شاعت الصورة التقليدية للمؤرخين كبشر يدفنون رؤوسهم في الكتب، ويفنون أعمارهم بين أوراق بالية تحوي أحداث الماضي ووقائعه وشخصياته، ويجتنبون السياسة ودروبها. بينما في المقابل اعتاد الناس على صورة السياسي كشخص أنيق الملبس وحسن المظهر وحلو الكلام، أو بالمعنى الدارج رجل علاقات عامة ومناسبات ولا شأن له بدراسة الماضي.

لكن الحقيقة هي كما يصفها أحد أكبر المؤرخين والسياسيين البريطانيين القدامى، «إدوارد أوغسطس فريمان»؛ في مقدمة كتابه الرائع «الهيمنة العثمانية في أوروبا»، أن السياسة والتاريخ لا يمكن التفريق بينهما. فالتاريخ هو سجل لسياسات الماضي، بينما السياسة هي التاريخ الحاضر. وقواعد الحكم على الأفعال والأحداث متماثلة في السياسة والتاريخ، فمعايير الحق والباطل التي نحكم بهما على شيء؛ سنجد أصولها عند الحكم على وقائع التاريخ أو أحداث السياسة.

هذه الحقيقة التي يذكرها فريمان تكشف تواضع وجهة النظر التي يتبناها البعض للسياسة، فهم يظنون السياسة مجرد كفاح غايته دعم بعض المرشحين وإسقاط البعض الآخر. لكن السياسة كما يقررها المؤلف هي علم سامي غايته الحكم والتحكّم الصحيح في البشر والأمم. يقول فريمان:

السياسة تُعلِّمنا كيفية الحكم على الأسباب وآثارها؛ إنها تُعلِّمنا كيف نحكم على طبيعة الأفعال، سواء وقعت بالأمس أو منذ آلاف السنين. فدراسة الماضي تكون دون جدوى إن لم تمنحنا دروساً تُفيدنا في الحاضر؛ والحاضر لن يصبح مفهوماً بشكل كامل أبداً ما لم ينيره ضوء الماضي. وبهذه الوجهة، فإن التاريخ والسياسة هي كلٌ واحد.

ترسبات في الوعي الغربي

كان الحكم العثماني في أوروبا والذي استمر لقرون طويلة قد آل إلى نهاية قاسية، جرفت في طريقها الدولة العثمانية ذاتها وانتهت الأحداث بسقوط الامبراطورية التي حكمت بين الشرق والغرب. ويُقدم كتاب فريمان الأسباب التي أعاقت اندماج الأتراك مع شعوب أوروبا الغربية والشرقية؛ وجعلت الأوروبيين برمتهم يرفضون الحكم العثماني، الذي دخل بلادهم واستمر بها لقرون طوال ولم يندمج بهم أو يُقدِموا هم على استيعابه والاندماج فيه.

وظل للأتراك العثمانيين –على الأقل لعدة قرون مضت قبل تأليف الكتاب– تأثير ضخم على الشئون الغربية والمسيحية أكثر من أي شعب شرقي أو مسلم آخر. وقد أفرد المؤلف كتاباً قبل هذا لتاريخ المسلمين وفتوحاتهم، وأطلق عليهم الاسم الذي كان يُطلق على المسلمين العرب في العصور الوسطى وزمن الحروب الصليبية؛ «ساراسين» (Saracen) وشاع استعماله لدى كُتاب أوروبا المسيحيين في ذلك العصر، وناقش فيه تاريخ الفتوحات والغزوات والأمم المسلمة عامة. ثم تراءى له أن يضع كتاباً منفرداً عن هيمنة العثمانيين وسلطتهم في أوروبا بشكل خاص، ويجنح فيه إلى السياسة أكثر من التاريخ المحض.

ومن الملاحظ أن الأسباب التي أعاقت وتسببت برفض وإسقاط العثمانيين؛ وطرحها المؤلف في سياق عرضه التاريخي للأحداث وتطوراتها وخلفياتها؛ تتشابه إلى حد كبير مع الأسباب الحالية المعوقة لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي في العصر الحديث. وتكشف بوضوح جذور الإسلاموفوبيا؛ التي تظهر أعراضها بين الحين والآخر في أكثر المجتمعات تقدماً وفكراً. كذلك يقدم الكتاب الأصول التاريخية للصراعات التي نشبت في القرن العشرين وما بعده؛ في البوسنة والهرسك وغيرها من دول البلقان.

فرغم ما وصل إليه الفكر الأوروبي من تطور وتقدم علمي وأيديولوجية علمانية مهيمنة، وما حدث على التوازي في تركيا والعالم الإسلامي من تغيرات سياسية واجتماعية وفكرية واقتصادية، والمحاولات الكثيرة من جانبها للتقارب مع أوروبا؛ فإن الأسباب التي قررها المؤلف منذ ما يقارب القرن ونصف من الزمان؛ ما زالت هي المهيمنة على الفكر الغربي بصفة عامة؛ كما لا زالت تشكل الكثير من الترسبات في الوعي الغربي تجاه الشعوب الشرقية المسلمة عامة والتركية خاصة.

مؤرخ متخصص في الشأن العثماني

لا يقدم المؤلف كتابه فقط ليعالج مشكلة تاريخية أو يسرد أحداثاً ووقائع مجردة؛ لكنه يقدم كتاباً سياسياً يناقش ظاهرة فريدة في التاريخ الأوروبي، وعلى أساس تاريخي وفكري. ولم يقم المؤلف بفعل ما يذهب إليه كثير من المؤرخين من سرد التاريخ؛ ثم تركه بين يدي القارئ يحلله أو يفهمه كيف يشاء. بل قصد وتعمد –وهو المهم– أن ينقل رؤيته ووجهة نظره كمؤرخ مخضرم، والتي تعبر عن المجتمع الأوروبي في تعامله مع الإسلام والعثمانيين سابقاً، وما يريد إرساؤه من أسس للعلاقات معهم مستقبلاً.

إدوارد فريمان هو مؤرخ وأستاذ جامعي وسياسي من المملكة المتحدة البريطانية، وكان عضواً في الأكاديمية البافارية (الألمانية) للعلوم والإنسانيات، والأكاديمية الروسية للعلوم، وأكاديمية لينسيان الإيطالية للعلوم. ولد في 2 أغسطس 1823، وتوفي في 16 مارس 1892، وتميزت حياته بوفرة وغزارة كبيرة في الإنتاج العلمي. وقد نشر 239 عملاً متميزاً، أشهرها «تاريخ الغزو النورماني لإنجلترا: أسبابه ونتائجه» ويمثل مرجع كبير في ستة مجلدات نُشرت ما بين 1867–1879، وهو الكتاب الذي ساهم بشكل كبير في صنع شهرته كمؤرخ. كما له الكثير من المقالات والمراجعات المنشورة في الصحف والدوريات المختلفة.

وعلى صعيد التخصص في الشأن العثماني، فقد شغل فريمان منصب أستاذ التاريخ بجامعة أوكسفورد، وكان أستاذاً لعالم الآثار والناشط الاستعماري «آرثر إيفانز»، وتعاون الاثنان -بعد تخرج إيفانز من الجامعة وزواجه من ابنة أستاذه فريمان- في العمل ضد الإمبراطورية العثمانية خاصة في ثورة البلقان على الوجود العثماني عام 1874. وأثناء وجوده في أُكسفورد ترأس فريمان جمعية (Stubbs Society)، وهي مجموعة حصرية من المؤرخين البارزين، واُنتخب عضواً في جمعية الآثار الأمريكية في عام 1885.

ومن ناحية السياسة والعمل الحزبي والسياسي فقد، تداخل فريمان في السياسة وكان أحد مؤيدي اللورد غلادستون، ودخل البرلمان الانجليزي عام 1868، وكانت السياسة الخارجية هي مصب اهتمامه وليست الداخلية. وخدم بـ اللجنة الملكية للمحاكم الكنسية، ولعدة سنوات كان قاضياً نشيطاً بها. كما كان له موقف قوي من اليهود، وحذر دائماً من تعصبهم الديني ومحاولاتهم للسيطرة على العالم.

وسوف نعرض لكتابه «الهيمنة العثمانية في أوروبا: طبيعتها… نموها… انحسارها» في عدد من المقالات، كي نغطي جوانب طرحه لهذا الموضوع ومناقشته لأسباب صعود وسقوط هذه الامبراطورية الكبيرة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.