرات حقيقية على الوصف، أشياء تكررت حتى تقررت، ربما بعد بحثٍ مُطولٍ نجد في النهاية أن مبادئ الأهلي تلك هي الوصايا العشر التي تغنى بها أهل حارة رواية «نجيب محفوظ»، «أولاد حارتنا»، دون أن تقع عينا أحدًا منهم عليها حتى.

الأهم، أنه وخلال فترة انتخابية واحدة تولى فيها «محمود طاهر»، المرشح في مواجهة الخطيب في انتخابات 2017، نجح الأهلي في تحقيق مكاسب مادية غير مسبوقة في التاريخ المصري، حوالي نصف مليار جنيه كأرباح عن العام الأخير له، وقطاع كرة القدم يُدر مالًا للمرة الأولى بعمر النادي، كانت تلك الأرقام والوقائع واهية في مواجهة صيت «بيبو» الواسع، أو تسلحه بـ«المبادئ» في مواجهة ملايين الجنيهات عند الطرف الآخر.


لا فارق بين الخطيب ومنصور

قبل نحو عام من عملية الاقتراع التي رجحت كفة الخطيب، ومن داخل إحدى الغرف المغلقة في مكان مجهول بالقاهرة، خرج علينا «زكريا ناصف»، اللاعب السابق والإعلامي الحالي، والمنتمي للأهلي في كلا الوصفين، باستغاثة تُشير في ظاهرها إلى وجود كارثة حقيقية تضرب البلاد، ربما يراها هكذا لانتمائه إلى ذلك «الكيان» وربما هي عادة عرفها منذ كان شابًا، تستخدم دائمًا لاستجداء السلطة للتدخل رياضيًا بما يسمح بزيادة هيمنة محلية لناديه المفضل.

رسالة رقم(١)إلي الجهات السيادية والأمنية أنا عضو بالنادي الأهلي وبكل الإحترامأرجوكم إقرأوا وتأكدوا من التقارير…

Gepostet von Zakaria Nassef am Dienstag, 16. August 2016

تشير أحداث الشهور التي تبعت تلك التدوينة إلى أن السلطة استمعت بالفعل إلى مطالب ناصف، ونجح الرجل المفضل في الساحة الرياضية الأهلاوية برئاسة النادي الأكبر شعبية في مصر، مطيحًا بواحد من أكثر العناصر الإدارية نجاحًا في العقدين الأخيرين للأهلي.

لكن قبل ذلك بأعوام، كان قد امتلك مرتضى مقاليد الحكم في الزمالك، وخلال أعوام من العمل الواضح وعلى الهواء مباشرة، كان المُخلص الوحيد من الشوكة المتبقية من ثورة يناير. حيث نجح رجل الدولة، المفضل في المعارك الكلامية، في أن ينهي صداع الأولتراس وتكتلات الشباب ذوي الأصوات العالية.

على جانبٍ آخر، عاش الخطيب فترات طويلة من حياته في الظل، حتى في وقت توليه المناصب من قبل، لم يكن صاحب الظهور الإعلامي الواضح ولا العبارات والتصريحات الرنانة عند الجماهير، في حين كان مستندًا في هدوئه على التاريخ الكروي الذي جعل منه أسطورة تستخدم كمثال للمقارنة مع أي ظاهرة كروية جديدة.

كان في ذلك فائدة ضخمة جعلته لا ينال نفس القدر من السخط الذي وقع على حسن حمدي فيما بعد أحداث يناير، وعفاه كذلك من الأبواق الشبابية، التي ما زالت تستنشق هواء الثورة، وقتما بات الرجل الأول في مجلس الأهلي. في حين أن بيبو لا يختلف كثيرًا عن نظيره منصور فيما يخص الأيديولوجيات السياسية.

بينما حلق طاهر خارج السرب، فتح أبواب النادي على مصراعيها لأفراد الأولتراس،وظل في لقاءات عدة يدافع عن جماهير ناديه، دون أن يخص الأولتراس بشكلٍ محدد لتجنب المساءلة، وبالتالي كانت غلطته الأكبر التي استحق عليها أن يخرج من نعيم الدولة، واستبدل أولًا بمنصور، الذي استحوذ على الصفقات واحدة تلو الأخرى، وكان الرقم المفضل لأندية الدولة من الجيش والشركات التي يرأسها لواءات سابقون، كمصر للمقاصة، أو أعضاء مجلس شعب ورجال دولة -بالمعنى الدارج- من شاكلته، كسموحة.

حتى جاءت اللحظة الفاصلة التي قرر فيها جمهور الأهلي الإطاحة بطاهر من المنصب، واختيار محمود الخطيب. رجل يملك فكرًا متماشيًا مع السياسة الجديدة في البلاد، ليكن في الأهلي نفس ما في الزمالك لكن بسيناريو أفضل وأكثر راحة من الصادر من قبَل جماهير الأبيض.

النتائج مبهرة حتى اللحظة، حيث لم يتوانَ بيبو في تقديم نفسه كرجل دولة في طور الإنشاء، والبداية كانت بتسليم بيانات الجماهير صانعة الشغب في مباراة مونانا بأبطال أفريقيا للداخلية، والحقيقة أن النهاية أو سير الأحداث المستقبلية سهل توقعه، حيث يمكن ربطه بمن سبقوه ومن هم من نفس عقائده الفكرية، تكون الحقيقة أبلغ من أي شرح.


فواتير انتخابية وتركي آل شيخ

لم تستولِ قضية عربية على الصحف الأجنبية والعالمية مؤخرًا، قدر ما سيطرت قصة الصحفي السعودي المقتول «جمال خاشقجي»، والذي ما زالت قضيته تملك العديد من الغرائب التي لم تفسر بعد، لكن الجميع اتفق من قبل على أنه كان أحد أكثر الصحفيين العرب قدرة على التحليل والاطلاع على الشئون الداخلية والخارجية لبلاده.

وبالعودة إلى لقائه الذي سبق وفاته بفترة بسيطة، رفقة الإعلامي المصري «معتز مطر»، نجد أنه نجح في تحديد ربط منطقي للمرة الأولى، من دوره أن يشرح لنا، أو على الأقل يجعلنا نتوقع، سبب العلاقة التي جمعت بين الخطيب وأكبر أخطائه «تركي آل شيخ» خصوصًا، أو العلاقة المصرية السعودية، المتعاظمة جدًا مؤخرًا، عمومًا، وهو أن كلا الطرفين يجتمعان في كره ثورات الربيع العربي والتغيير.

كان على بيبو أن يكمل السيناريو الاعتمادي الاقتصادي الذي تقوده البلاد في الآونة الأخيرة، وأن يقوم الإنفاق في فترة الانتخابات وما بعدها من فترة انتقالات الأهلي الأولى على تمويل خليجي من أكبر الرؤوس الرياضية في السعودية. ولتكون الحقيقة في نصابها الطبيعي، فإن الاعتماد الرياضي على أموال السعودية والخليج ليس مستحدثًا، وليس حتى بالبالي القديم، فإن مرتضى منصور وعلاقته مع «منصور البلوي» لم تنساها الذاكرة بعد.

ربما الذي ضخم من قيمة التداخل هذه المرة هو أن تركي يعد الاسم الأعلى رياضيًا في بلاده، كما أنه المتحكم الأول في كل الرياضة السعودية. وبالرغم من أن بيبو لم يتوانَ لحظة في سداد فواتيره الانتخابية، سواء بتعيين «غالي» أو «فضل» أو الصلاحيات اللا منتهية لـ«عدلي القيعي»، لكن الخطأ الذي وقع فيه الأخير برضائه عن تواجد «كفيل» سعودي بشخصية آل شيخ، هو الخطأ غير المغتفر والذي متوقع أن يسبب العديد من المشاكل مستقبلًا.

الأزمة لدى بيبو حاليًا أنه وفي كل الأحوال يظل مرتضى مفضلًا لدى الدولة أكثر منه مهما قدم، وبالتالي نجد الآن أن المستشارين، السعودي والمصري، في نفس الصف الآن، وهو ما يزيد من قوة الغريم في مواجهة الأحمر، ناهيك عن صنع قوة ثالثة بالدوري المصري من شأنها أن تُقسم تورتة الدولة على ثلاث قطع بدلًا من قطعتين كبيرتين وبعض الفتات للبقية.


مظاهرات التعيين

ظل عبد الناصر ساعات لا يصدق ما جرى، ويسأل نفسه في حيرة «ليه»، لأجيبه: الناس لا يعرفون أحدًا غيره.

خسارة بيبو لتأييد الدولة سريعًا ربما تعود لسوء تضحيته أو سوء مسيرته، لكن تلك ليست خسارته الوحيدة، فظهوره هذه المرة وضعه في دائرة الضوء، مما جعل الجماهير تبحث أكثر وأكثر من ورائه حتى انكشفت حقائق اعتادت الكتمان. الخطيب تحول من أسطورة الأهلي إلى رجل الدولة الفاشل، وأظن أننا أمام أيام بسيطة قبل أن ينهال عليه سباب جماهير النادي عمومًا، والأولتراس، أو المتبقي منهم، خصوصًا، كما كان حال حسن حمدي من قبل.

الشهور التي تبعت تعيين الخطيب رئيسًا للنادي، مرورًا بخسارة النهائي الصعب أمام الوداد البيضاوي، مرورًا بخسارة نهائي رادس والخفوت الكروي الذي تلاه، تؤكد لنا أن الخطيب كان لديه ثورة واحدة جماهيرية فقط لينتفع بها، وأنه استغلها بالفعل عند تعيينه لا عند تنحيه.

وما تؤكده كافة الظروف، أنه إن قرر الرحيل غدًا، فإن الجماهير لن تزلزل شوارع المعمورة بالرفض، ولا حتى ستدافع عنه الدولة ليعود أدراجه مجددًا، وأن آخر أوراقه الآن هو استغلال اسم الأهلي نفسه ومكانته لدى الدولة المتخذة من قيمته الجماهيرية، ليخرج من أزمة المكانة الاجتماعية التي يعانيها الآن، لا سيما بعد أن اقترب من خسارة أذرعته الإعلامية الواهية والمتمثلة في «المنيسي» ورفيقه.