يتشاجر شابان في مدرسة ثانوية. سب أحدهما الآخر قائلًا أيها اليهودي القذر. المشاجرة في ألمانيا عام 1958. اليهودي المشتوم هو إبراهام ملتسر. يقول إبراهام إن تلك اللحظة هي أول مرة يعرف عن مصطلح معاداة السامية. ويستطرد قائلًا، إنه تعلم لاحقًا في إسرائيل أنه كل شعوب الأرض كارهون دائمًا لليهود.

بهذا السرد الذي يمزج الذاتي بالنظري يصحبنا إبراهام في كتابه «صنع معاداة السامية: أو تحريم نقد إسرائيل» المُقسم إلى ثلاثة أقسام. يسرد في الجزء الأول من الكتاب سيرته الذاتية حتى وصوله إلى إسرائيل عام 1948. في هذا الجزء يخبرنا مليستر كيف استطاع أن يكتشف أن هناك فارقًا بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية. ثم في القسم الثاني بحث معمق في مصطلح معاداة السامية، ممزوجًا ببعض السيرة الذاتية كذلك. أما في القسم الثالث من الكتاب فيقوم إبراهام بنقد عديد من المقالات والتنظيرات لشخصيات يمينية متطرفة تتعلق بمعاداة السامية.

عبر هذه الرحلة الطويلة، في الكتاب الصادر عن المركز العربي للأبحاث ضمن سلسلة ترجمان، يمكننا استخلاص أن ميلستر يرفض بشكل قاطع اعتبار مصطلح معاداة السامية مصطلحًا جامدًا. أو فضاء ثابتًا غير متغير، على حد تعبيره. يرى الرجل أن فكرة معاداة السامية تبدلت كثيرًا مع مرور الزمن. واستطاعت أن تأقلم نفسها مع روح العصر الذي تعيش فيه، ومع القوى السياسية التي تحكم في كل أوان. والأهم أنها عرفت كيف تتواكب مع الاتجاه السائدة في الدول المختلفة والعصور المختلفة.

أما النشأة التاريخية للمصطلح فكانت على يد كتاب معجم الدولة، روتيك فليكشن، الصادر عام 1865. لكن الولادة الحديثة للمصطلح فكانت على يد الصحفي الألماني فليلهم مار. مار أراد أن يقدم تعريفًا لليهود في كتابه انتصار اليهود على الألمانية، فوصفهم بأنهم غرباء شرقيون ينتسبون إلى عرق سام. كما قارنهم مار في هذا الكتاب الشعبوي بالطفيليات. لكن الزخم أخذ يحيط بالمصطلح في فترة الحرب العالمية الأولى، عندما تم اتهام اليهود بخيانة ألمانيا.

الفيلوسامية: حب غير مشروط

في فترة الحرب العالمية الأولى وُلد مصطلح آخر، الطعن في الظهر. المصطلح الذي يُحمل اليهود مسئولية الهزيمة. بالطبع بلغت ذورة استخدام المصطلح في أشد الكتب الموصوفة بمعاداة السامية وهو كتاب كفاحي لأدولف هتلر. في تلك النقطة يضيف ميلستر توضيحًا أن معاداة السامية كانت تتنامى في الفترة ما بين الحربين العالميتين. وهي التي أدت في نهاية المطاف إلى الهولوكوست وإبادة اليهود في أوروبا.

يعود بنا ميلستر هنا إلى المشاجرة التي دارت بينه وبين الشاب الألماني عام 1958. يقول ميلستر إن معاداة السامية جزء لا يتجزأ من الثقافة الغربية. وأنها متجذرة وعميقة وتعود إلى قرون طويلة. يوضح أن تلك المعاداة والكراهية المتزايدة تحولت مؤخرًا إلى كراهية ضد المسلمين. فما يعانيه المسلمون من العالم الغربي حاليًا، في رأيه، كان اليهود يعانون مثله في العصور السابقة.

يستدرك ميلستر في تلك النقطة لتوضيح المصطلح المضاد. مصطلح الفيلوسامية. المصطلح ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، ووُجد لأول مرة في القرن التاسع عشر متوازيًا مع ولادة مصطلح معاداة السامية. الفيلوسامية تعني إظهار الحب والمودة والتعاطف مع السامية. لكن ميلتسر يقول إن عديدًا من اليهود في الأصل يحتقرون هذه النزعة العالمية المفرطة من الفيلوسامية.

ويقول أيضًا إنها نزعة باهتة وساذجة ثقافيًا. كما أنها تقتات على مشاعر الذنب ورغبة الألمان خاصة، والغرب عامةً، في التكفير عن جرائمهم في حق اليهود. لهذا يستنتج أنه من المنطقى وجود عديد من المسيحيين في الدوائر الموالية للسامية، أو في التظاهرات الداعمة لها. لأن هذا الحماس في التأييد، يقابله حماس ماضٍ في المعاداة.

بتلك النظرة يُفسر ميلتسر مواقف عديد من الأحزاب السياسية الغربية، ضرب الرجل المثل بحزب الخُضر في ألمانيا. فتلك الأحزاب تقف متفرجة أمام الانتهاكات الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني. فمهما تكن الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل. وأيًا كانت تجاوزات إسرائيل للقانون الدولي، فإن تلك الأحزاب تناصر إسرائيل إيمانًا، أو أملًا، أنهم يقفون في الجانب الصحيح من التاريخ هذه المرة.

الفارق بين الصهيونية والسامية

يتسع ميلتسر في النقاش ليضع مصطلحي الصهيونية ومعادة السامية تحت مجهره. فيقول ميلتسر، السمرقندي المولود في أوزبكستان، إن الصهيوينة تحتاج بشدة لهذا الرعب المحيط  بمعاداة السامية.ويشير أيضًا إلى أنه من السخيف تصوير معادة السامية والصهيونية باعتبارهما أيديولوجيتين متناقضتين أو حتى متنازعتين. بل يخدم بعضهما الآخر

يُدعم رأيه بالحديث عن نغمة معاداة السامية التي انتشرت بقوة في ألمانيا مؤخرًا. يقول الرجل إن الهدف منها هو الوصول إلى حالة يكون فيها النقد لإسرائيل محدودًا جدًا. ويتردد أي شخص في نقد الصهيونية. رغم أنه يقول إن مناهضة الصهيونية ليست معاداة للسامية، لكنها رفض للقومية اليهودية الإسرائيلية الحالية. لكن بما أن الجميع خائف من معاداة السامية، فلا يوجد مكان لوجهة النظر الفلسطينية في ألمانيا.

لأن رجال الإعلام والسياسة، الجميع بتعبير آخر، يقفون بإخلاص شديد، وبصورة عمياء غالب الوقت، إلى جانب إسرائيل، ويمنعون أي نقد موضوعي أو غير موضوعي ضدها. رغم أن ميلستر يرى أن الصهيونية أساسًا هى أيديولوجيا شوفنية وعنصرية وكولونيالية توسعية. وأنها بعد مرور أكثر من 50 عامًا على حرب يونيو/ حزيران عام 1967 قد أثبتت إسرائيل أنها دولة فصل عنصري، أبارتهايد.

 تلك الحقائق ساقها مليتشر للقول، إنه يمكن نقد الصهيوينة من ألف زاوية، ويكفي ما تفعله إسرائيل بأكثر من منظور، لكن كل تلك الزوايا مسدودة بالرهاب من الوقوع في آتون معاداة السامية. ويبدو أن ميلتسر هو الآخر شعر بالتردد قليلًا، فقال في موضع آخر من الكتاب، إن إسرائيل ليست أسوأ دولة في العالم من حيث انتهاك حقوق الإنسان. وإنها وضع دائم على الفلسطينيين التعايش معه.

 لكن عاد في موضع لاحق ليؤكد أنه ربما تكون كوريا الشمالية أسوأ في انتهاكات حقوق الإنسان من إسرائيل. لكن الفارق أنه لولا حماية الولايات المتحدة الأمريكية غير المشروطة لإسرائيل لما استطاعت إسرائيل الاستمرار في نهجهها الاستيطاني بهذه الفجاجة والقوة. ويشدد ميلتسر مرة أخرى أن طبيعة الصهيوينة منذ لحظة ولادتها هي طبيعة كولونيالية تهدف إلى سرقة أراضي الفلسطينيين وطردهم منها. فهذا الفعل ممتزج بجوهر الصهيوينة لذا لا يتوقع أن تتخلى عنه إسرائيل.

أوروبا تصدر معاداة السامية

يبدو أن مشاجرة ميلتسر واتهامه بأنه يهودي قذر لا تفارق خياله. الرجل يستعيد الحدث مؤكدًا أنه أثّر فيه تأثيرًا عميقًا وأنه كشف له أشياء لم يكن يدركها. من تلك الأشياء تطرقه لموقف رئيس المجلس المركزي لليهود في ألمانيا، جوزيف شوستر. الأخير صرّح عام 2005، في فترة ذورة أزمة توافد لاجئ الشرق الأوسط للدول الأوروبية، بأن الألمان يستقبلون اللاجئين ويستوردون معهم معاداة السامية.

يرد عليه ميلتسر بأن الحقيقة تقول إنه لا ألمانيا ولا أوروبا بكاملها تحتاج لاستيراد معاداة السامية من أي مكان. فالرجل يرى أن ألمانيا وأوروبا قامتا لمدة طويلة من عمر التاريخ الحديث بتصدير معاداة السامية للعالم. ويعيد الرجل التأكيد على أن معاداة السامية في جوهرها وحقيقتها ليست إلا منتجًا أوروبيًا مسيحيًا. فكان ظهوره الأول في أوروبا، وترعرع وتغذى في أوروبا.  لاحقًا يؤكد ميلتسر تلك الحقيقة نافيًا أن تكون معاداة السامية منتجًا عربيًا أو إسلاميًا. وإنما صُنعت في فضاء مسيحي أوروبي. وفي كنف ورعاية الكنيسة الكاثوليكية.

عبر سرد عديد من مواقف حياته يعود الرجل مرة أخرى للحديث عن مصطلح الصهيونية ومعاداة السامية معًا. فهو يرى أن وضع الصهيونية في نفس الكفة مع معاداة السامية ليس ابتذالًا واضحًا. وصفها في موضع لاحق بأنها عملية مخزية. ثم بعد عديد من الصفحات يعود الرجل ليوضح أن هذا الابتذال والخزي ينبع من المساواة بين الاثنين يغتال حرية التعبير. وأن المساواة بين المصطلحين ليست إلا حيلة قمعية لا تتماشى مع التوجه الغربي المقدس لحرية الرأي والنقد.

فيقول ميلتسر، إنه يمكن أن يكون الشخص اليهودي صهيونيًا، لكن يمكن أن الشخص اليهودي معاديًا للصهيونية أيضًا. فلا يجعل ذلك اليهودي معاديًا للسامية. ويستطرد ميلتسر موضحًا أن رفض الأيديولوجيا أمر طبيعي، وحق لأي فرد، في مجال السياسة.

حركة مقاطعة إسرائيل

في قسمه الأخير من الكتاب يحاول ميلتسر أن يفند عديدًا من الأدبيات التي تربط بين معاداة السامية والصهيونية. من تلك الحركات منح الرجل مجالًا أكبر لحركة معادي الألمان. الحركة معروفة بأنها تصطف مع إسرائيل اصطفافًا أعمى. وتعارض كل من يعارض الصهيونية أيًا كانت مواقفه الأخرى. كما تُمجد تلك الحركة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية بوصفهما، كما ترى الحركة، حاملتي لواء الحرية الحضارة الإنسانية.

لكن حين يتعمق الرجل في معرفة الحركة يكتشف أنها الشيء المشترك بين عديد من أعضائها هو الرهاب من الإسلام وكراهية العرب. لهذا فهي حركة عنصرية قومية ليس إلا. كما أنها في نظر الرجل جماعة تحمل عقدة الذنب تجاه اليهود. هذا الذنب جعلها تتصرف بحمق وشذوذ، على حد وصف مليتسر. فمعاداتهم للألمان، وميلهم المفرط لإسرائيل، ليس إلا نتيجة حتمية لرفضهم الأعمى لمعاداة السامية، فمعاداة السامية هي أعظم شرور العالم، ولا يمكن ارتكاب ما هو أفظع منها.

بالطبع لا يمكن أن يكون الحديث عن معاداة السامية ولا يتم التطرق إلى حركة مقاطعة إسرائيل، بي دي إس. يرصد مليتسر تاريخ موجز للحركة التي أسستها مجموعة من المنظمات المدنية الفلسطينية عام 2005. ثم تحولت إلى حركة عالمية للضغط السلمي على إسرائيل. لكنه ضغط لا لإنهاء الاحتلال، يؤكد الرجل مرة أخرى أن إسرائيل وضع دائم، لكن لتمتثل إسرائيل بالقوانين الدولية والإنسانية. يعد ذلك في نظره تراجعًا نوعًا ما عن هدف الحركة الأول الذي كان يطمح لفرض عقوبات حقيقية على إسرائيل وسحب الاستثمارات منها.

يخرج ميلتسر من هذه النقطة سريعًا ليناقش ما يهمه حقًا، التعاطي الغربي مع تلك المنظمة. فتعاملهم معها كان مخالفًا تمامًا لتعاملهم مع الحملات التي قامت ضد الفصل العنصري في دولة مثل جنوب أفريقيا. أو حركات الحقوق المدنية التي تشهد الولايات المتحدة نشاطها بين الحين والآخر. هذا التعامل لم يكن مجرد عدم الاستجابة للمطالب، بل وصل في بعض الدول إلى تجريم الحركة وقمعها وسن قوانين تحد من دورها.

حق إسرائيل في الوجود

تمهيدًا لاستخلاص نهائي ينظر ميلتسر نظرة أكثر خصوصية لموقف الأحزاب الألمانية من حركة مقاطعة إسرائيل. فوجد أنهم يشبهونها بأنها امتداد للحقبة النازية. ففي تلك الحقبة طُلب من الألمان عدم التعامل أو الشراء من اليهود. تلك المقارنة يصفها مليتسر بأنها مقارنة خداعة وسخيفة وغير منضبطة تاريخيًا ولا منطقيًا.

في تلك النقطة يعود مليتسر، المولود عام 1945، للتوضيح أن ثمة فارقًا بين اليهودية والصهيونية. وينطلق من هذا التوضيح إلى بيان أن النازية قاطعت بشرًا لأنهم يهود فحسب. لكن حركة مقاطعة إسرائيل لا تقاطع اليهود، بل تقاطع الصهيونية وما تمثله إسرائيل الكولونيالية. لكنه في النهاية يعيد للتأكيد ليس على ما ذكره في هذا الكتاب تحديدًا، بل في غالبية مؤلفاته التي تتمحور حول نقد السياسة الإسرائيلية في الشرق الأوسط، يؤكد أن مقاطعة الصهيونية باعتبارها أيديولوجيا عنصرية فاشية ليس بالضرورة معاداة لليهود كمجموعة دينية.

 وإن كراهية اليهود كمجموعة دينية مصدرها الكنيسة الغربية. لأنه في الشرق الأوسط لا يضيرك أن تكون يهوديًا ما دمت لست صهيونيًا، لكن في الكنيسة الأوروبية يجب أن تتخلى عن يهوديتك بالكامل كي تحتضنك الكنيسة. وهو ما قاله هاينرش هاينه في أمر مشابه، حين وصف أن التخلص من اليهودية واعتناق المسيحية كان بمثابة تذكرة الدخول إلى الثقافة الأوروبية.

يستدرك ميلتسر ما قاله مجملًا في بداية كلامه ويوضحه بتفصيل أكثر. فهو لا يكره إسرائيل، ولا يحبها. فهى كما يقول دولة مثل باقي دول العالم، ليست وطنه الأصلي، بالتالي لا شعور خاص لديه تجاهه. ثم يؤكد أنه لا يعارض حق إسرائيل في الوجود، لكنه يطالب بحق وحق الآخرين في انتقاد سياستها. فهو، كما يقول، لا يطالب إسرائيل بأي مطالب أخلاقية خاصة لا يطالب بها أي دولة أخرى. كما لا يتوقع منها أن تتصرف بأخلاقية أكبر من باقي دول العالم، لكن فقط يريد منها أن تتصرف وفقًا للقانون الدولي.