يطرُق الفتى بابَ شيخِه، فيفتح الباب وينظر إليه متعجبًا ويقول له: كأنك آيبٌ من سفرٍ بعيدٍ أيها الفتى. فينظر الفتى إليه ثم يُدخله الشيخ ليبدأ الدرس.

ظلَّ الفتى محمود محمد شاكر على هذا العهد حتى وفاة شيخه المرصفي أو قريبًا من وفاته، كان يحضرُ له دروسه أول الأمر في مسجد البرقوقي، فقرَّبه الشيخ منه لسابق معرفته بأبيه الشيخ محمد شاكر، فقرأ على الشيخ في بيته كتاب الكامل للمبرد، وحماسة أبي تمام، ولسان العرب لابن منظور، وشيئًا من أشعار الهذليين، وجزءًا من أمالي القالي، والعقد الفريد لابن عبد ربه.

كان أهمَّ ما ينتفع به الفتى في هذه المجالس الخاصة التي كانت في بيت الشيخ، طريقةُ الشيخ في إلقاء الشعر، ومواضع وقفه وابتدائه عند قراءة الشعر والمعاني التي كان يفقهها من هذه الطريقة في الإلقاء، يقول: «كانت للشيخ رحمه الله وأثابه عند قراءةِ الشعرِ وقفاتٌ، يقف على الكلمة أو على البيت أو على الأبيات يُعِيدُها ويُرَدِّدُها، ويُشير بيده وتَبْرُقُ عيناهُ، وتُضِيءُ مَعارِفُ وجهِه، ويهتزُّ يَمْنةً ويَسْرَةً، ويرفع من قامته مادًّا ذراعَيْهِ، مُلَوِّحًا بهما يَهُمُّ أن يطير، وترى شفَتَيْهِ والكلماتُ تخرج من بينهما، تراه كأنه يَجِدُ للكلمات في فمه من اللذة والنشوة والحلاوة ما يفوق كلَّ تصوُّر، كنتُ أنصِتُ وأُصْغِي إليه لا يفارِقُه نظري، لا تكاد عيني تطرُفُ، وصوتُه ينحدر في أقصى أعماق نفسي، فإذا كفَّ عن الإنشادِ والترَنُّم أقبلَ يشرح ويُبَيِّنُ، ولكنَّ شرحَه وتبيينَه لهذا الذي يُحرِّكُه كلَّ هذا التحريك، كان دُونَ ما أُحِسُّه وأفهَمُه ويتغلغل في أقاصي نفسي من هيئته وملامحه وهو يترنَّم بالشعر أو يُرَدِّد»، ويقول: «فإذا سمعتُ الشعرَ وهو يقرؤه فهمتُه على ما فيه من غريب أو غموض أو تقديم أو تأخير أو اعتراض، فكأنه يُمَثِّله لك تمثيلا لا تحتاج بعده إلى شَرْحٍ أو توقيف».


الرحلة من المتنبي إلى الشعر الجاهلي

كان الفتى مولعًا بالمتنبي، لكن شيخه المرصفي كان يتعصب لشعر الجاهليين، «وكان لا يصح في رأيه أحد من الشعراء المولدين وبخاصة أبو الطيب وكان يدسُّ في أذواق تلاميذه الكراهة له والنفور من شعره» كما ذكر تلميذه الأديب أحمد حسن الزيات. كان هذا التعصب ظاهرًا في كل ما كان يُقْرِئه الشيخ المرصفي لتلاميذه، فكل هذه الكتب المذكورة تُعْنَى في أكثر مادتها بالشعر الجاهلي، وقل أن يكون فيها شعرُ إسلاميٍّ أو أموي فضلا عن عباسي. يقول: «وفي زمان هذه القراءة كان أثر الشيخ عليَّ أثرًا شديدًا، فقد أثار اهتمامي وصرف قلبي كله إلى الشعر الجاهلي، وبعضِ الشعر الأموي».

يرجع ولع محمود شاكر بالشعر الجاهلي حصرًا، إلى توجيهات أستاذه الشيخ المرصفي، ومن بعده طريقة الشيخ محمد عبد المطلب في تدريس الشعر.

أخذ صاحبَنا نهمٌ بالشعر الجاهلي ثبَّط همته عن الشعر العباسي، بل عن ديوان المتنبي الذي كان أول ما قرأ من الشعر، يقول: «فثبَّط هِمَّتي عن الشعر العباسي بعضَ التَّثْبِيط. وكان ممَّا ثبَّط عنه هِمَّتي أشدَّ التثبيط ديوانُ أبي الطيب… فأغفلْتُه من يومئذٍ كلَّه». وصار يتلمس كل سبيل إلى الشعر الجاهلي، ويبحث عن كل معتنٍ به. فسمع عن شاعر يلقب بالشاعر البدوي لأنه كما يقول: «رجلٌ عربيٌّ احتفظ بعربيته في القرن العشرين يُحاكِي شعرَ أجدادِنا وأجدادِه… استطاع في شعره أن يُعطِيَنا صورةً حيَّةً من إنسانيَّةٍ قد مضت ونَفَذَ بها الأَجَلَ في ثَوْبٍ من العربية الفصيحة التي لا عُجْمَةَ فيها ولا فسادَ»، ويقول: «كانت الكلماتُ العربيَّةُ الخالصِةُ تتحدَّر من لسانه ومن بين شفَتَيْهِ وعليها مِيسَمُ العَرَبِ الخُلَّصِ».

اتصل به شاكر وذهب إلى بيته وهاله أول ما هاله مكتبته الكبيرة التي كانت أكثر كتبها في علم القراءات، وكان الشيخ محمد عبد المطلب مدرسًا للأدب العربي في مدرسة دار العلوم، وكان له – كما روى تلميذُه محمد محمود جلال بك – مذهبٌ في تدريس الشعر يخالف به كثيرًا من مدرسي عصره لا سيما دعاة التيسير، فقد كان يتلو على الطالب قصائد لمختلف الشعراء من عصر واحد، وفي شتى أغراض الشعر، ثم لشاعر واحد من شعراء هذا العصر، دون أن يوضح معنى أو يعرف بالشاعر، يكفيه فقط أن يعرف الطالب أنه يُتلى عليه شعر جاهلي، وأن الشاعر المتلو شعره من الشعراء الجاهليين، وكذلك الأمر في عصر صدر الإسلام وشعرائه، والعصر الأموي وشعرائه إلى آخر تقسيم العصور، ولا يكلف الطالب أكثر من الإصغاء الدقيق إليه. وكان يقول: «إنما أريد أن يعتادَ سمعُك شعرَ عصرٍ مُعَيَّنٍ؛ ثم نعود إلى مثل ذلك لشاعر بعينه، فتنشأَ لديك ملكةُ تمييزٍ، بحيث تُرجِعُ ما تسمعُ ولأول ما تسمعُ إلى عصرِه. فإذا كانتِ الخطوة التالية وهي الاستماع لشاعر بذاته استطعْتَ كذلك أن تَتَبَيَّن الشاعرَ مِن نَفَسِه وطريقَتِه والشائعِ من فَنِّه».

فلعل شاكر درس على الشاعر البدوي بهذه الطريقة، أو لعله نصحه أن يدرُسَ الشعر بها، فنبَّهَتْه لما بين شعر الجاهلية الذي ولع به على شيخه المرصفي وبين شعر العصور الأخرى من التباين، وبين شعر كل منهم وغيرهم من الشعراء الذين أتوا بعدهم. لكن يبقى الفضل في ذلك لشيخه الأول في هذا الشأن الشيخ المرصفي، إذ يقول عنه: «وهو الذي أثارني إلى هذا وحرَّكني؛ هو وحده دون سواه».


نظامٌ رياضيٌ لاستقصاء الشعر الجاهلي

كانت هذه المرحلة هي مرحلة النزاع بين العربية والإنجليزية في نفسه، وفي هذا الوقت حُبِّب إليه علم الرياضيات فأتقنها وتوسع فيها وتزود منها، ثم سخرها في دراسة الشعر الجاهلي يقول: «بدأتُ أقرأ ما بقي لدينا من دواوين شعر الجاهليَّة شاعرًا شاعرًا، ثُمَّ أشعارَ مئاتٍ من أهل الجاهليَّة ممَّن لا دواوينَ لهم، أو كانت لهم دواوينُ ولم تقع لي بعدُ دواوينُهم… كلما فرغت من ديوان شاعر بدأت في صحبة شاعر آخر وكلما وجدت لشاعر جاهلي علاقة ما بشاعر جاهلي آخر، صحبت ديوانه بعده أو معه… أوغلْتُ في القراءة وأكثرْتُ ملتزمًا بهذا النظام الذي هداني إليه وَلُوعي بالرياضيات فيما أظنُّ».

كان صاحبنا – قبل أن يوغل في قراءة الشعر الجاهلي – يحفظ المعلقات العشر الجاهلية، ويعرف تاريخها وتاريخ أصحابها ومعانيها، لكن كل ذلك بالنسبة له كان زيادة في ثروة معرفته بالعربية، فلما أوغل في قراءة الشعر الجاهلي ملتزمًا بالنظام الرياضيِّ الذي انْتَهَجَه وأبصرَ فيه ما لم يُبْصِرْه في قراءته منجَّمًا غيرَ مجموع، يقول: «وجدت في الشعر الجاهلي شيئًا لم أكن أجده من قبل وأنا أقرأ الشعر الجاهلي متفرقًا لشعراء مختلفين، عندئذ اختلف علي الأمر، ولم يعد مجرد ثروة أستزيدها في المعرفة بالعربية وبالشعر. بدأت أجد في هذا الشعر الجاهلي شيئًا مبايِنًا مباينةً سافرةً لما في الشعر العباسي كله بل أكبر من ذلك أني افتقدت هذا الشيء أيضًا في أكثر ما قرأت من الشعر الأموي الذي لا يفصل بينه وبين الجاهلية إلا المائة الأولى من التاريخ الهجري».

لم يكن محمود شاكر يستطيع أن يعبر عن هذه الفروق التي أدركها بين الشعر الجاهلي وبين الشعر العربي، فلم يكن يجد في نفسه إلا التذوَّقَ المحضَ والإحساسَ المجرَّدَ، يقول: «وبهذا التذوُّق المتتابع الذي أَلِفْتُه، صار لكل شعرٍ عندي مذاقٌ وطعمٌ وشذًا ورائحةٌ، وصار مذاقُ الشعر الجاهلي وطعمُه وشذاه ورائحتُه بَيِّنًا عندي بل صار تميُّزُ بعضٍ من بعضٍ دالًّا عندي على أصحابه».

وأصبح دأْبُه وعادتُه أن يحدِّثَ شيوخَه وأساتذتَه عمَّا يجدُه في نفسه من هذه المُبايَنَةِ التي تذوقها فرحَّب بذلك بعضُهم وأعرض عنه آخرون، وكان ممَّن يُرحِّب به ويستمع لنشوتِه بالشعر الجاهلي ويتابع تطوُّرَ هذا الذَّوْقِ عنده شيخُه أحمد تيمور باشا، لكنَّ الغريبَ أن شيخَه المرصفيَّ كان من المُعرِضِين عما يقوله شاكر، لكنه لم يَكُفَّ عن الإلحاح عليه، حتى فهم عنه ما كان يعجز عن الإبانة عنه، فأقبل عليه، وأفاده، وسدَّد خطاه.


إعجاز القرآن وشرارات «التذوّق» الأولى

بسبب ولعه المبكّر بالرياضيات، اتبّع محمود شاكر نظامًا رياضيًا متواليًا لاستقصاء الشعر الجاهلي والتوغّل فيه.

لم يكن إدراكه مقتصِرًا على هذا فقط، بل كان يعلم أن الله خص هؤلاء الجاهليين بنزول القرآن عليهم وتحدَّاهم به أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور منه، أو بسورة واحدة؛ وبالرغم من هذه القدرة البيانية في التعبير التي يمتلكونها والتي فاقت مقدرة مَن بعدَهم على البيان، عجزوا عن التحدي، واعترفوا بهذا العجز بل اعترفوا بمباينة القرآن لكلام البشر. لذلك كانت هذه المباينة التي توصل إليها محمود شاكر بين الشعر الجاهلي وبين الشعر العربي بعده هي أهم دليل عنده على إعجاز القرآن، لأن الجاهليين هؤلاء كانوا أقدر العرب على التعبير على كل ما يجيش في الصدور، وبالرغم من ذلك عجزوا واعترفوا بالعجز، فإذا صحَّ ما مضى، دلَّ على مباينة القرآن لكلام البشر، ودلَّ أيضًا على أن العجز عن التحدي في من دون الجاهليين آكَد.

قادت إحاطة محمود شاكر بالشعر الجاهلي إلى التدليل المباشر على إعجاز القرآن الكريم ومباينته لكلام البشر

في سنة 1923 نشرت مجلة كوكب الشرق مقالة بعنوان «عَثَرَات» للشاعر الأديب حسن القاياتي يُفضِّل فيها القول العربي «القَتْلُ أَنْفَى للقَتْلِ» على قول الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتَّقون}، يقول محمود شاكر: «غَلَى الدَّمُ في رأسي حين رأيتُ الكاتِبَ يَلِجُ في تفضيل قول العرب على قول الله تعالى في كتابه الحكيم».

كانت هذه المقالة فرصة لمحمود شاكر ليثبت صحة دليله على إعجاز القرآن، فهمَّ بأن يكتبَ للرد على هذه المقالة، ولكنه أمسك عن الكتابة لما تذكر كاتبه الأثير مصطفى صادق الرافعي، وكان يتابع كل ما يكتبه بنهم وشغف، فكتب إلى الرافعي رسالة غاضبة ساخطة، علّق عليها الرافعي: «قرأت هذا الكتاب فاقشعر جسمي»، ثم كتب الرافعي في الرد على مقالة القاياتي، وفند كل أدلته في تفضيل قول العرب على قول الله تعالى، بل قلبها عليه.

ولكن لعل أهم ما وقع في نفس شاكر من هذه المقالة نفي الرافعي كون هذه العبارة عبارة جاهلية، وطريقته في التدليل على كلامه، وتفضيله قول أبي تمام: «الدم يحرسه الدم» عليها، كان هذا أول ما وقع عليه الفتى من نفي لجاهلية هذه العبارة، وقد نسبها كثير من المتقدمين إلى الجاهلية، وكان هو أيضا يظنها جاهلية، دفعه ذلك للنظر في ظاهرة الانتحال في الأدب العربي، وهي نسبة شعر أو قول لغير قائله أو لغير عصره، فقرأ كتابا كان من أهم الكتب الفارقة الفاصلة في حياته، وهو كتاب طبقات الشعراء – أو طبقات فحول الشعراء كما أثبت شاكر فيما بعد – لابن سلام الجمحي، وهو كتاب يناقش في ثناياه هذه المسألة بدقة، ومناقشة هذه القضية في كتب التراث هي أظهر الأدلة على عناية المتقدمين برواية الشعر الجاهلي ونقد زيفه.

لذلك لما أطلعه شيخه أحمد تيمور في المكتبة السلفية سنة 1925 على مقالة مرجليوث «نشأة الشعر العربي» المنشورة في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية ليقرأه ويبدي رأيه فيه، قال: «لم أُلْقِ بالًا إلى هذا الذي قرأْتُ، وعندي ما عندي من هذا الفرق الواضح بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي».

وهكذا، كانت ومضاتٌ متتابعة آخذة في الحضور عبر ممارسةٍ وصفها شاكر بأنها: «ممارسة جاهلة جافية غامضة بلا منهج صحيح آوي إليه وأستعين به»، ولم تسعفه مع أول محنةٍ حقيقية تختبرها. لذا احتاج إلى أن يتعمق ويغوص في دراسة ما كان درسه من قبل، وفي تذوق ما تذوقه من قبل، لتتحوّل هذه الممارسة الغامضة الأولى إلى منهجٍ ناضجٍ مستوٍ على سوقه؛ منهج «التذوّق».